جهاد النفس

19 نوفمبر 2015 22:34
الشيخ القزابري يكتب: قَلْبٌ يُنَاجِي أَبَاهْ...!

الشيخ عمر القزابري

هوية بريس – الخميس 19 نونبر 2015

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أحبابي الكرام:

ما أعجب أمر هذه النفس، وما أغرب شأنها، هذه النفس المزدوجة القابلية، التي فيها قابلية الطهور وقابلية الفجور، وهي إلى الفجور أقرب، يقول ربنا: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها).

إن النفس البشرية بطبيعتها تحب الراحة والدعة وتنفر من البذل والاجتهاد والعطاء، تحب الشهوات والملذات، وتنفر من الجد والمبرات، بل ما أعجبها حين تنتقل من مرحلة حب الشهوات، إلى مرحلة الأمر بالسوء والمخالفات، قال تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) ما أخطر أمرها وهي تأمر بالشرك وتحاول تحطيم أسوار التوحيد.

قال الله تعالى حاكيا عن السامري وهو يجادل موسى عليه السلام حين سأله عن سبب اتخاذه العجل، ودعوته بني إسرائيل لعبادته: (قال فما خطبك يا سامري، قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي)، ما أشد ضراوتها وهي تأمر صاحبها بالقتل، انتقاما لحسد كامن فيها: (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين)، ما أفتكها وهي تجرئ صاحبها على أن يفرق بين الأب وابنه: (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا).

ما أعجب أمرها حين تستيقن من الحق ومع ذلك تصر على الباطل (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)، وما أعظم الأمر والله تعالى يعلم ما في النفوس، (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله)، فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، بل يسمع سبحانه حديث نفسك (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول)، في ظل هذه الأمور العظيمة التي تشعر العبد بأنه تحت رقابة الله، سواء سره أو علانيته، وفي غمرة هذه الفتن التي تموج كموج البحر، لا يبقى للعبد الراغب في نجاته إلا مجاهدة نفسه، ونهيها عن الهوى، وذلك والله جهاد وأي جهاد، لذلكم يقول صلى الله عليه وسلم: (والمجاهد من جاهد نفسه في الله)، قال عز وجل: (وجاهدوا في الله حق جهاده)، قال الإمام عبد الله ابن المبارك في تفسيرها: هو جهاد النفس والهوى..

نعم، الأمر صعب وشاق، لكن في المقابل تؤنسك بشرى الله لك: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين)، فالخطوة الأولى عليك، ثم يأتيك المدد الرباني من حيث لا تحتسب، إن طريق الهداية طويل، لكن أول وأهم خطوة فيه هي المجاهدة.

والبشارة الثانية من خليفة راشد وهو سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي قال وكأنه يهون عليك مشقة العمل الصالح، ويروح عليك بمراوح الرجاء (أحب الأعمال إلى الله ما أكرهت عليه النفوس).

والبشارة الثالثة أن النفوس اليوم قد ضعفت، والشهوات قد استعرت، ومن ثم كان الثواب اليوم أعظم والأجر أوفى، يقول عبد الله ابن المبارك رحمه الله: (إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا إلا على كره ينبغي لنا أن نكرهها عليه)، يقول هذا وهو الإمام المجاهد الصالح، وفي زمن الأعلام والأئمة، فماذا نقول نحن اليوم في زمن الفتن المزخرفة، ومثله سيدنا الإمام الشاطبي حين يقول في لاميته:

وهذا زمان الصبر من لك بالتي***كقبض على جمر فتنجو من البلا

وإليكم تجربة جهادية للنفس يقترحها عليكم الإمام العلم، سيدنا ابن الجوزي رحمه الله، يقول: (تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلا من الحلاوة، ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب، ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعا، ومن لقمة ربما حرمت لقيمات، فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها، بل يرخي لها في وقت والطول بيده، فإذا ما مالت ردها باللطف، فإن ونت وأبت فبالعنف، ،فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق ،وتتعرض للدنيء من الأخلاق، أن يعرفها تعظيم خالقها فيقول: ألست التي قال فيك: خلقتك بيدي، وأسجدت لك ملائكتي، وارتضاك للخلافة في أرضه، وراسلك واقترض منك واشترى، فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة، وإن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد، وإن ونت في العمل حدثها بجزيل الأجر، وإن مالت إلى الهوى، خوفها عظيم الوزر، ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية، كقوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم)، والمعنوية كقوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل..) انتهى كلامه رحمه الله.

فهل جربنا جهاد النفس، وهل حملناها على مخالفة ما تهوى، (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى).

أما الذين يرون أن الجهاد هو التفجير والترويع وقتل الأبرياء وتخويف الآمنين، فهؤلاء ما عرفوا حقيقة الإسلام، وما فهموا سنة سيد الأنام، وما شموا رائحة العلم الذي به يعرف الحلال من الحرام، وحسبنا الله ونعم الوكيل من كل من يحاول تشويه ديننا بمثل هذه الأعمال، وحسبنا الله ممن يستغلون هذه الأعمال ليطعنوا في الشرعة الزكية الخلال، حسبنا الله ونعم الوكيل.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، محبكم وحافظ عهدكم وودكم عمر بن أحمد القزابري.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M