حتى نحفظ عقولنا من الضياع (ج1)

30 مايو 2019 17:39
"التوحيد !..التوحيد.... ! يا علماء المغرب...

هوية بريس – د. يوسف فاوزي

1- ماهية العقل:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم سليما مزيدا، أما بعد:

هي نعم غزيرة، يصعب على الواحد منا عدها، كيف لا والله سبحانه قد قرر لنا هذه الحقيقة فقال: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (سورة إبراهيم:34)، وجعل شرط بقائها والبركة فيها شكرها بحفظها وتصريفها في جانبها الإيجابي، قال سبحانه (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (سورة إبراهيم:7)، يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره للآية (وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفرادا وجماعات، أن يقابلوا نعم الله بالشكر، وأن يشكروها بالطاعة والعبادة لله، وأن يحذروا كفران النعم)[1].

وإن من أجل نعم الله علينا بعد نعمة الهداية لهذا الدين نعمة العقل، هذه النعمة التي ميزنا الله بها نحن معشر بني آدم عن سائر المخلوقات، وجعلتنا نستحق به تكريما على العالمين، قال سبحانه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (سورة الإسراء:70).

ومن أجل مظاهر التكريم تمييز ابن آدم بالعقل ليسلك به سبل التدبر والتفكر والفهم، مفرقا به بين النافع له والضار به، وبين الخير والشر، والحق والباطل.

فعلى العبد معرفة قدر هذه النعمة ووسائل حفظها ووجوه الانتفاع بها، وما يكون سببا في تضييعها وإفسادها ليحقق بذلك الانتفاع الأسلم بها مؤديا شكرها لموهبها الله جل جلاله.

* ماهية العقل: العقل في لغة العرب بمعنى الحابس عن ذميم القول والفعل، وهو نقيض الجهل[2]، لأن وقوع المرء في الرذائل دليل على جهله، وحبسه لنفسه عنها دليل تعقله.

وجمعه عقول ورجل عاقل وقوم عقلاء. وعاقلون. ورجل عقول، إذا كان حسن الفهم وافر العقل. وما له معقول، أي عقل[3].

وأما في اصطلاح العلماء فتمة تعاريف كثيرة له[4]، لخصها الحارث بن أسد المحاسبي (ت243هـ) في ثلاثة تعاريف، هي:

-أن العقل غريزة، فهو غريزة لا يعرف إلا بفعاله في القلب والجوارح لا يقدر أحد أن يصفه في نفسه ولا في غيره بغير أفعاله[5].

-وقال قوم من المتكلمين: هو صفوة الروح[6].

-وقال قوم هو نور وضعه الله طبعا وغريزة يبصر به ويعبر به[7].

وقيل أيضا في تعريفه: جوهر مجرد عن المادة في ذاته، مقارن لها في فعله، وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحد بقوله: أنا[8].

وقيل: العقل جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقًا ببدن الإنسان[9].

وقيل غير ذلك من التعاريف التي تكاد تتفق على أن العقل جوهر لا حس له مستقره قلب الإنسان يميز به بين الأشياء، ومن هنا نتوصل إلى أن مكان العقل هو القلب.

* مكان العقل: ذكرت بعض التعاريف السالف ذكرها للعقل أن مكان العقل هو القلب، وهذا أمر يعززه ما ورد في قوله سبحانه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، قال الشوكاني رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل، كما أن الآذان محل السمع، وقيل: إن العقل محله الدماغ ولا مانع من ذلك، فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجا عنه)[10].

ويشهد لهذا -أن محل العقل القلب- قوله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)[11]، قال النووي رحمه الله (واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب)[12].

وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن العقل محله الدماغ، وهو ما أشار أليه الشوكاني في كلامه القريب ذكره، ومن قبله الإمام النووي حيث قال: (وقال أبو حنيفة هو في الدماغ وقد يقال في الرأس… واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم ولا حجة لهم في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه ولا امتناع من ذلك)[13].

فالعقل ليس جوهرا قائما بذاته بل هو داخل في العلم والفكر والعمل وكل ما يتولد عن التفكر العقلي، قال ابن تيمية رحمه الله مقررا هذا الأمر (والمقصود هنا أن اسم العقل في اصطلاح جميع المسلمين بل وجميع أهل الملل وعامة بني آدم يراد به ما هو قائم بغيره سواء كان علما أو قوة أو عملا بعلم أو نحو ذلك، لا يراد به ما هو جوهر قائم بنفسه إلا في اصطلاح هؤلاء الفلاسفة)[14].

