النظر المصلحي..المقبول منه والمردود

13 يناير 2021 20:00
تفاعلا مع ما جاء في تدخل رئيس حركة التوحيد والإصلاح.. ملاحظات بسيطة ذات دلالات كبيرة

هوية بريس – د. إدريس أوهنا

 المصلحة في اللغة هي المنفعة، وتطلق مجازا على جلب المنفعة، ولما كانت المنفعةُ والمضرة نقيضتين، كان دفع المضرة (أو درؤها) مصلحة أيضا.

ومن ثم فإن معنى المصلحة في اللغة هو جلب النفع ودفع الضرر مطلقا، وبهذا المعنى تستعمل في عرف الناس عادة.

وهذا المعنى اللغوي أو العرفي لا يطابق تماما المعنى الشرعي للمصلحة، كما قد يظن البعض فيقع في الوهم والخطأ، ذلك أن المصلحة بالمفهوم الشرعي هي: جلب نفعٍ أو دفع ضررٍ مقصودٍ للشارع، لا مطلقَ ما يراه الناس نفعا أو ضررا، ومعنى هذا: أن الناس قد يَعُدُّون الأمر منفعة وهو في نظر الشارع مفسدة، وبالعكس، فقد يكون عملٌ ما  مصلحةًأومفسدةً في عرف الناس وتقديرهم، وليس كذلك في عرف الشرع، معناه أن المصلحة لا تكون شرعية إلا بمحافظتها على مقاصد الشرع ولو خالفت مقاصد الناس، فإن الأخيرة (أي مقاصد الناس) عند مخالفتها للأولى (أي مقاصد الشرع) ليست في الواقع مصالح– كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي([1])– بل أهواء وشهوات زيَّنتها النفس، وألبستها العاداتُ والتقاليد ثوب المصالح. فقد كان أهل الجاهلية من العرب يرون المصلحة في وأد البنات، وقتل غير القاتل، وشربالخمر،واتِّخاذالأخدان، ولعبِالمَيْسِر،وأكلِالربا،والعصبيةِللقبيلةفيالحقِّوالباطل،وحرمانِالإناثوالصغارمنالميراث،وقتلِالأولادمنإملاقأوخَشيةَإملاق،واعتبارِميلادالبنتكارثةقدتنتهيبوأدها،ووراثةِالرجلامرأةَأبيهمنبعده، ونسبةِ الولد إلى غير أبيه، إلىغيرذلكمماأبطلهالإسلام.

والقانون الروماني في أوج عظمته، كان يجيز للدائن أن يسترقَّ مدينه في الدين، وإذا كان هناك أكثر من دائن، ولم يوجد مَن يرغب في شراء المدين، الذي عجِز عن تسديد ديونه، فإن القانون أعطى للدائنين حقَّ اقتسام جثَّة المدين! وما كان أحد في روما يرى أن في هذا الحكم مفسدة، حتى جاء الإسلام بمبدئه العادل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280].

والقانون الإنجليزي ظلَّ قُرابة عشرةِ قرون يرى أن المصلحة في حرمان الإناث من الميراث، واستقلال الابن الأكبر بالتركة، وحرمان الأصول من الإرث. وأخيرا وبعد أربعةَ عشرَ قرنا، أخذ الإنجليز بمبادئ الشريعة الإسلامية، فأشركوا الإناث في الإرث، وورَّثوا الابن الأصغر، وأصولَ الميت، وآخِرُ قانون قرَّر هذا كان في سنة 1925م، وكان الحال كذلك في معظم الولايات الأمريكية ثم عدلت عنه،

وهذا يدلُّنا على عِظَم الثروة التشريعية التي بأيدينا، وأن المصلحة فيما جاء به التشريع الإسلامي، وإن بدا لبعض ضعاف الإيمان أن المصلحة في التخلِّي عنه إلى غيره.

ولا زال القانون الأمريكي يرى أن المصلحة في إطلاق حرية الموصي، ولو أدَّى ذلك إلى أن يوصي الشخص بكلِّ ثروته إلى خليلته، أو حتى إلى كلبه، تاركا ورثته عالة يتكفَّفون الناس؛ ولقد بدأ رجال الفقه والقضاء وعامَّة الشعب يحسُّون الخطورة والمفاسد التي تترتَّب على ترك هذه الحرية دون قيود.

وآخر مثال لعرض الأهواء والشهوات في ثوب المصالح: القانون الذي أقرَّه مجلس العموم واللوردات الإنجليزي، وهو يجعل اللواط عملا مشروعا لا ضرر فيه على الفرد ولا على الجماعة. ففي ستينيات القرن الماضي وافق مجلس العموم البريطانيعلى قانون يعتبر الشذوذ الجنسي عملا مشروعا بين البالغين، وقد تمَّت الموافقة على هذا القانون بأغلبية 164 صوتا ضد 107 صوت، واستقبل الجالسون في شرفة الزوار الموافقة على هذا القانون بالتصفيق.

