ثقوب النموذج التنموي الجديد

02 يونيو 2021 15:56
شكيب بنموسى

هوية بريس – إبراهيم الطالب

في خطابه الذي أعلن فيه عن قرار تأسيس اللجنة المكلفة بوضع النموذج التنموي الجديد أكد ملك البلاد: “أنا ننتظر منها أن تباشر عملها بكل تجرد وموضوعية، وأن ترفع لنا الحقيقة، ولو كانت قاسية أو مؤلمة، وأن تتحلى بالشجاعة والابتكار في اقتراح الحلول”.

لكن يبدو أن حجم المعضلة في المغرب وتمكنها من كل مناحي الحياة فيه، كان أكبر من قدرات اللجنة على التشخيص وجرأتها في وضع الأسس الحقيقية للوصول إلى إيجاد حلول ناجعة، ورغم أنها حاولت أن تقوم بالمطلوب، إلا أنها عجزت أن تتحلى بالشجاعة في قول الحقيقة القاسية والمؤلمة كما طلب منها.

فبعد التفكر في الأسس التي وضعها أصحاب النموذج التنموي يتبين بوضوح أنهم تجنبوا الخوض في أسباب الإفلاس التي يجب تجنبها بصرامة، والتي جعلت النموذج القديم يفشل، والعمل على إحراز استقلال الاقتصاد الوطني عن الصناديق الممولة، وفك الارتهان  للتبعية الخارجية ومحاربة تهريب الأموال والفساد المالي والاهتمام بقطاع التعليم بعيدا عن فروض الطاعة للثقافة الفرونكوفونية، واكتفوا بإبداء مجموعة من التوصيات المحتشمة، ووضع آمال من قبيل تطوير الاقتصاد الوطني، حتى يصل الناتج الداخلي الخام للفرد سنويا إلى ما يُناهز 16 ألف دولار، وذلك على أساس يُعادل القوة الشرائية؛ والرفع من نسبة الاستثمار الخاص ليصل إلى 65% من الاستثمار الإجمالي، بالإضافة إلى الرفع من عدد الشركات المصدرة إلى 12 ألف شركة؛ وإلى زيادة في عدد المقاولات الناشئة، لتصل إلى 3000 مقاولة، وأيضا تسجيل ألف براءة اختراع سنوياً، بالإضافة إلى الوصول إلى 300 شركة مدرجة في البورصة، مع مساهمة الاقتصاد الاجتماعي في القيمة المضافة بـ 8%.

لقد سجل النموذج التنموي أهم ما أعرب عنه الفاعلون والمواطنون الذين استمعت إليهم اللجنة، وتمحورت حول “مخاوف بشأن المستقبل نابعة أساسا من الإحساس بتعطل آليات الارتقاء الاجتماعي، وتلاشي الثقة في قدرة المؤسسات العمومية على السهر على الصالح العام. وقد أعرب المشاركون، بكل أصنافهم، عن قلقهم إزاء هذه الحالة التي يزيدها استفحالا الشعور بضعف الحماية الاقتصادية والاجتماعية والقضائية”.

وفي هذا الصدد، تم التركيز بشدة على نقطتين أساسيتين:

الأولى: ضعف الإدماج الذي يتسم به النموذج الحالي والمتجلي في تعميق الفوارق ومخاطر التراجع الاجتماعي للطبقة الوسطى.

والثانية: أزمة الثقة تجاه الفعل العمومي في سياق تردي جودة الخدمات العمومية وضعف الحس الأخلاقي وقيم النزاهة على العموم لدى المكلفين بتدبير الشأن العام. ويتجلى ضعف الثقة أيضا إزاء النخب السياسية والاقتصادية والفئات الاجتماعية الميسورة والتي ينظر إليها من زاوية استفادتها من امتيازات غير مشروعة وأنها غير حريصة على المصلحة العامة.

كان على أصحاب النموذج التنموي أن يتحدثوا عن سبل توفير إرادة سياسية في الإصلاح، تستطيع أن تفكك مراكز الفساد القوية في الإدارة والسلطة والقضاء، وتقضي على هيمنة رعاته على الاقتصاد، فحراس بنيات الفساد المتداخلة والمتعاونة على الاستحواذ على مصادر الثروة وتداولها المستمر بينها لن يسمحوا بإرساء دعائم مشروع تنموي يحقق العدالة الاجتماعية، والتقسيم العادل للثروة بين المغاربة، فمعضلة المغرب تكمن في انعدام الثقة بين المغاربة والدولة، فالجميع مقتنع أن الذين يملكون مقدرات البلاد هم أنفسهم مَن يملك السلطة فيها، فكيف يمكن أن يحصل الإصلاح إذا استمر التزاوج بين الثروة والسلطة؟

إن الجمع بين الثروة والسلطة يتولد منه إفلاس كل مشروع سياسي، فأصحاب الثروات لا يقبلون بأن يصل إلى مراكز القرار من يضر بمصالحهم ولو كان الهدف الإصلاح، لذا فالراجح إن لم تتوفر الإرادة السياسية الكاملة أننا سنرى ممانعة ناعمة تتخفى وراء تطبيل إعلام التشهير، الذي يستخدم في ذات الوقت لإسقاط المعارضين، فإن وقع هذا لا قدر الله فليس بعده سوى السقوط في الهاوية.

