المصالح التحسينية ونقاب الفتاة الصغيرة

16 أكتوبر 2020 21:24
د. بنكيران تعليقا على ندوة الحريات الفردية الممولة من طرف الاتحاد الأوروبي: قل لي من الممول أقول لك ماذا يحاك لك ويخطط لك

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

يدل مصطلح “التحسينيات” على مرتبة من مراتب مقاصد الشريعة أو على أدنى نوع من المصالح الشرعية، فقد درج العلماء على تقسيم المصالح الشرعية باعتبار قوتها وأثرها على حياة المكلفين إلى ثلاثة أنواع؛ مصالح ضرورية أو الضروريات، ومصالح حاجية او الحاجيات، ومصالح تحسينية أو التحسينيات. وينتج على فقدان مصلحة معينة تـنتمي إلى إحدى هذه المصالح مفاسد تكبر أو تصغر حسب موقعها ورتبتها والدائرة التي تتموقع فيها.

وفي هذا المقال سنقف على مرتبة التحسينيات لكي نبين ماهيتها ووظائفها ومنهاج الشرع في التعامل عند الموازنة مع غيرها من المصالح.

والسبب في الحديث عن التحسينيات بالذات هو ما رأيته عند بعض الدعاة من سوء فهم لهذه المرتبة إذ ظن منهم أن تسكين عمل ما في التحسينيات كالنقاب مثلا هو تصنيفه حتما في باب العادة، ومنهم من ظن أن تسكينه فيها هو حكم عليه أنه مستحب يقابل الواجب، ومنهم من ظن أن تسكين النقاب في التحسينيات هو تهوين لحكمه، وهذا أبعد التصورات وأقبح التصديقات.

مفهوم التحسينيات

تنوعت عبارات العلماء في التعريف بالتحسينيات مع الاتفاق على المعنى العام من المراد منها ، نسوق منها ثلاتة
تعاريف:

1 ـ يقول أبو المعالي الجويني (ت: 478هـ): “ما لا يتعلق بضرورة حاقة ولا حاجة عامة، ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وأزالة الخبث” البرهان في أصول الفقه (2/ 603).

2 ـ يقول فخر الرازي (ت: 606هـ) : “وأما التي لا تكون في محل الضرورة ولا الحاجة فهي التي تجري مجرى التحسينات وهي: تقرير الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم” . المحصول للرازي (5/ 222).

3 ـ قال أبو إسحاق الشاطبي (ت: 790هـ): “وأما التحسينات، فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات3، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق”. الموافقات (2/ 22).

إذا تأملنا التعاريف الثلاثة نلاحظ أنها غير متعارضة فيما بينها، وبعضها يؤكد ما جاء في البعض الآخر أو يتممه، ويعد تعريف الشاطبي هو أشملها وأدقها، ويمكن أن نستخلص من مجموع تلك التعاريف أن التحسينيات:

ـ منها ما يتعلق بالعادات الحسنة، وما تقره العقول الراجحة من الأعراف، وهو ما نص عليه الشاطبي؛

ـ منها يتعلق بالأداب الحسنة ومكارم الأخلاق وتزكية النفس وتهذيبها، وقد اتفقت التعاريف الثلاثة على ذلك ؛

ـ منها ما يتعلق بالعبادات ، وهو ما دل عليه المثال الذي ضربه الجويني بطهارة الحدث، وطهارة الحدث هي عبادة كما جاء في الحديث النبوي الشريف الصحيح “الطهور نصف الإيمان” سواء كان المراد بها الطهارة من الحدث الأصغر أو الطهارة من الحدث الأكبر، أي الوضوء أو الغُسل. وهذا فيه رد وبيان لمن تصور أن التحسينيات تجري فقط في العادات، وظن أن وصف أمر ما أنه تحسيني كالنقاب مثلا هو حكم عليه بأنه عادة وليس عبادة أو طاعة.

وشمول التحسينيات لمجال العبادات أمر مقرر عند العلماء ، وقد جلى الشاطبي هذا الأمر أكثر في تتمة شرحه للتحسينيات فقال : “وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان”.

قلت: والمقصود ب”الأوليان” االضروريات والحاجيات وهما يجران ـ كما هو معلوم ومقرر ـ في العبادات والمعاملات والعادات والجنايات، وفي مجاالات الدين كلها ، فكذلك التحسينيات تجري فيما تجري فيه الضروريات والحاجيات.
ثم ضرب الشاطبي أمثلة للتحسينيات في مجال العبادات فقال: “ففي العبادات: كإزالة النجاسة -وبالجملة الطهارات كلها- وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات، وأشباه ذلك”.