وعليه فالمصلحة إما أن تكون معتبرة شرعا، وهي المصالح التي نص عليها الشارع في أوامره ونواهيه، كالمصالح المترتبة على الزكاة مثلا في باب الأوامر، أو المفاسد المترتبة على شرب الخمر في باب النواهي.

وإما أن  تكون المصلحة ملغاةً وهي المصالحُ الوهمية التي تعارض نصوص الشرع ومحكماته وإن بدت للناظر أنها مصلحة، كمن يدعو للمساواة بين الذكر والأنثى في الإرث عامة بدعوى المصلحة، فتلك مصلحة مردودة لمعارضتها صريح النص وهو قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين} النساء:11، أو من يدعو لمنع تعدد الزوجات مطلقا بدعوى المصلحة، فإنها مصلحة مردودة موهومة كذلك لتعارضها مع النص الصريح: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}النساء:3، ومنه كذلك الدعوة إلى إلغاء حكم القصاص أو عقوبة الإعدام بدعوى أن المصلحة في إلغاء هذا الحكم والمفسدةَ في تطبيقه، إلخ.

وفي هذا النوع من المصالح التي قلنا بأنها مصالحٌ مردودة موهومة قال الإمام أبو حامد الغزالي: “ومقاصد الشرع تُعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود، فهِمَ من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة، التي لا تلائم تصرُّفات الشرع، فهي باطلة مُطَّرحة.”([2])

وقد تكون المصلحة غير معتبرة ولا ملغاة، وهي المصالح المرسلة التي لم يشهد لها دليل خاص لا بالاعتبار ولا بالإلغاء (والمراد بالدليل الخاص النص التفصيلي من القرآن الكريم أو من السنة النبوية)، لكنها تندرج تحت الأدلة الكلية والقواعد المقاصدية العامة المكتسبة من استقراء نصوص الشريعة المتفرقة، نحو قاعدة حفظ الدين أو حفظ النفس أو حفظ العقل أو حفظ النسل والعرض أو حفظ المال أورفع الحرج والعنت عن الناس، أو غير ذلك من القواعد الكلية كالعدل والتكافل والأمن والاعتدال وحفظ الحقوق والحريات، وفي هذا النوع من المصالح قال الإمام أبو حامد الغزالي: “وإذا فسَّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف فيها، بل يجب القطع بكونها حجَّة.([3])

وهذا النوع من المصلحة الذي هو المصالح المرسلة التي تشهد لها أدلة الشرع الكلية(أي قواعد الشرع ومبادئه العامة) وإن لم تشهد لها أدلة شرعية خاصة، نجد الصحابة رضوان الله عليهم قد اعتبروها وعملوا بها، فقد ” كان الصحابة – وهم أفقه الناس لهذه الشريعة – أكثر الناس استعمالا للمصلحة واستنادا إليها، فهذه المصلحة هي التي جعلت أبا بكر يجمع الصحف المفرَّقة – التي كان القرآن مدوَّنا فيها من قبل – في مصحف واحد، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا توقَّف فيه أول الأمر، ثم أقدم عليه بنصيحة عمر، لما رأى فيه من خير ومصلحة الإسلام.

وجعلته يستخلف عمر قبل موته مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك.

وهي التي وجَّهت عمر إلى وضع الخراج، وتدوين الدواوين، وتمصير الأمصار، واتِّخاذ السجون، والتعزير بعقوبات شتَّى، مثل إراقة اللبن المغشوش، ومشاطرة الولاة أموالهم إذا تاجروا أثناء ولايتهم. وهي التي جعلته يتَّخذ قرارات يرى المصلحة فيها، مثل: عدم تغيُّب رجل في الجيش أكثر من أربعة أشهر عن أهله، وفرض العطاء لكلِّ مولود في الإسلام، وجعل الشورى في سبعة من كبار الصحابة الذين توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.

وهي التي جعلت عثمان يجمع المسلمين على مصحف واحد، ينشره في الآفاق، ويحرق ما عداه، على ملأ من الصحابة وموافقة منهم، ويقضي بميراث زوجة مَن طلَّقها زوجها في مرض الموت فرارا من إرثها.

وهي التي جعلت عليًّا يأمر أبا الأسود الدؤلي بوضع مبادئ علم النحو، بعد أن دخل اللحن في العربية على ألسنة الناس، حين اختلط الأعاجم بالعرب، ويضمِّن الصناع ما يكون بأيديهم من أموال، إذا لم يقدِّموا بيِّنة على أن ما هلك إنما هلك بغير سبب منهم قائلا: (لا يصلح الناس إلا ذاك)”([4])، إلخ