إن إصلاح المعضلة التي يعيشها المغرب، تحتاج إلى إجراء زلزال في كل البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى يخضع الجميع لموجبات الإصلاح، وهذا يتطلب أجهزة أمنية وقضائية وإدارية غير التي ألفناها وقدرا غير يسير من النزاهة والشجاعة.

كما يتطلب القطع مع سياسات الدولة التي يتحكم فيها طغيان الهاجس الأمني، والذي لا يهتم إلا باستمرار نمط الحكم، وتعويضها بسياسات ذات توجه تنموي يحقق الإقلاع الاقتصادي، فاستحكام الهاجس الأمني والخضوع له يجعل الدولة تحتفظ بكل مكامن القوة فيها، وتمارس التحكم والاستبداد ولو كانت مكامن القوة تلك ينخرها الفساد ما دامت توفر الاستقرار والأمن، وهذا ما يحول دون تنزيل أي مشروع تنموي مهما بلغت قوته ودقته في التشخيص ووضع الحلول.

فهل هناك إرادة سياسية حقيقية تريد فعلا أن تقطع مع الأسلوب القديم لتدبير الشأن العام والذي كان يرفض الاستفادة من علم أبناء المغاربة وكفاءتهم، لا لشيء سوى لأنهم من أبناء التيارات الإسلامية مثلا، أو لأن لهم مواقف نقدية من كيفية تدبير الشأن العام، فيحول ذلك دون وصولهم إلى مراكز القرار والوظائف السامية رغم استحقاقهم، الأمر الذي يمنع البلاد من الاستفادة من النخبة العالمة التي تجمع بين النزاهة والاستقامة والكفاءة والعلم والأهلية، والتي بدونها لن تكون هناك أية تنمية، ولن يعوض الفراغ الذي يحدثه هذا الإقصاء سوى بنخبة وصولية تولت الوظائف والمناصب عن طريق المحسوبية والولاءات السياسية، التي يهمها فقط أن تنمي أرصدتها البنكية وتراكم الثروات، تماما كما هو الحال اليوم.

ومن الأمور التي أغفلها النموذج التنموي هو إهماله للتناقض الحاصل بين الخطاب الحقوقي الرسمي والممارسة على أرض الواقع، والذي يستمد وجوده من طغيان الهاجس الأمني على الإدارة والسلطة، فتلفيق التهم والسجن من أجل تكميم الأفواه من أهم عوامل الفشل على مستوى خلق الثقة بين الدولة والشعب، فالمجتمعات في الدول الحديثة تضبط بالعدالة والأمن والثقة المتبادلة وإشاعة العلم وتشجيع الغيورين رغم انتقادهم ومعارضتهم.

ومن أهم المعضلات التي ضرب أصحاب النموذج التنموي الذكر عنها صفحا، هو “سؤال الاستقلالية” الذي أجمع خبراء الاقتصاد في الدول التي بلغت مرتبة النجاح، أن الجواب عنه هو مفتاح التنمية، فكيف يمكن أن تتحقق التنمية واقتصاد المغرب مرهون لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدول المانحة، والتي تعتبر المغرب مزرعتها الخلفية، وتضغط على ملف الصحراء ودعم جبهة العار الصحراوية لإخضاع الدولة لنزواتها التوسعية كلما حرك المغرب رأسه لافتكاك نفسه من قبضتهم.

لقد تحدث النموذج التنموي الجديد عن الحكامة في الأداء الحُكومي، ولكن لم يتطرق إلى معضلة التعارض بين الحكومة المنتخبة وحكومة الظل واستحالة محاسبتهما بشكل يؤطره القانون، وترتب عليه المسؤوليات والعقوبات، الأمر الذي تستحيل معه أي فرصة للخروج من الفساد السياسي والحزبي، هذا الفساد الذي يستغله أرباب الثروات في استنزاف مقدرات البلاد، ويكرس في ذات الوقت انعدام الثقة بين المواطنين والدولة ومؤسساتها.