نستفيد كذلك من توضيح الشاطبي أمرين آخرين فيهما بيان ورد على ما سبق ذكره من سوء فهم للتحسينيات:
الأول منهما:

أن التحسينيات لا تقابل حكم الواجب، أي أنه ليس كل ما هو تحسيني هو حتما ليس واجبا، بل قد يكون منه ما هو واجب، وقد يكون منه ما هو مستحب، وقد يكون منه ما هو شرط صحة في عبادة ما، فإذا كان التقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات من العبادات المستحبة فإن إزالة النجاسة واجبة، ورفع الحدث بالوضوء أو الغسل واجب كذلك، وهو شرط في صحة الصلاة، فإطلاق الوصف على أمر ما أنه تحسيني لا يعني دوما أنه مستحب، بل قد يكون الشارع أمر به على وجه الحتم واللزوم. كما أن تسكين أمر ما أنه من الحاجيات التي هي أعلى مرتبة من التحسينيات لا يدل على وجوبه على المكلف دوما ، فالنظر إلى المخطوبة مثلا هو من الحاجيات وحكمه يدور بين الاستحباب والإباحة، وقول الصدق هو من التحسينيات باعتبار أنه من مكارم الأخلاق وحكمه الوجوب وضده الكذب وهو حرام، فلا تقابل بين التحسينيات والواجبات.

والثاني:

أن تسكين أمر ما في مرتبة التحسينيات ليس تهوينا لحكمه أو تبخيسا له، فستر العورة مثلا هو شرط في صحة الصلاة، وهو من الواحبات الأكيدة، ورغم ذلك كان مرتبته في سلم المصالح الشرعية ضمن التحسينيات. وإذا كان ستر وجه المرأة أو لباس النقاب خارج الصلاة يدور بين الاستحباب والوجوب حسب الخلاف المشهور والاستحباب هو مذهب الجمهور ، فستر العورة متفق على وجوبه ولا خلاف فيه، فهل يعقل أن يكون الشاطبي قصد تهوين من حكم ستر العورة وقبله الجويني وغيره من العلماء ؟؟ فهل تسكين ستر العورة في التحسنيات تهوين من أمرها ؟؟ وهل يعقل كذلك أن يقصد العلماء تهوين من حكم الوضوء أو حكم الغسل باعتبار أنهما أدرجا ضمن التحسينيات؟؟ الجواب عن هذه التساؤلات واضح.

ولهذا ، حنيما نقول أن النقاب من التحسينيات فهذا ليس تحقيرا له أو تهوينا لحكمه، وإنما هو وضعه في منزلته التي أرادها له الشرع من حيث المصلحة الشرعية، فإذا كان ستر العورة من التحسينيات فستر وجه المرأة من باب أولى أن يكون من المصالح التحسينية ولا مجال للمقارنة بينهما. فمن استنكر تسكين النقاب في المصالح التحسينية ورأه تهوينا لحكمه فهو بعيد أن يعرف حكم الشرع في مسائل تتعارض فيها المصالح والمفاسد أو المصالح فيما بينها أو المفاسد، فالفقه الحقيقي هو معرفة خير الخيرين عند تعارض الخيرين لا يمكن فعل أحدهما إلا بتفويت الآخر الأدنى، والفقه الحقيقي هو معرفة شر الشرين عند تعارض الشرين لا يمكن تجنب أحدهما إلا بارتكاب الآخر الأدنى، أما معرفة الخير لوحده أو معرفة الشر لوحده فكثير من الناس يشاركون الفقيه في معرفته، ولا يسمون بذلك فقهاء، أو ما حصلوه من المعرفة ليس بالفقه الكامل الكافي عند تعارض المصالح.

والجدير بالإشارة أن تسكين أوامر الشرع ومنهاياته في مراتب المصالح لا يكون بالهوى والتشهي، وإنما يكون وفق منهاج محكم سطّره العلماء بعد تأمل ونظر في نصوص الشريعة واستقراء أحكامها واستنباط عللها ومقاصدها، فمردّ ذلك ـ حقيقة ـ إلى الشرع وإن كان بنوع من الاجتهاد من طرف العلماء المؤهلين لذلك، ولهذا لا تجد العلماء يختلفون في تحديد فروع مراتب المصالح إلا شيئا يسيرا لا يكاد يؤثر في مصداقياتها وصوابها ،أما أصول المصالح فهي قطعية ثابتة ولا خلاف في ذلك، يقول الشاطبي” الموافقات (2/ 81): ” أن هذه القواعد الثلاث ـ أي المصالح الضرورية والمصالح الحاجية والمصالح التحسينية ـ لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع، وأن اعتبارها مقصود للشارع. ودليل ذلك استقراء الشريعة”اهـ

ومن مظاهر اعتبار الشرع لتلك القواعد الثلاث عدم الخلط بين مراتبها وكذلك تقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير عند التعارض فيما بينها وهو ما سيأتي الحديث عنه في الفقرة الأتية بعنوان فوائد معرفة مراتب المصالح.

فوائد معرفة مراتب المصالح

لتقسيم المصالح الشرعية باعتبار قوتها وأثرها فوائد، سوف نتعرض لها في مقال آخر وكذلك نعرج على نازلة نقاب الفتاة الصغيرة.

يتبع إن شاء الله تعالى..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M