“والأمر المهم الذي ينبغي الالتفات إليه، والاحتياط فيه: أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية، فقد يخيِّل الهوى والشهوة، أو الوهم وسوء التصوُّر، أو الإلف والعادة، لبعض الناس: أن عملا ما مصلحة، وهو في حقيقته مفسدة، أو أن ضرره أكبر من نفعه، فكثيرا ما يُغفِل الناس المصلحة العامة لأجل المنفعة الخاصة، أو يغفلون عن الضرر الآجل من أجل النفع العاجل، أو يغفلون الخسارة المعنوية من أجل الكسب المادي، أو يتغاضون عن المفاسد الكبيرة من أجل مصلحة صغيرة، فالاعتبارات الشخصية والوقتية والمحلية والمادية لها ضغطها وتأثيرها على تفكير البشر، لهذا يجب الاحتياط والتحرِّي عند النظر في المصالح وتقويمها تقويما سليما عادلا.([5])

ومن الاعتبارات كذلك التي تؤثر في تفكير البشر عند تقدير المصالح بالإضافة إلى ما ذكره الدكتور القرضاوي الاعتبارات السياسية، والطائفية، والمذهبية، التي قد تجنح بالنظر المصلحي بعيدا عن مقصود الشارع، وإن بدت في الظاهر توافقه، متذرعة بـ: (أينما أسفرت المصلحة فثم شرع الله) وهو قول صحيح قد يراد به باطل، متى تم الارتكاز عليه في تسويغ المصالح الوهمية المخالفة لمقاصد الشارع، والتي هي في الحقيقة مفاسد وإن تلبست بلبوس المصالح؛ لأن الأمر الأكيد الذي لا غبار عليه ولا مجال لدخول الوهم عليه هو: ((أينما أسفر شرع الله فثم المصلحة))؛ ذلك أن الشريعة من وضع العليم الخبير، الذي خلق الناس وهو أعلم بهم منهم، وهو أعلم بما يصلح حالهم في المعاش والمعاد: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}الملك:14.

ولذلك متى وجدنا مصلحة تعارض محكمات الشرع فهي مصلحة مردودة موهومة بلا شك، كادعاء المصلحة في التطبيع مع الكيان الصهيوني مثلا، فهي مصلحة مردودة غير معتبرة لأنها تعارض محكمات الشرع وثوابته،ومنها: تحريم العدوان، والاحتلال الصهيوني عدوان، ومنها الأمر بنصرة المعتدَى عليه والتطبيع نصرة للمعتدي، ومنها اعتبار الشرع لفلسطين أرضا مقدسة تعني كل مسلم لأنها أرض الإسراء والمعراج وأولى القبلتين بنص القرآن، والتطبيع تفريط في هذه المقدسات واعتراف للمحتل بسيطرته عليها، إلخ من الثوابت والمحكمات التي لا يجوز مخالفتها بدعوى مصلحة سياسية كيفما كانت؛ لأن المبادئ القطعية لا تباع ولا تقايض بالمصالح.

ولذلك قال الإمام ابن دقيق العيد: “لستُ أُنكر على مَن اعتبر أصل المصالح، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر سديد”([6]).

أقول: والنظر السديد ذاك لا يكون إلا بمراعاة الشروط والضوابط التي سبقت الإشارةُ إليها وعلى رأسها، وبها نذكر ونختم:

  • أن تشهد للمصلحة المدعاة أدلة الشريعة الكلية ومبادئها العامة، حتى تكون من جنس المصالح التي اعتبرها الشارع لا من المصالح الغريبة التي لا دليل لها من الشرع مطلقا.
  • أن لا تتعارض المصلحة المدعاة مع محكمات الشرع وقطعياته وثوابته.
  • وأن تكون طبعا في تصرفات الناس وشؤونهم العادية لا في العبادت، فإن التصرف في العبادات بالزيادة على ما قرره الشرع بدعة لا مصلحة.

ولا يهم بعد ذلك أن تكون المصلحة ضرورية أو حاجية أو تحسينية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]انظر: موقعسماحةالشيخيوسفالقرضاوي،فتاوىوأحكام،المصلحةالمرسلةوشروطالعملبها.. فمنه اقتبسنا الأمثلة المذكورة لعرض الأهواء في ثوب المصالح قديما وحديثا.

[2]المستصفىالمؤلف: أبوحامدمحمدبنمحمدالغزاليالطوسي (المتوفى: 505هـ) تحقيق: محمدعبدالسلامعبدالشافيالناشر: دارالكتبالعلميةالطبعة: الأولى، 1413هـ – 1993م، ص179.

[3] الإحالة نفسها.

[4]انظر: موقعسماحةالشيخيوسفالقرضاوي،فتاوىوأحكام،المصلحةالمرسلةوشروطالعملبها.

[5] نفسه.

[6]إرشادالفحولإليتحقيقالحقمنعلمالأصولالمؤلف: محمدبنعليبنمحمدبنعبداللهالشوكانياليمني (المتوفى: 1250هـ) المحقق: الشيخأحمدعزوعناية،دمشق – كفربطناقدمله: الشيخخليلالميسوالدكتوروليالدينصالحفرفورالناشر: دارالكتابالعربيالطبعة: الطبعةالأولى 1419هـ – 1999م، 2/186.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M