حتى نحفظ عقولنا من الضياع (ج3).. العقل والنقل

22 يونيو 2019 00:16
"التوحيد !..التوحيد.... ! يا علماء المغرب...

هوية بريس – د. يوسف فاوزي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم سليما مزيدا، أما بعد:

العقل والنقل:

أنزل الله الوحي دستورا لعباده، وناموسا كونيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كلام معجز بلفظه وتشريعه، موافقا للعقول في مسلماتها وللطباع البشرية في حدود طاقاتها، فلا تناقض بينها ولا تضاد.

وإن مسألة النص الشرعي (النقل) كانت الفيصل بين المؤمنين المسلّمين، وبين العقلانيين الغالين في إعمال عقولهم في الفهم حتى أوصلهم إلى تعطيل النص مقابل العقل حال تعذر الجمع بينهما، فهما اتجاهان اتجاه أثري وآخر بدعي.

يقوم الاتجاه الأثري على التسليم التام للنص لكونه تشريع الحكيم الخبير، مقابل الاعتراف بقصور العقل عن الإدراك الكلي للحكمة التعليلية لكل حكم شرعي، ولقد قرر القرآن الكريم هذا الاتجاه في قوله سبحانه (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).(النساء، 56)، وقال سبحانه (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، (التوبة،124)، وهذا الموقف لا يناقش في تقريرات القرآن أحكاما كانت أو أخلاقا أو عقائد، فهو يذعن الإذعان التام ويصدق التصديق المطلق، فلا يناقش في قوله سبحانه (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، (النمل،17-19)، فالنقل هنا يحكي حكاية سليمان عليه السلام مع نملة تكلمت كلاما فهمه سليمان عليه السلام فهما لم يمكن منه أحد من الخلق، وهذه مشيئة الله وحكته لا معقب لها،

وكذلك في حوار الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام، بعد هذه الآية (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ . لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ . فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ . وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ . أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ . اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)، (النمل، 20_28).

ومذهب أهل السنة والجماعة التسليم لهذه النصوص بما ذكرت، وأن الله سبحانه يجعل للجمادات وغيرها من المخلوقات فهوما تعقل بها، قال ابن القيم رحمه الله (قَالَ أَبُو إِسْحَاق جَائِز أَن يكون الله سُبْحَانَهُ جعل لأمثال الذَّر الَّتِي أخرجهَا فهما تعقل بِهِ…وَقد سخر مَعَ دَاوُد الْجبَال تسبح مَعَه وَالطير، وَقَالَ ابْن الأنبارى مَذْهَب أهل الحَدِيث وكبراء أهل الْعلم فِي هَذِه الْآيَة أَن الله أخرج ذُرِّيَّة آدم من صلبه وأصلاب أَوْلَاده وهم فِي صور الذَّر فَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق أَنه خالقهم وَأَنَّهُمْ مصنوعون فَاعْتَرفُوا بذلك وقبلوا وَذَلِكَ بعد أَن ركب فيهم عقولا عرفُوا بهَا مَا عرض عَلَيْهِم كَمَا جعل للجبل عقلا حِين خُوطِبَ وكما فعل ذَلِك بالبعير لما سجد والنخلة حَتَّى سَمِعت وانقادت حِين دعيت)[1].

والله سبحانه يعلم الحيوان والجماد منطقا من القول يعينه على الفهم والتواصل مع غيره، ولقد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تقريب وتقرير هذه المسألة فقال (…بل نحن نجد أن الله يلهم الحيوان من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض وقد سمي ذلك منطقا وقولا في قول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16]، وفي قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] وفي قوله: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10].

وكذلك الآدميون، فالمولود إذا ظهر منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى فصار يفهم أن ذلك اللفظ يستعمل في ذلك المعنى أي: أراد المتكلم به ذلك المعنى ثم هذا يسمع لفظًا بعد لفظ حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على وضع متقدم، بل ولا أوقفوه على معاني الأسماء وإن كان أحيانا قد يسأل عن مسمى بعض الأشياء فيوقف عليها كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معاني ألفاظها وإن باشر أهلها مدة علم ذلك بدون توقيف من أحدهم)[2].

فإذا كان الطفل قبل نطقه يفهم مراد الكلمات، فالله قادر على أن يفهم غيره من الحيوان معاني نطق بني آدم والعكس، فعلم من هنا انتفاء التعارض بين العقل والنقل في هذه المسألة.

