المصلحة الشرعية في ترك العلماء والدعاة الترشح في الانتخابات البرلمانية

25 سبتمبر 2016 23:48
المصلحة الشرعية في ترك العلماء والدعاة الترشح في الانتخابات البرلمانية

هوية بريس – د. رشيد بنكيران

بداية، يجب أن نقرر هذا الأصل الأصيل في الإسلام أو في شريعة الله عموماً، وهو أن المجال السياسي أو السياسة هي من الدين، فلا دين دون سياسة، ولا سياسة دون دين، ولهذا كان أولى الناس بالعمل السياسي هم أعلم الناس بالدين؛ وهم الأنبياء والرسل، ثم العلماء الذين ورثوا إرثهم. يشهد لهذا الأصل أدلة كثيرة، من بينها ما جاء في الصحيحين مرفوعا: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِىٌّ خَلَفَهُ نَبِىٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى..»، وفي الحديث الصحيح المرفوع: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». لكن يحسن بنا أن نلفت انتباه القارئ الكريم هو أن المجال السياسي أو السياسة الشرعية هي أكثر تشعبا في حياة الناس وأوسع علاقة بواقعهم، فالسياسة هي: “ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي” فجلب الصلاح باختلافه مظاهره من إقام العدل، وتحسين ظروف العيش، وتخليق سلوك الناس.. هو من المجال السياسي، ورفع الفساد بأشكاله المتنوعة من تكريس الظلم والاستبداد، وانتشار اقتصاد الريع، والتطبيع مع الإباحية.. هو أيضا من المجال السياسي، فلا غرو أن يكون الأعلم بشرع الله هو الأقدر على سياسة الناس. لكن العالم الذي نقصده بكلامنا هو من اتصف بالأوصاف التي تؤهله لتحقيق النماط في المجال السياسي والغوص فيه، والتي قد نختصرها في وصفين اثنين جامعين لأن الموطن لا يتسع إلى البسط، الأول منهما: فهم الواقع المعيش والواجب الشرعي فيه، والثاني: قدرة التأليف بين الواقع والواجب ورفع الخصومة بينهما قدر المستطاع.

ولهذا، كان من رام من أهل العلم إلى إبعاد العالم الشرعي والداعي إلى الله عن المجال السياسي فقد وقع في عَلمانية خبيثة -من حيث لا يدري- لا يشهد لها شرع ولا يقرها عقل ويفندها التاريخ العريق للأمة الإسلامية.

لكن تساؤلنا سنخصصه في نوع خاص من المجال الساسي الحديث؛ وهو خوض العالم أو الداعية إلى الله غمار الانتخابات البرلمانية، والجواب عن هذا التساؤل -حقيقة- هو فرع عن أصل يتعلق بحكم المشاركة السياسية للمسلم واختيار الأصلح في ظل الديمقراطية المعولمة، فمن منع الأصل بحجة أن الديمقراطية من الباطل وهي مخالفة لقواعد الشرع الحنيف، وما بني على باطل فهو باطل، فمن كان كذلك فلا حاجة له بنا أن نحاوره في الفرع ما دام الأصل عنده قد انهدم.

ونحن أيضا نعتقد أن الديمقراطية -من حيث الأصل- هي من الباطل فلسفة كانت أو آلة، إلا أن قواعد المصلحة والمفسدة توجب علينا أو تستحب لنا -في واقعنا اليوم بما يحمل هذا اللفظ من معنى- المشاركة السياسية واختيار الأصلح من المنتخبين قصد جلب الخير ما أمكن و التقليل من الشر. وبهذا، فالمشاركة السياسية من عدمها هي مسألة ظنية اجتهادية تتجاذبها الآراء والظنون، ولا تضييق على ما وسعه الله تعالى، فلا نعيب على من قال بالمشاركة، ولا نستهزئ بمن قال بالمقاطعة، ما دام لكلا الطرفين حجة ونظر والقصد هو ابتغاء مرضاة الله سبحانه.