النموذج التنموي لم ينس أن يحتفظ ببعض ثقوبِ النموذج التنموي السابق، حيث تضمن الحديث عن قضايا لطالما أحدثت الانقسام بين مكونات المجتمع وألهت نخبته عن الاشتغال بالأهم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، حيث طلب إعادة فتح النقاش المجتمعي حول الإجهاض، وكرر التقرير مطلب القضاء نهائيا على زواج القاصرات، وأيضاً عمل الفتيات أقل من 15 سنة، وكلها مطالب تستصنم الإملاءات الغربية ولا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجتمع المغربي ولا التحديات التي يواجهها، فالمرأة والفتاة المغربية لا مشكلة لها مع الإجهاض حتى يهتم به نموذج تنموي يتوخى حل المعضلات، وإن كان هناك معضلة مرتبطة بالإجهاض فيجب أن نبحث عن حل لها في وضع خطة أخلاقية وتربوية تقلل من توسع دائرة التسيب الجنسي في المغرب الذي يتكون مجتمعه من 99 في المائةمن المسلمين، وتحرم شريعته وقوانينه الزنا وممارسة الجنس خارج إطار الزواج الشرعي، والذي يعتبر من أهم الأسباب التي تدفع إلى التفكير في الإجهاض.

لقد آن الأوان لبناء حقيقي لبلادنا على أسس اقتصادية صلبة، ودعائم دينية وأخلاقية أصيلة، يكون فيها العدل نظاما لا مطلبا، والكرامة واقعا لا مأمولا وحلما.

إن عقيدتنا وقيم ديننا هي عصمة أمرنا، وإن بناء قوتنا الاقتصادية والعسكرية والسياسية هي التي يمكن أن نعيش بها فوق تراب الوطن معنى الكرامة والمنعة، وبهما فقط يمكن أن نحيا مستقلين عن صندوق النقد وعن البنك الدولي الذي يستحوذ عليهما مهندسو الإمبريالية الجديدة، الذين تخَلَّو عن سياسات استعباد الأفراد الأحرار وبيعهم في سوق النخاسة ظلما، واستعاضوا عنها بسياسات تتوافق مع تطور العالم المزيف لكنها تمكنهم من أن يستعبدوا دولا بأكملها حكومات وشعوبا، بشرعية دولية صنعوها لتدبير شؤون عالم البشر وفق أهوائهم وأطماعهم كما هو الحال في العراق وليبيا واليمن وغيرهما.

ومن أخطر ما تجنب النموذج التنموي الخوض فيه هو مشكلة التناقض الفج بين مقومات الهوية الإسلامية والواقع السياسي، حيث تعتبر هذه المعضلة من أهم أسباب التخبط الذي تعيشه الدولة والأحزاب والمواطنون، على مستوى الاقتصاد والاجتماع والتعليم والسياسة والتشريع، فلا نحن حداثيون كفرنا بالغيب والدين وفصلناه على السياسة، ولا نحن مسلمون ننتصر لشريعة الإسلام وعقيدته، ونبني منظومة أخلاقية وفق أحكامه، ونكيف منظومتنا التشريعية لتتلاءم مع مقومات هويتنا الدينية، فعلى أي أساس تطرق النموذج التنموي إلى قضايا الإرث والمساواة التامة بين الجنسين والولاية على الأطفال والإجهاض، خصوصا في غياب كلي للعلماء حيث لم تستوعب اللجنة ولو عالما واحدا ينوب عن المجلس العلمي الأعلى؟

لقد حاول واضعو النموذج التنموي أن يقفزوا على هذه المعضلة بتكريس سياسة تطويع الشريعة الإسلامية لسلطة الثقافة العلمانية المتسلطة، والتي تستقوي بمنظمات العلمانية الدولية؛ وما لم تحل هذه المعضلة سيبقى كل نموذج تنموي يشكو من معيقات الانفصام بين هوية المجتمع المغربي المسلم، وإملاءات العلمانية الدولية، التي تفرض رؤيتها للكون والإنسان والحياة على المجتمعات المسلمة.

نرجو صادقين أن تكون هذه الثقوب قد تركت في جسم النموذج التنموي عمدا، وبوعي كامل لكن بقصد الحكمة التي تقتضي الاشتغال في صمت دون استفزاز خصوم البلاد الداخليين من الفاسدين السياسيين والاقتصاديين، والخارجيين الذين يعتبرون أن لهم حقا في المغرب يبيح لهم ثرواته ومقدراته وثقافته، وهذا ما ستبينه السنوات القادمة القريبة، وإن كنا نستبعد هذا استبعادا مبنيا على ما اعتدناه وألفناه، وعلى شواهد الواقع الذي لا يرتفع إلا بواقع جديد أكثر منه قوة وتأثيرا.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. قال لو باك طاح قال لو من الخيمة خرج مايل . ما ذا تنتظر من لجنة يرأسها فرنكفوني وزير داخلية سابق و بطل احدات مدينة ايفني . التنمية لا تحتاح الى لجان بل ارادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد .

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M