اقرأ أيضا: حتى نحفظ عقولنا من الضياع (ج1)

ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم من أهل هذا المنهج الرباني الأصيل، مقدمهم فيه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، فعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ” لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ فَمَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ)[3].

فأي إيمان هذا الذي يدفع برجل وسط صحراء جزيرة العرب قبل ألف وأربعمائة عام أن يصدق قصة ذهاب رجل من مكة إلى بيت المقدس ورجوعه لها في ليلة واحدة؟؟؟، هذا هو الصديق رضي الله عنه، لم ينل هذه المنزلة إلا بهذا الإيمان الصادق الذي تغلغل في عروقه ورسخ في قلبه، مسلما لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم أولا، ولوحي السماء ثانيا (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، (الإسراء، 1).

ولقد اتخذ الصحابة مع النص منهجا واضحا يقتضي تقديم النقل على عقولهم، فعن علي رض الله عنه قال: (لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ»)[4].

فمقتضى القياس العقلي أن أسفل الخف أكثر عرضة للتراب والأقذار فكان أولى بالمسح من أعلاه، ولكنه النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى، حتى صارت هذه المسألة معلما من معالم عقيدة أهل السنة والجماعة، يقول الإمام الطحاوي رحمه الله (ونرى المسح على الخفين، في السفر والحضر، كما جاء في الأثر)[5].

وبلغت أحاديث المسح على الخفين مبلغ التواتر ورويت عن أكثر من سبعين صحابيا[6].

ولقد سار الرعيل الأول من هذه الأمة على هذا المنهج الصفي في الجمع بين العقل والنقل حتى خرجت في الأمة فرقة الخوارج فعكست الطريقة ليكون العقل عندها هو المقدم وهو الحكم حال تعرضه مع النقل.

فعن معاذة قالت: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ. فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. قَالَتْ: «كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ»[7].

والحرورية[8] من فرق الخوارج كانت تقيس الأمور بالرأي حتى لو ورد فيها النص، ونسوق هنا شاهدا يدل على هذا المنهج العقلي، فعن عبد الله بن بريدة، قَالَ: (شَكَّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فِي الْحَوْضِ، وَكَانَتْ فِيهِ حَرُورِيَّةٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمُ الْحَوْضَ الَّذِي تَذْكُرُونَ مَا أَرَاهُ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: عِنْدَكَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ فَأَرْسَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ، فَحَدَّثَهُ حَدِيثًا مَوَثَّقًا أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ أَخِي، قَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِي حَدِيثِ أَخِيكَ !!!)[9].

فانظر كيف رد نصا في إثبات الحوض يوم القيامة لكونه يتعارض مع عقله، وهو المقرر ذكره في القرآن قبل السنة، قال سبحانه (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر، 3،2،1)، وبلغت أحاديث إثبات الحوض مبلغ التواتر[10].

ولقد كان هذا المسلك الاعتزالي مقدمة فاسدة في تاريخ الفكر الإسلامي، جرت الويل على معتقد الأمة في أصول دينها، مسببة الخلاف المقيت والتنافر والتناحر، يقول ابن القيم رحمه الله (وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا فسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله كم نفي بهذه الآراء من حق، وأثبت بها من باطل، وأميت بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة؟ وكم هدم بها من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل، بل هم شر من الحمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10])[11].

وهذا المنهج –تقديم العقل على النقل- هو عينه الذي ابتدعه إبليس لعقله الفاسد لما رفض أمر الله بالسجود لآدم، ليكون أول ذنب يعصى به الله عز وجل، قال سبحانه (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ . قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (ص،76)، فكل مقدم لعقله على النص الشرعي ففيه شبه بإبليس.