وبناء عليه، فلا مانع -من حيث الدليل أو التقعيد- من أن يشارك العالم والداعية إلى الله تعالى في المجال السياسي ترشحا في الانتخابات وخوضا غمارها، ولا يخرجه عمله ذاك من كونه سلفيا من أهل السنة والجماعة وأهل الاستقامة، قلت: لا مانع.. إلا إذا كان في دخوله إلى البرلمان مثلا مفاسدُ تربو عن المصالح المرجوة، وهذا ما نرجحه بدليل الواقع والمشاهدة، وبيان ذلك:

– إن للديمقراطية مبادئ وشروطا تلزم من يركبها ليستفيد من إمكانياتها -ومنها الدخول إلى البرلمان- خطابا خاصا يتنافى أحيانا -إما كليا أو جزئيا- مع الشرع الحكيم، والعالم من حيث موطنه من الله ومن الناس، فهو مثل المترجم عن الله سبحانه إليهم، والداعية من حيث وظيفته هو مبلغ عن الله وحجته بين عباده، فليس لهما فسحة في ترك الجهل الأكبر المنافي لحقائق الإيمان يتنشر بين الناس، وليس لهما سعة في السكوت عن مفاهيم الباطل والزور، وقد رأينا وشهدنا كيف آل بمن ركب موجة المشاركة السياسة في البرلمان أنه سكت عن أمور مصادمة لأصول الدين مثل حق التشريع، والولاء والبراء، ومفهوم الجهاد والمواطنة، وغيرها من الأصول والكليات، بل وجدنا من الساسة الإسلاميين العاطفيين من يروج لتلك المفاهيم الباطلة بدعوى أن المصلحة تقتضي ذلك، ولاشك أن العالم الصادق والداعية المخلص لن يصدر منهما ذلك، ولكن سكوتهما فقط وتمرير تلك المفاهيم لضرورة المنصب في البرلمان مفسدته على الأمة أشد من أي مفسدة أخرى، فيجب أن نقرق بين العالم والداعية وبين الرجل المثقف الإسلامي الذي لا ينظر إليه الناس أنه مبلغ عن الله ومترجم له، فمفسدة الثاني المترتبة عن سكوته ليست مثل مفسدة الأول المتربة عن سكوته؛ لأن الأمة تقتدي بعلمائها ودعاتها كما تقتضي برسلها وأنبيائها، وأي مفسدة في ميزان الشرع أشد من تلبيس الحق على الناس حتى يختلط عليهم.

– سبق أن خاض هذه التجربة بعض العلماء الأمة مثل عبد الباري الزمزمي وعبد العزيز بن الصديق رحمهما الله وغيرهما، ولكن من حقنا أن نسائل أنفسنا عن الإضافة النوعية الإيجابية التي أسفرت عنها هذه التجربة، وليس الغرض من هذا التساؤل هو الدخول في تقييم عطائهما الشخصي داخل قبة البرلمان؛ لأن هذا غير مفيد فيما نحن نحاول شرحه والله أعلم بهما، وإنما الغرض ماذا قدم هذان الرجلان باعتبارهما من العلماء والدعاة إلى الله حينما شاركا بهذه الصفة؟! وهل تميز عطاؤهما السياسي عن الرجل الإسلامي الصالح؟!

هذا ما نسعى إلى تسليط الضوء عليه كما يقال، فلا تجد شيئا يذكر له بال بخصوص هذا الشأن، وأنا أذكر مثالا أقرب به فكرتي، وهو ما وقع مؤخرا في البرلمان التونسي حينما أرادوا تمرير قانون ينص على “تجريم بالسجن والغرامة المالية من يصف الملحد بالكافر”، فقام الرجل الشهم إبراهيم القصاص -الذي قد نصفه من عامة الناس- أمام هذا الباطل وحاربه، وكان من محاسن الأشياء التي قام بها هو قوله أمام الملأ إنه سأل العلماء عن هذا القانون فقالوا له إنه لا يجوز وتحريف للدين أو ما شابه، فدور العالم يجب أن يكون محررا من كل القيود التي من شأنها أن تمنعه قول الحق والصدع به، وليس فقط أن يرفع يده في البرلمان رافضا الباطل فإذا ما مررته الأغلبية سكت وخنع.