والجواب على قول من قال بأن العقل محله الدماغ أن (الدماغ هو العضو الموكل بتلقي المدخلات فيؤلف بينها ويصنع التصورات، أما إدراك معاني تلك التصورات المركبة فوظيفة القلب لأن القرآن صريح في أن عملية الفهم والفقه محلها القلوب التي في الصدور…فإن الدماغ إذا أصابه العطب لم يصنع التصورات التي هي موضوع الفهم ومادة الفقه، فلا تصل للعقل مواد المعاني أو أنها تصله مشوهة مضطربة، فلا يعقلها لأنها خالفت الوضع الذي يتيح نفسه بشكل مفهوم للعقل…فإن العقل، من حيث هو عملية انتزاع للمعاني، ليس في الدماغ، ولكن الدماغ لاقيمة له بلا عقل، تماما كما تفقد الوسيلة أهميتها بانتفاء غايتها، ولذلك أسعد الأقوال حظا بالصواب فيما بين أيدينا من كلام السلف هو قول من قال أن العقل في القلب وله اتصال بالدماغ)[15].

فالراجح إن شاء الله أن محل العقل القلب مع اتصاله بالدماغ لقوة دليله والله أعلم.

* قيمة العقل في الشريعة: اعتبرت الشريعة العقل وامتدحت صاحبه حال إعماله في جلب النفع ودفع الضر، وحرصت على حفظه من الإتلاف حتى عد من ضرورياته الخمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل[16].

وعليه حرم الشرع كل ما من شأنه إلحاق الأذى به كالمسكرات، وأقام على شربه العقوبة زجرا لصاحبه[17]، وما هذا إلا إمعانا في صيانته وحسن الانتفاع به.

ولقد امتدح القرآن أصحاب العقول السليمة أصحاب التفكر والتدبر في ملكوت الله، وندب إلى إعماله في هذا الباب، فقال سبحانه:

-(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء، 82).

-(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).(محمد،24).

-(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة، 266).

-(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).(آل عمران، 191).

-(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). (يوسف، 2).

-(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (النحل، 12).

-(لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). (الأنبياء،10).

فالشريعة أعملت العقل وأنكرت على من عطله، لأن إعماله يرفع العبد إلى درجة اليقين بنظره في آيات ربه ومآلات تصرفاته إن كانت على وفاق مع ميزان الشرع.

غير أن هذا الإعمال العقلي ليس مفتوحا غير مقيد، بمعنى أن لإعمال العقل حدودا رسمتها الشريعة تجاوزها اعتداء وهلكة.

* العقل مناط التكليف: جعل الله سبحانه وتعالى العقل سببا لتكليف العباد بتكاليف العبودية له سبحانه، وهو -العقل- شرط في العلم والإيمان، يقول ابن تيمية رحمه الله (فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع، والمعرفة المنجية من عذاب الله، وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له)[18].

ولذلك تجاوز سبحانه وتعالى عن فاقد العقل حال جنونه فأسقط عنه التكاليف، فعن علي رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ، عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ، – أَوْ قَالَ: الْمَجْنُونِ – حَتَّى يَعْقِلَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَشِبَّ)[19].

ويضاف إلى العقل العلم، وهو العلم الشرعي فلا يكفي اتصاف المكلف بالعقل وهو مع ذلك جاهل بخطاب الشرع، وإلا لم ينفعه عقله، قال ابن تيمية رحمه الله (الله يعرف ويعبد بالعلم، لا بمجرد الغريزة العقلية)[20]، ويزيد الأمر أكثر توضيحا بقوله (والعقل المشروط في التكليف لا بد أن يكون علوما يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس ولا بين أيام الأسبوع ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل. أما من فهم الكلام وميز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل)[21].

ومن هنا نفهم صنيع أهل العلم في كتب الفقه وأبواب العبادات ذكرهم شروط المكلف المطالب بالفعل ومن ضمنها أن يكون (عاقلا).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) أضواء البيان (9/112).

[2] ) معجم مقاييس اللغة (4/69).

[3] ) نفسه (4/69).

[4] ) ساق طائفة منها الحارث المحاسبي رحمه الله في كتابه “ماهية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه” (ص:201_212).

[5] ) ماهية العقل (ص:204).

[6] ) نفسه (ص:204).

[7] ) نفسه (ص:204).

[8] ) التعريفات للشريف الجرجاني (ص:151).

[9] ) نفسه (ص:151).

[10] ) فتح القدير للشوكاني (3/544).

[11] ) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه (رقم:52)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (رقم:1599).

[12] ) شرح مسلم للنووي (11/29).

[13] ) شرح النووي لمسلم (11/92).

[14] ) الصفدية (2/258).

[15] ) ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، عبد الله بن سعيد الشهري (ص:119_120) بتصرف.

[16] ) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي (2/20).

[17] ) ينظر: المستصفى للغزالي (ص:321)، والفروق للقرافي (3/263).

[18] ) درء تعارض العقل والنقل (9/20).

[19] ) رواه أحمد (رقم:956)، وابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم (رقم:2041)، وأبو داود، كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا (رقم:4398)، والترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء من لا يجب عليه الحد (رقم:1423)، والنسائي، كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج (رقم:3432)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/4).

[20] ) درء تعارض العقل والنقل (9/21).

[21] ) مجموع الفتاوى (9/287).

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. مقال في غاية الروعة والجمال يستحق الشكر والتقدير .ولا شك أن أستاذنا ودكتورنا فوزي قد جمع فأوعى في المسألة.فله منا جزيل الشكر والتقدير.

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M