وعلى درب إبليس سارت المعتزلة والفلاسفة في كل زمان ومكان، مقدسة للعقل عابدة له، بالتأويل الفاسد المحرف للنصوص، ولنسمع إلى هذا الكلام النفيس لابن القيم رحمه الله مقررا لهذه النتيجة الفاسدة (وقد قيل: إن طرد إبليس ولعنه إنما كان بسبب التأويل فإنه عارض النص بالقياس وقدمه عليه وتأول لنفسه أن هذا القياس العقلي مقدم على نص الأمر بالسجود فإنه قال {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف12] وهذا دليل قد حذفت إحدى مقدمتيه وهي أن الفاضل لا يخضع للمفضول، وطوى ذكر هذه المقدمة كأنها مقررة لكونها معلومة وقرر المقدمة الأولى بقوله {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف12]، فكان نتيجة المقدمتين امتناعه من السجود وظن أن هذه الشبهة العقلية تنفعه في تأويله فجرى عليه ما جرى وصار إماما لكل من عارض نصوص الوحي بتأويله الباطل إلى يوم القيامة.

 ولا إله إلا الله كم لهذا الإمام اللعين من أتباع من العالمين وأنت إذا تأملت عامة شبه المتأولين التي تأولوا لأجلها النصوص وعطلوها رأيتها من جنس شبهته والقائل إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل من هاهنا اشتق هذه القاعدة وجعلها أصلا لرد نصوص الوحي التي يزعم أن العقل يخالفها كما زعم إمامه أن دليل العقل يخالف نص الأمر بالسجود حين قدمه عليه وعرضت لعدو الله هذه الشبهة من ناحية كبره الذي منعه من الانقياد المحض لنص الوحي وهكذا تجد كل مجادل في نصوص الوحي بالباطل إنما يحمله على ذلك كبر في صدره ما هو ببالغه قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر56] )[12].

ومما يتصل بهذا الكلام الإشارة إلى جهود علماء الأمة في رد هذه النظرية الفاسدة، فلا تذكر مسألة العقل والنقل إلا وذكر معها كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله “درء تعارض العقل والنقل”، ويسمى أيضا ّ”رد تعارض العقل والنقل” أو “بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول” أو “الجمع بين النقل والعقل“، أو “الجمع بين المنقول والمعقول[13]، وهو موسوعة عقدية فكرية مباركة تشهد بنقاء العقل المسلم ومدى قدرته على التوفيق السليم بين عقله ووحي دون أية مصادمة أو إشكال من قبيل إشكالات المعتزلة والمتفلسفة الذين ألحقوا بعقولهم التلف والضياع.

اقرأ أيضا: حتى نحفظ عقولنا من الضياع (ج2)

وسبب تأليف ابن تيمية رحمه الله لهذا الكتاب هو رد مقولة فخر الدين الرازي الذي قدم العقل على النقل متأثرا بتأليه المتفلسفة للعقل، وقد ضمه رحمه الله أهم أطروحات المتكلمين في هذه المسألة مع الرد عليها وفق نسق علمي رصين يشهد لتمكنه المعرفي رحمه الله.

والكتاب ألفه ابن تيمية رحمه الله بعد عودته من مصر إلى الشام ما بين 712_718هـ[14].

وموضوع هذا الكتاب ظاهر من عنوانه، فإن المتكلمين أتباع الرازي استشكلوا الجمع بين الدليلين النقلي والعقلي، وزعموا أن العقل أساس النقل، فإن تعارضا صار الجمع بينهما جمعا بين نقيضين، والجمع بين النقيضين قدح في الأصل الذي هو العقل، والقدح في الأصل قدح في الكل، فلزم بذلك تقديم العقل على النقل، ومصير النقل إما التأويل أو التفويض، واعتبروا هذه الطريقة قانونا كليا، وهذا القانون أخذ به من قبل الغزالي في كتابه “قانون التأويل“.

وهذه الطريقة –طريقة الرازي وأتباعه- هي أهون عند ابن تيمية من طريقة المتفلسفة والجهمية الذين كذبوا نصوص الوحي، وزعموا أن الأنبياء كذبوا فيها على العوام لتوافق سذاجة عقولهم، وهذه طريقة ابن سينا وابن سبعين وابن عربي ومتفلسفة الصوفية وملاحدة الإسماعيلية وأصحاب رسائل إخوان الصفا[15].

ولاحظ أيها القارئ الكريم صنيع الرازي وأتباعه مع النقل حال تعارضه مع العقل، وهو اللجوء إلى التأويل أو التفويض، فمن هنا نعلم منشأ نظرية التفويض أو التأويل عند بعض المدارس الكلامية في باب العقيدة لاسيما في باب الأسماء الصفات، لتفتح بذلك الباب أمام التعطيل والتشبيه وكل المناهج الفاسدة في هذا الباب المخالفة لهدي الصحابة ومن سار على دربهم في النفي والإثبات وستكون لنا إن شاء الله وقفات في الحلقات المقبلة مع هذه المناهج.

