تقرير لجنة الحريات التونسية.. نسخ الشريعة أو تجديد الخطاب

05 سبتمبر 2018 23:01
تنسيقية تونسية للدفاع عن القرآن والدستور والتنمية العادلة: سنتصدى لمبادرة المساواة في الإرث

ذ. طارق الحمودي – هوية بريس

بعد أن عين الرئيس التونسي القايد السبسي لجنة خاصة لإعداد تقرير متعلق بالحريات الشخصية في القانون التونسي متكونة من قاضي ومحامية وأستاذ للقانون الدولي وأستاذ في القانون العام وباحثين في علم الإنسان “الأنثروبولوجيا” -وهو دليل واضح على أن اللجنة سلكت في قراءتها للشريعة الإسلامية سبيل الباحثين الفرنسيين الملاحدة- وكاتب ومخرجة أفلام!!! ومتخصص في “تاريخ”.. الفكر الإسلامي زعموا، ظهر تقرير في 233 صفحة، أقامه أصحابه على محاولة الإجهاز على ما تبقى من أحكام الشريعة الإسلامية مبثوثة في مدونات القوانين التونسية، فلقي عند طائفة أقلية استحسانا، ورفضه التونسيون.

فمن الذي كان يوجه فكريا تقرير لجنة الحريات الفردية؟

وما هي الأصول الكبرى التي بنى عليها أصحاب التقرير والتي أخفوها بين سطوره؟

من المباحث اللطيفة التي وضع لها ابن العربي عنوانا في كتابه الناسخ والمنسوخ، “نسخ القرآن كله”، لكنه منع من صحة هذه الدعوى رادا على من يزعمها، وقد وُجد في بعض المنتسبين للفكر الحداثي من يقول بجواز نسخ الشريعة الإسلامية، ولعل السؤال الوارد هنا، كيف يستطيع أحد دعوى نسخ الشريعة؟ ومن أي مدخل يستطيع ذلك؟

اختار عبد المجيد الشرفي[1] أحد أعضاء لجنة الحريات من ورثة العهد البورقيبي البشع طريقة غريبة في الوصول إلى تقرير هذا النسخ[2]،  وكانت نظريته قائمة على مفهوم ختم النبوة، فكيف فعل ذلك؟

يذهب الشرفي إلى أن ختم النبوة معناها «الختم لها من الخارج، أي أن هذا الختم يضع حدا نهائيا لضرورة اعتماد الإنسان على مصدر في المعرفة ومعيار في السلوك مستمدين من غير مؤهلاته الذاتية، إنه إيذان بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبة، إنه تدشين لمرحلة جديدة في التاريخ لا يحتاج فيها الإنسان وقد بلغ سن الرشد إلى من يقوده وإلى من يتكئ عليه في كل صغيرة وكبيرة، وتكون وظيفة نبي الإسلام في هذه الحالة إرشاد الإنسان إلى مسؤوليته الجديدة وتحميله تبعات اختياراته، مثله إذن مثل من أغلق باب بيته الذي هو بالنسبة إليه بيت النبوة، بيت جميع الأنبياء وختمه من الخارج، فلم يبق سجينا له، وساح في أرض الله الواسعة، ويكون بذلك قد أذن بحرية الإنسان في أن يسكن البيوت التي يبنيها بجهده الخاص بما يدله عليه عقله، بما يوفره له ذكاؤه، بما تقتضيه مصلحته الفردية والجماعية»[3].

ختم النبوة من الخارج على حد تعبير الشرفي يعني عرفا نسخ الشريعة، بما في معنى النسخ من الإزالة والإقالة، فهي عنده تضع حدا لتسلط الشريعة النازلة على الإنسان، وتحرره من قيودها، للاعتماد على العقل وحده مكتفيا به عن الوحي والنبوة، مستقلا بما يمتلك الإنسان من ذكائه عن حكم الله ورسوله المضمن في القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الختم يعني إسقاط التكاليف وتجاوزها إلى ما يفرزه العقل البشري من شريعة وضعية يشترك الجميع في وضعها، كل على حسب اجتهاده في توافق وتضامن، ضمن وحدة أديان جامعة، تمثل حرية الفعل الإنساني أحدَ عناصرها مع العقل وقدراته، لكن الشرفي يخفف من أثر ما قاله، بأن أعطى للوحي دورا في كل هذا، فقال:

«هكذا يكون محمد بن عبد الله قد ختم النبوة ليقضي على التكرار والاجترار، وليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية، والمسؤولية الفردية والتضامن الخلاق، هكذا يكون قد أرسى الدعائم المتينة الأخلاقية Ethique كونية بحق، ولا يكون دوره محصورا في تقديم وصفات جاهزة ما على المسلم إلا أن يطبقها تطبيقا آليا أجوف»[4].

