بعد “بدونة المدن” جاء دور “تمدين البادية”

22 يناير 2020 17:05
بعد "بدونة المدن" جاء دور "تمدين البادية"

هوية بريس – ذ.إدريس كرم

لا تخفى مضار عملية “بدونة” المدن حيث تتواجد أحياء الصفيح التي انطلقت مع الهجرة الأوربية للمغرب بعد توقيع الحماية سنة 1912، ليأخذ المهاجرون الأوربيون القادمون للمغرب بحثا عن الثروة والنازحون القرويون للعمل بالمعامل الفكرة ويكونون مجمعات سكنية صفيحية أو عشوائية غير مجهزة، أحاطت بها أحياء عصرية بفعل التوسع العمراني للمدن والحاجة للوعاء العقاري وصعوبة إجلاء ساكنة أحزمة الفقر تلك لأسباب عدة أقلها انتخابية، حيث تمثل منجما تصويتيا تدبره السلطة لصالح من تريد، رغم أنها تبرز مظاهر التمييز والإقصاء، وتفضح شطط وبؤس السياسات المتعاقبة التي تدين المدبرين وتفرض عليهم إخفاءها وراء أسوار أحاطوها بها في انتظار إيجاد حلول لتلك المعضلة التي أتاحت للحكومات المتعاقبة مبررا للاقتراض وطلب المساعدات من أجل القضاء عليها.

ولحد الآن لم توفق في ذلك لسبب بسيط وهو أنها تفكر في العقار والنفقات بدل السكان والبنيات، والقدرة على التنظير والعرض والتخطيط، والانتقاد والوعد الكلملوجي بمناسبات مختلفة، فلا هي قضت على السكن غير اللائق كما يسمى، ولا هي تركت الأموال عند أصحابها لم تحولها لديون ذائبة مبنية للمجهول، فكانت كالمنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع.

ونفس الأمر اليوم يتم في البادية حيث يسارع في تطبيق قوانين التعمير المديني عليها، فيطلب من الذي يريد بناء بيت أو حظيرة أو فرن أو جدار أن يطبق معايير المدينة في البناء، فلا بد له من رخصة، وتعني أداء مبلغ مالي أكثر من ثمن البناء، الذي كان سيعتمد مواد محلية من تراب وتبن وجير وأعواد كلبتوس، وتصميم له ثمن ووثائق إدارية هي بدورها تقتضي نقدا لكل الذين ستمر عليهم مسطرة التوقيع من مقدم وشيخ وقايد ونائب جماعي، ثم تأتي مواد البناء من إسمنت وأجور وطوب وحديد وسلك ومعلم ومساعدين، ثم ترخيص السكنى من أجل التزود بالكهرباء، وما يتبع ذلك من المتدخلين الذين يتناسلون في البادية آناء الليل وإطراف النهار بسب وبلا سب، مما يجعل النزوح للمدينة مهربا من تلك الإتاوات التي كانت من أسباب انتشار الحمايات القنصلية التي ضيعت البلاد وسرعت باستعماره.

لقد صارت قوانين التعمير شكلا جديدا من أشكال الطرد من البادية نحو أحزمة الفقر في المدينة حيث يسهل عليه بناء براكة أو دار في بقعة من خمسين مترا أو اقل في حين منع من بناء غرفة أو غرفتين في نصف هكتار بجانب والديه وإخوانه.

بل إن وزارة المحافظة على البيئة لا تسهم في حماية أشكال البناء الوطني غير المكلفة والتي لا ينتج عنها إخلال بالمحيط ولا تكلفة إضافية ترهق المحتاج وتعيق تطوير الإنتاج المحلي وتجويده، بالرغم من التباكي على قصور المجتمع في إبداع ما يلبي حاجياته في البناء والسكن والتأثيث.

كنت قد نشرت مقالا بجريدة لسان الأمة عدد1417-21/2/1997، تحت عنوان (مطلوب وزارة حقوق البادية وسكانها)، وتساءلت وقتها عن مدى استفادة سكان البادية من عدة وزارات كالبريد والصناعة والرياضة والثقافة وغيرها من وزارات المدينة التي لا تتحدث عن البادية إلا كمزود لها بالغذاء والماء واليد العاملة والطاقة والعملة الصعبة الناتجة عن تصدير المواد الفلاحية بعد احتكارها من قبل المرخص لهم بالتصدير والتدوير والتصنيع بالمجال، إذ لا إصلاح يعلوا فوق الإصلاح المادي أرضا أو حيوانا أو جبايات أو إتاوات، فالخير في البادية والشر في أهلها لذلك يستحقون كل ضير والحرمان من كل خير، لأن الخير يُسيِّب ويطغي، ويكلف الإدارة كلفا تؤدي لإصلاحات، وهو ما لا يدخل في برنامجها، وكمثال بسيط لدرجة الإسفاف أن تصحيح الإمضاء نظريا يجرى في كل إدارة خاصة الجماعية لكن في جماعة قروية قيل لي بأن تصحيح الإمضاء مرهون بالسكن المثبت في بطاقة التعريف، وفي قيادة طلب من جمعية أسست لغرض ثقافي ثمان نسخ مصادق عليها في الوقت الذي ينص قانون الجمعيات على ثلاثة فقط مصادق على واحدة منها، ولما قدمت نفس الأوراق من مفوض قضائي اعتبر القائد ذلك مسا خطيرا بمكانته، وأمر بعدم تسليم الوصل المؤقت، وما زال أصحاب الجمعية ينتظرون بعد مرور أكثر من سنة.

إنه غيض من فيض ما تعاني منه البادية التي يراد تمدينها بما يعزز من توسيع نهب سكاناها وتبخيسهم، ودفعهم للهجرة للمدن بحثا عن كرامة مفقودة، ودرء لإهانة موعودة، والله يتولى سكانها برحمته.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M