– إذا كان الواقع يشكو قلة الساسة المصلحين، فإنه أشد شكوى من قلة العلماء والدعاة الربانيين، والسياسة اليوم تأخذ من الوقت ما يصعب معها القيام بالدور الذي تحمله العالم والداعي إلى الله تعالى، فلا يصح في باب الموازنة الشرعية أن يشتغل العالم بما جاء عن الشرع تبعاً ويقصر فيما تحمّله أصالةً. ولهذا لا نتردد في القول إن العمل السياسي داخل قبة البرلمان بهذا الاعتبار سيكون مفسدة محققة، وخصوصا أن العمل الدعوي اليوم أصبح بدوره يتطلب تفرغا وتدبيرا محكما ينتقل به أهل العلم والدعوة من العمل الفردي المرتجل إلى العمل المؤسساتي المتقن، وجمع الرجل الواحد بين المجالين أي الدعوي والبرلماني – في الغالب – سيؤول إلى التفريط في أحدهما، وأكثرهما تضررا هو المجال الدعوي لسحر السياسة ونعومتها، ولا يخفى على الجميع أن طبيعة التصرفات السياسية تقتضي في مواطن الحزم بينما في باب الدعوة تدعو إلى التدرج والمرونة، وقد يكون العكس صحيحا في مواطن أخرى أحيانا، وهذا الاختلاف بين المجالين نابع من خصوصية كليهما التي قد تصل إلى حد النقيضين، فالسياسة اليوم -نظرا لضعف الأمة والحركة الإسلامية جزء منها- تحتاج إلى مداراة ومداهنة وخطاب في العمومات وفق ميزان الشرع، وتأبى الدعوة إلى الله هذه الوسائل إلا لمما يسيرا جدا .

ونحن إذ بدى لنا أن المصلحة الشرعية في عدم ترشح العالم أو الداعية إلى الله في الانتخابات البرلمانية، فلابد أن نصرح أيضا أن حضورهما في المجال السياسي ضروري، وأن علاقة الدعوي بالسياسي هي علاقة ضرورية، ولا ينبغي أن تغيب هذه الحقيقة عن عقل الحركة الإسلامية حتى لا تقع تصدعات في جسمها، ولنا في الحركة السلفية (أقصد السلفيين) مثل صارخ يظهر مدى عمق الجراح في صفوفها لما غفلت عن ارتباط الدعوي بالسياسي، والصورة المثالية التي يجب أن تكون عليه علاقة الدعوي بالسياسي هي علاقة تكاملية، يخدم بعضها بعضا، على أساس أن تكون الدعوة إلى الله هي الأصل والأم، والسياسة هي الفرع والبنت، حتى لا تلد الأمة ربتها بل تبر البنت أمها، وقد نبه بعض العلماء المصلحين مثل الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله الى خطورة قلب هذا الأساس وأشار في كتابين له (التضخم السياسي، والأخطاء الست للحركة الإسلامية) الى المفاسد المترتبة عن هذا القلب والخلط، وما نراه اليوم من المظاهر المشينة بحركة الإصلاح والتوحيد الدعوية وجناحها السياسي حزب العدالة والتنمية إلا انعكاس لتغول الساسي على حساب الدعوي، والله تعالى أعلا وأعلم.

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. إذا كانت المصلحة كذلك .
    العلماء والدعاة يتركوا السياسة فأين هم من الدعوة في الواقع المغربي. أين إنكار المنكر و الأمر بالمعروف. و ترشيد الناس لدينهم و بيان الحق. لا نراهم إلا و هم أسود على إخوانهم. و….
    أم استهوتهم الكتابة خلف صفحات الانترنيت و التعاليق. واصبح كل عاام و داعي له منبر .وتركوا النزول إلى الشارع و الأسواق. و تعليم الناس لدينهم.
    الدعاة و العلماء هم صمام و أمان الأمة. مكانهم في السياسة و الاقتصاد و التعليم و الصحة و الصحافة. .ووو. فلنعد لقراءة التاريخ. من كان يسير أمور الأمة .

  2. مقال بعيد جدا عن الواقع ، وكأن صاحبه في كوكب آخر ولا يعلم أن العلماء لا يسمح لهم حتى التكلم في المنابر التي هي مكانهم فكيف بدخول البرلمان وإنكار المنكر فيه ؟؟ ومنع القباج خير دليل .
    لا لأخونة السلفية

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M