المَسْجِدُ الأَقْصَى قَضِيَّةُ أُمَّةٍ لَا قَضِيَّة قَوْمِيَّة

24 مايو 2021 12:37
التّدَيُّنُ وَالتَّعْلِيمُ وَظَاهِرَةُ التّطَرُّفِ الدِّينِيِّ

هوية بريس – ذ. عبد الله كوعلي

إن الصراع القائم حول المسجد الأقصى على الخصوص، وعلى بيت المقدس وبلاد فلسطين على العموم، صراع طويل، يمتد إلى الماضي السحيق، وهو صراع دائر بين أتباع الديانات الثلاث، المسيحية والإسلامية واليهودية، وإن كانت هذه الأخيرة هي الأكثر تجبرا في الأرض المباركة وفسادا فيها. فماهي أبعاد الصراع الدائر حول القدس وفلسطين؟ وما مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين؟ وكيف يمكن إخراج القضية، من ضيق القومية العربية إلى سعة الأمة الإسلامية؟

أولا: البعد الديني لقضية فلسطين والقدس الشريف.

مما لا ينبغي أن يظنَّه أحد، أن هذا الصراع الجاري حول القدس الشريف صراع حول الأرض كأي أرض، أو الغرض منه التوسع الجغرافي المحض، بعيدا عن خصوصية المكان. إنما الأمر أكبر من ذلك، إنه صراع ديني بالدرجة الأولى، لحيازة تلك البقعة المباركة تحديدا، ولا يغني عنها غيرُها من البقاع فوق أرض الله الواسعة. يستمد هذا الصراع القديم المتجدد بقاءه من المعتقدات التي يؤمن بها كل طرف تجاه أرض فلسطين، كما يستمد أيضا قوته من النصوص الدينية التي بين يدي كل فئه من تلك الفئات المتصارعة، ولا يضر الفئه المُفسدة أن تكون كتبها ونصوصها محرَّفة من لدن أجدادهم وأسلافهم. قال تعالى: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [النساء/86].

ويستمد المسجد الأقصى مكانته عندنا – نحن المسلمين- من نصوص الوحي، القرآنية والحديثية، ومن العديد من الوقائع التاريخية التي تجعل بيت المقدس أرض مقدسة في الدين الإسلامي الحنيف، مما يرفع الأمر إلى مستوى القضية العقيدية لا قضية أرض فقط. وبيان ذلك كما يلي:

-تذكر الأحاديث النبوية الصحيحة أن بين بناء المسجد الحرام بمكة وبناء المسجد الأقصى بفلسطين، حوالي أربعون عاما، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قُلتُ: يا رَسول اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِد وُضِع أَوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ. قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصَى. قُلتُ: كَمْ كانَ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أَرْبَعُونَ، ثُمّ قالَ: حَيْثُم اأَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، والأرْضُ لكَ مَسْجِدٌ” [البخاري/3425] والذي بنى المسجدين هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، الذي يعد المسلمون أقرب الناس إليه من غيرهم، قال الله تعالى: “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” [آل عمران/68].

-لقد جعل الله عز وجل بيت المقدس مَسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى سدرة المنتهى، وخلَّد ذكرَ هذه المعجزة العظيمة عند المسلمين في التنزيل الحكيم، وأكرمه الله تعالى بأن صلى بالأنبياء إماماًلهم في المسجد الأقصى المبارك، قال الله عز وجل: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء/ 1].

وروى مسلم حديثا طويلا في صحيحه، عن إِمَامةِ رسول الله لإخوانه الأنبياء؛ جاء فيه: “وقدْ رَأَيْتُنِي في جَماعَةٍ مِنَ الأنْبِياءِ […]وإذا إبْراهِيمُ عليه السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي، أشْبَهُ النَّاسِ به صاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحانَتِ الصَّلاةُ فأمَمْتُهُمْ…” [مسلم/172].

-إن القرآن الكريم هو رسالة الله تعالى إلى المسلمين، وخطابه إليهم، وقد أعطى المسجدَ الأقصى الشريف وبلاد فلسطين، مكانة عظيمة، ومقاما عاليا، حيث وصفها بالأرض المباركة في العديد من الآيات، رغبة في تعظيمها في قلوب المؤمنين، وتخليدها في وجدانهم، ومن تلك الآيات ما يلي:

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الاسراء/1]

(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) [الأعراف/137]

(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء/71]

(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ)[الأنبياء/81]

(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ)[سبأ/18]

-يعد المسجد الأقصى عندنا -نحن المسلمين- مكانا مقدسا كماهو شأن المسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي بالمدينة المنورة؛ فهو أُولى القبلتين، وثالث الحرمين.

فمن المعلوم من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام أن المسجد الأقصى ببيت المقدس هو القبلة الأولى التي يصلي إليها المسلمون منذ البعثة إلى ما بعد الهجرة النبوية، ولم تتحول قبلة الصلاة إلى الكعبة المشرفة إلا بعد أن قضى المسلمون في المدينة زهاء سبعة عشر شهرا، حيث أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه: “قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ” [البقرة/144].

