حقيقة الإنسان بين كورونا والآذان (2)

08 يوليو 2020 14:17

هوية بريس – عبد الرزاق سماح

الحمد لله رب العالمين حمداً يبلغ رضاه، نحمده حمد الشاكرين، ونشكره شكر الحامدين، والصلاة والسلام على أشرف من اجتباه مبعوثا رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما لا يُدرَك مداه.

*…إن عالمنا اليوم في حاجة إلى قيم الدين، لأنها تتضمن الفضائل التي نلتزم بها أمام خالقنا رب العالمين، والتي تقوي فينا قيم التسامح والمحبة والتعاون الإنساني على البر والتقوى، لا في سماحتها وحسب، بل في استمداد طاقتها من أجل البناء المتجدد للإنسان، وقدرتها على التعبئة من أجل حياة خالية من الحروب والجشع، ومن نزعات التطرف والحقد، حيث تتضاءل فيها آلام البشرية وأزماتها، تمهيدا للقضاء على مخاوف الصراع بين الأديان…*

أما بعد:

قد يتساءل البعض عن الرابط في العنوان بين الإنسان وكورونا والآذان، وما العلاقة بينهم؟

فنقول مُتَّكلين على الله العليم الخبير بأنها علاقة فلسفية مادية وروحية بين الخلق والأمر، بين الغيب والشهادة، بين المادي والروحي، بين البداية والمآل، بين الداء والدواء، بين الماضي في الحاضر للمستقبل، بين الحق والواجب، بين حرية الاختيار وفردية التبعات، بين المسؤولية والمحاسبة، بين السعادة والشقاء.

إنها رحلة مع التاريخ الإنساني في الزمان والمكان في رحاب الكون كله، فالتاريخ ممتد من الدنيا إلى الآخرة، وهو فعل الإنسان وكسبه، ونجاحاته وأخطاؤه، وهو المسؤول في نهاية المطاف عن نتائج أفعاله. فالإنسان هو محور التاريخ، وهو المكلف بأن يحقق إرادة الله في التاريخ.

فنطرح تساؤلات عدة حول حقيقة الإنسان، والغاية من خلقه في هذا الكون، وما قيمته الحقيقية وسط الخلق كله، وما هو المآل والخاتمة لهذا الإنسان. وما هي الآثار التي يتركها بأفعاله وتصرفاته على الكون والحياة والإنسان؟ وماهي تصوراته وتوقعاته لسعادته في الحياة الدنيا والآخرة.

وسوف نقسم الموضوع إلى أجزاء ثلاث وهي: حقيقة الإنسان، ثم كورونا التي ترمز للابتلاء، وأخيرا الآذان الذي يرمز إلى الحرية والانعتاق من الأسر والتقليد.

حقيقة الإنسان بين كورونا والآذان

(1-2)

1-منهج التربية القرآني.

2-المساواة بين البشر.

3-البعد الروحي والمادي للإنسان.

4-علاقة النشاط المادي بالنشاط المعنوي في الإنسان.

 منهج التربية القرآني.