فحصر دور الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذا الختمِ النسخِ في التوجيه العام إلى الأخلاق والمبادئ الإنسانية مثله مثل جميع الديانات الوضعية والفلسفات الأخلاقية، مع تعطيل جانب الرسالة التشريعية فيه، فإن الدعوة إلى الأخلاق قدر مشترك بين جميع الناس، وأما ما يميز الرسول فرسالته وشريعته، فالشرفي يقصد هنا نسخ الشريعة المحمدية بشريعة وضعية يتواضع عليها الناس جميعا ويتعاونون على صياغتها بعقولهم، والخلاصة في نظرية الشرفي القول بحصول نسخ الشريعة الإسلامية بشريعة إنسانية، ينتجها العقل المستغني عن الوحي في حرية وإرادة مطلقة عن قيد الحكم الإلهي المباشر، والقولُ باستقلال العقل عن الوحي قول قديم لطوائف باطنية.

لم تكن قلة أدب عبد المجيد الشرفي تستطيع الوقوف عند هذا الحد، فقد تعدى هذا إلى دعوى أن العقائد الإسلامية عبارة عن خيالات وخرافات، فقد كان يسير عبد المجيد الشرفي متأثرا بمن سبقه من الباطنية وزنادقة الفلاسفة على نفس هذه السبيل، وقد حرصت اللجنة على الاستمداد من الفلاسفة والمعتزلة بل صرحت بذلك في مواضع من الصفحة (9) من التقرير، وهذا معروف عندنا، فالعلمانيون المتطرفون الحاقدون بحثوا في تاريخ الإسلام عن فرق شاذة يستطيعون استغلال فكرها لضرب الشريعة الإسلامية، وقد رأيت عبد المجيد الشرفي يتحدث عن «تأثر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعبر عن ما فهمه وعلمه من الوحي بذهنية الحدس الميثية الأسطورية، والصبغة السحرية للعالم الذي كان يعيشه»[5]، وحالة الشرفي دليل على استمرار وجود الفكر الأركوني، خصوصا إن عرف أن الشرفي يقود نخبة أكاديمية من المثقفين يوجهها لنشر هذه التعاليم.

مارس أصحاب التقرير نفاقا مكشوفا حينما حاولوا ذر الرماد في العيون باستعمال لغة فيها نوع من المداهنة للقارئ دفعا في وجه الشك فيهم وتمويها على المغفلين، ما كان يريده أصحاب التقرير هو هدم ما تبقى من أحكام الشريعة، وكان عبد المجيد الشرفي هو من تولى كبر ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] يحسن التنبيه هنا -بل يتعين- على أن عبد المجيد الشرفي التونسي وفريقه من الباحثين يمثلون امتدادا للمدرسة الأركونية الباريسية في تونس، وقد حرص طه عبد الرحمن على هذا التنبيه مع تنبيه آخر لطيف على وجود امتداد تونسي آخر في “باريس”، روح الحداثة، ص177.
[2] من طرائف الاعتقادات في مفهوم ختم النبوة، ما ذهب إليه محمد عابد الجابري من أنها تعني أيضا نسخ المعجزات وخوارق العادات التي خص بها الأنبياء السابقين، فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن معجزا، وهذا يعني أنه كان ينكر الكرامات الخارقة للعادة على اصطلاح المتكلمين، وهذا له محل غير هذا.. ينظر “فهم القرآن” (3/108).
[3] الإسلام بين الرسالة والتاريخ ص91.
[4] الإسلام بين الرسالة والتاريخ ص93.
[5] الإسلام بين الرسالة والتاريخ ص39و40.
آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M