كما يعد المسجد الأقصى أيضا عند المسلمين من المساجد التي تُشَدُّ إليها الرحال، إضافة إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لاتُشدالرحالإلاإلىثلاثةمساجد،المسجدالحرامومسجديهذاوالمسجدالأقصى) [البخاري/1189]. كما ثبت في الأحاديث أن الصلاة الواحدة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيرة من مساجد الأرض، إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي.

هذا وغيره يعكس بوضوح أن للمسجد الأقصى المبارك مكانة عظمى في ديننا ومنزلة كبرى في وجداننا؛ مما يؤكد على أهمية حمايته، والسعي إلى ضمه للأمة كما كان، وسحبه من أيدي المعتدين.

ثانيا: الشعب الفلسطيني هو الشعب المضْطَهَدُ الأول في العالم، في التاريخ المعاصر.

يصعب تحديد موعد دخول الشعب الفلسطيني تحت مسلسل الظلم والاضطهاد في التاريخ المعاصر بدقة، لكون هذه الأرض توجد دائما تحت صراع بين أطراف عِدة، فلا ينتهي احتلال بتحرير، حتى تظهر بوادر احتلال آخر وهكذا. لكن يمكن القول إنه بدأ الاستعداد للاستيلاء على الأرض المباركة من طرف الدول الأوربية قصد جعلها وطنا لليهود أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت فلسطين حينها تحت حكم الدولة العثمانية، وبدأ الضغط على السلطان عبد الحميد الثاني من طرف دول غربية للسماح لليهود بأن يسكنوا بلاد فلسطين، وقابل أمرهم بالرفض، ولم يتمكنوا من بلوغ هدفهم إلا بعد عزل السلطان عبد الحميد وتولية مصطفى كمال أتاتورك، لقيادة تركيا وإقبار الخلافة العثمانية.

ثم تتابعت الأحداث والقرارات المجحفة في حق الشعب الفلسطيني، كاتفاقية سيكس-بيكو 1916، ووعد بلفور 1917، وقرار الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية 1947، ثم اعلان “دولة إسرائيل” سنة 1948، وحصولها على اعتراف الدول الغربية في مقدمتها بريطانيا وأمريكا.

هكذا مر مسلسل، سلب أرض، وسرقة وطن، واضطهاد شعب، وهتك عرض أمة؛ ليبدأ مسلسل آخر لم ينته بعد، لتهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى … مع ما صاحب ذلك من تقتيل للفلسطينيين وتهجيرهم، وارتكاب مجازر بشرية ضد الشعب الأعزل، أطفاله وشيوخه، شبابه وشيبه، نسائه ورجاله، وليس أمام المستضعفين في الأرض إلا الاستشهاد في سبيل القضية، أو العيش في الملاجئ والكهوف فرارا من الهمجية.

أما الواقع الآن فإنه غريب جدا، حيث أصبحت “اسرائيل” دولة في منظور منظمة الأمم المتحدة، فيما لم تعترف هذه الأخيرة بدولة فلسطين بعد! لقد غدا الحق باطلا والباطل حقا، كأن هذه تلك السنوات الخداعات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، التي يؤتمن فيها الخائن ويخوَّن فيها الأمين.

ثالثا: واجبنا اتجاه فلسطين والقدس.

بما أن قضية فلسطين والقدس قضية كبرى ترقى إلى مستوى القضية الدينية، فلابد أن يُرتِّب ذلك واجبات على أبناء الأمة، ومن هذه الواجبات ما يلي:

-العمل على فهم القضية والوعي بها، والحصول على الحد الأدنى من المعارف الدينية والتاريخية حولها، إذ المعرفة سلطة قوية لا يقضي عليها إلا معرفة أرسى منها.

-ضرورة التضامن مع الشعب الفلسطيني والتعاطف معه، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. وتتعدد أشكال التضامن والتعاطف، من ذلك التوعية بالقضية وفهمُها وإفهامُها، والتعاون المادي بالتبرعات لفائدة المرابطين بالأراضي الفلسطينية …

-محاربة الرؤية الصهيونية للقضية، التي يروج لها فئة من الناس، فيقدمون عونا للاحتلال بقصدٍ أو بدون قصد، ومن تلك الادعاءات الكاذبة التي ينشرونها ما يلي:

ـ اعتبار المقاومة الفلسطينية حركة ارهابية !

ـ الصراع في فلسطين صراع حول الأرض، يهم شعبا واحدا، لا أمة كلها !

ـ ادعاء أن الفلسطينيين يبيعون أرضهم للعدو ! إلى غير ذلك من الادعاءات الباطلة والعارية عن الصحة.

-ضرورة إغناء مناهج التعليم بدروس كافية للتوعية بالقضية الفلسطينية، والتعريف بمكانة القدس والمسجد الأقصى عند المسلمين، وتحييد الطابع القومي العربي عن القضية. واعتبارها قضية أمة بأجمعها.

-توظيف الإعلام بما يخدم مصلحة القضية الفلسطينية العادلة، سواء الإعلام الرسمي، أو غير الرسمي، وكذا مواقع التواصل الاجتماعي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M