إن ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍلكريم ﻗﺪ ﻋني ﻋﻨﺎﻳﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺒﻨﺎﺀ ﻣﺎ يمكن ﺗﺴﻤﻴﺘﻪ بمنهج ﺗﺮﺑﻮﻱ ﻛﺎﻣﻞ ﺗﺄﺧﺬ ﻛﻞ ﺣﻠﻘﺔ ﻓﻴﻪ ﺑﻌﻀﺪ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺣتى ﻳﺒﻠﻎ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﻭﻳﺼﻞ ﺇلى ﺍلمنتهى ﰲ ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻘﻠﻴﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺷﺨﺼﻴﺘﻪ. ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺣُﺪّﺩَﺕ ﻣﻬﻤﺔ ﺍﻟﻨبي ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼﻡ ﺑﺪﻋﻮﺓ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ:(ﺭﺑﻨﺎ ﻭﺍﺑﻌﺚ ﻓﻴﻬﻢ ﺭﺳﻮﻻ ﻣﻨﻬﻢ ﻳﺘﻠﻮ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺁﻳﺎﺗﻚ ﻭﻳﻌﻠﻤﻬﻢ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺍلحكمة ﻭﻳﺰﻛﻴﻬﻢ ﺇﻧﻚ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﻌﺰﻳﺰ ﺍلحكيم ). (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ : 129). ففي هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-نجد سمات الموازنة بين متطلبات الروح والجسد، لأن دين الله موافق للفطرة البشرية الطبيعية، يراعي حاجات الروح ومطالب الجسد، ويوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، يُهذب غرائز الإنسان ولا يتجاهلها كما كان يحدث في كثير من الأمم السابقة، والتي كانت غارقة في المثاليات المخالفة للفطرة البشرية مثل الرهبانية وغيرها. فمنهج التربية القرآني جعل الميزان هو الاعتدال، لأن الإنسان مزيج من روح وجسد، بل تشكلت إنسانيته بالروح والبدن المادي، فلا يجوز أن يطغى أحدهما على الآخر، ولكل من الروح والجسد المادي حقوقه وخواصه، وقد خلق الله سبحانه لكلٍ منهما حاجته وما يتناسب معه باعتدال. وغلبة أحد الجانبين على حساب الجانب الآخر؛ سيؤدي إلى خللٍ في بناء الذات، وانحراف عن منهج الإسلام.

لكن ﺍلحضارة ﺍلمعاﺻﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺃﺳﺪﺗﻪ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺧﺪﻣﺎﺕ في ﻋﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻭﺍﻟﺘﺴﺨير، ﻭﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺃﻧﺘﺠﺘﻪ ﻣﻦ ﻋﻠﻮﻡ ﻭﻣﻌﺎﺭﻑ ﻭﺁﺩﺍﺏ ﻭﻓﻨﻮﻥ – ﺑﻘﻄﻊ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ – لم ﺗﺴﺘﻄﻊ ﺃﻥ ﺗﻘﺪﻡ »ﺃﻃﺮﺍﹰ ﻭﻭﺳﺎﺋﻞ ﺗﺮﺑﻮﻳﺔ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻫﺎﺩﻓﺔ« يمكن ﺃﻥ نجد ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﺴﺎﻋﺪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺗﻘﻮيم ﻧﻔﺴﻪ، ﻭ تهذﻳﺐ ﺳﻠﻮﻛﻪ، ﻭﺗﺮﺑﻴﺔ ﺫﺍﺗﻪ.

فلقد ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍلمسيحي في ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﻮﺳﻴﻂ ﻣﺼﺪﺭ ﺍلمعرﻓﺔ، ﻭﻣﺼﺪﺭ ﺍﻟﻔﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ، ﺃﻣﺎ ﰲ ﻋﺼﺮ ﺍﻟﻨﻬﻀﺔ ﺍﻷﻭﺭﻭﺑﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﺻﺎﺭ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﺼﺪﺭ ﺍلمعرﻓﺔ ﻭﺍﻟﻔﻦ، وﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﺳﺎﺩ الحس ﻭﺻﺎﺭ ﻣﺼﺪﺭﺍ ﻟﻠﻤﻌﺎﺭﻑ ﻭﻟﻠﻔﻨﻮﻥ ﻛﺬﻟﻚ، ﻭتجاﻭﺯ ﺍلحس ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻭﺻﺎﺭ ﺳﻴﺪ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻓﺤﺼﺮ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﰲ ﺯﻭﺍﻳﺎ ﺍلمختبرﺍﺕ ﻭﺣﻘﻮﻝ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺏ، ﻭﺃﺧﺮﺝ ﻣﻦ ﺩﺍﺋﺮﺗﻪ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻻ يخضع ﻟﺴﻠﻄﺎﻧﻪ، ﻭﺣﺼﺮ ﺍﻟﻔﻦ ﰲ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺃﺿﻴﻖ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﻓﺒﺪﺃﺕ ﺗﺘﻼﺷﻰ ﻭ تهبط ﻭﻳُﻀﻴﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍلخناﻕ.