نعود لابن تيمية وكتابه، فإن من أهم مميزات هذه المعلمة العقدية الجبارة، أن ابن تيمية رحمه الله تناول هذا الموضوع وفق منهج فريد، يتمثل في النقل المباشر لأهم وأشهر نظريات أرباب المدرسة العقلية من كتبهم المتداولة في زمانه، ثم مناقشتها بالأدلة الدامغة التي يستدل بها قائلوها دون فهمها، وبهذا الصنيع يرسم ابن تيمية رحمه الله منهجا علميا رصينا يجعل العقل المسلم في حصانة من الشبهات الهدامة الزائفة التي يغتر بها الناظر للوهلة الأولى[16].

وقبل الختام نود أن نشير إلى أن كتاب “درء تعارض العقل والنقل” يعد ركنا متميزا في المكتبة الإسلامية، فهو بمتابة “نقطة نظام” في الساحة العلمية الإسلامية التي غزتها أفكار فلسفية بعيدة عن الهدي الرباني والفهم المنطقي السليم مسببة فوضى فكرية اغتر بها أرباب العقول التائهة، ونسوق شهادة حق في هذا الكتاب قالها تلميذ ابن تيمية البار ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه “طريق الهجرتين وباب السعادتين” في معرض حديثه عن موافقة الوحي لمقتضى الفطرة الإنسانية السليمة، يقول رحمه الله (ومن أراد معرفة هذا فليقرأ كتاب شيخنا وهو “بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح” فإنه كتاب لم يطرق العالم له نظير في بابه، فإِنه هدم فيه قواعد أَهل الباطل من أُسها فخرت عليهم سقوفه من فوقهم، وشيد فيه قواعد أَهل السنة والحديث وأحكمها ورفع أعلامها وقررها بمجامع الطرق التى تقرر بها الحق من العقل والنقل والفطرة والاعتبار فجاءَ كتاباً لا يستغنى من نصح نفسه من أهل العلم عنه فجزاه الله عز وجل عن أهل العلم والإيمان أفضل الجزاء، وجزى العلم والإيمان عنه كذلك)[17].

هذا عن مسألة التوفيق بين العقل والنقل، وهناك مسألة أخرى قريبة من هذا الموضوع وهي “التحسين والتقبيح العقليين“، نتكلم عنها بحول الله في الجزء المقبل، وبالله التوفيق.

يتبع…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) الروح لابن القيم (ص:163).

[2] ) الإيمان لابن تيمية (ص:76).

[3] ) رواه الآجري في الشريعة (رقم:1259)، والحاكم في المستدرك (رقم:4407) وقال (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (رقم:1430)، وابن بشران في أماليه (رقم:558)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/360)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/615).

[4] ) رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب كيف المسح (رقم:162)، والدارقطني (رقم:783)، وصححه الأرناؤوط في تخريجه لأبي داود (1/117)، والألباني في الإرواء (1/140).

[5] ) العقيدة الطحاوية بشرح ابن أبي العز (2/551).

[6] ) ينظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة لجلال الدين السيوطي (ص:52).

[7] ) رواه مسلم، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (رقم:335).

[8] ) نسبة إلى حروراء موطن قرب الكوفة اجتمعوا فيه لقتال علي رضي الله عنه، ينظر: الفرق بين الفرق (ص:57)، ومقالات الإسلاميين (1/112)، والمواعظ والاعتبار للمقريزي (4/185).

[9] ) رواه ابن أبي عاصم في السنة (2/322)، وصححه الألباني في ظلال الجنة (2/323).

[10] ) ينظر: قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي (ص:297).

[11] ) إعلام الموقعين (1/55).

[12] ) الصواعق المرسلة (1/370_372).

[13] ) وله غير ذلك من المسميات أشهرها الأول، ينظر مقدمة محقق الكتاب للدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله (1/4_6).

[14] ) نفسه (1/7).

[15] ) نفسه (1/11).

[16] ) أنصح القارئ الكريم للوقوف على معالم هذا المنهج قراءة دراسة المحقق فهي جد ماتعة.

[17] ) طريق الهجرتين (ص:155).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M