ﻭﺃﻣﺎ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻓﺼﺎﺭﺕ ﻏﺎﻳﺘﻬﺎ ﻭﻣﺜﻠﻬﺎ ﺍﻷﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺪﺭﺍﺕ ﺍﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻓﻘﻂ ﻻ ﻏير، ﻳُﺰﻭَّﺩُ بها ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺴﺎﺑﻖ بها ﺍﻵﻟﺔ ﺍﻟتي ﻛﺜيرﺍﹰ ﻣﺎ ﺗﺘﻔﻮﻕ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺗﺘﺠﺎﻭﺯﻩ، ﻭﻗﺪ ﺗﺴﺤﻘﻪ ﺃﻭ ﺗﺮﻣﻲ ﺑﻪ ﺇلى ﺯﻭﺍﻳﺎ ﺍﻟﺒﻄﺎﻟﺔ ﻭﺍﻟﻌﻄالة. ﻓﻠﻴﺲ ﻏﺮﻳﺒﺎ – ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ – ﺃﻥ يجد ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻗﺪ ﻣﻸﻫﺎ ﺍلخوﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﻫﻮ ﺑَﻴﺘُﻪ، ﻭﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﻫﻲ ﺃُﻣُّﻪ، ﻭﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻫﻮ ﺃَﺧﻮﻩ، ﻭﺍﻟﻐﻴﺐ وﻫﻮ ﻋﻮﻧﻪ ﻭﺭﺍﺋﺪﻩ ﺇلى ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻪ، ﻓَﻴَﺒْﻬﺮ ﻣﻦ ﺧﻮﻓﻪ المترﺍﻛﺐ ﺇلى ﺗﻐﻴﻴﺐ ﻋﻘﻠﻪ في ﺍﻟﺴﻜﺮ ﻭﺍلمخدﺭﺍﺕ، ﻭﻫَﺪﻡ ﺫﺍﺗﻪ ﰲ ﺍلجنس ﻭﺍﻻنحرﺍﻓﺎﺕ، ﻭﻗﺪ ﻳﻨﺼﺮﻑ ﺇلى ﺗَﺪَﻳُّﻦ ﺷﺎﺋﻪ ﻧﺎﻗﺺ ﺃﻭ ﻗﺎﺻﺮ ﺃﻭ ﻣﻨﺤﺮﻑ ﻻ يختلف في ﺇﺿﺮﺍﺭﻩ ﺑﺎﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍلحياﺓ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﺍلمدﻣﺮﺓ، ﻭﻫﻨﺎ ﻗﺪ ﺗﺼﺒﺢ ﺍلجريمة ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻐيير، ﺑﻞ ﻭﺍلمتعة ﺍلمطﻠﻮﺑﺔ ﻭﺍﻟﻌﻴﺎﺫ ﺑﺎلله. ﻭﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻻﻧﺘﺤﺎﺭ ﻭﺇنهاﺀ الحياﺓ جماﻋﻴﺎ تجرﺑﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺏ، ﺃﻭ ﻓﺮﺩﻳﺎ ﻟﻠﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﺭتها ﺃﻭ ﺁﻻﻣﻬﺎ ﺃﻭ ﺗﻔﺎﻫﺘﻬﺎ، ﺃﻭ ﺃﻋﺒﺎﺋﻬﺎ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻓﺈﻧﻪ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ ﺃﻋﻠﻦ ﻋﻦ ﻣﻘﺎﺻﺪﻩ ﺍﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ ﻭﺃﻫﺪﺍﻓﻪ ﻭﻏﺎﻳﺎﺗﻪ ﻭﻗﻴﻤﻪ الحاﻛﻤﺔ. ﻭﻭﺿﻊ ﺫﻟﻚ ﻛﻠﻪ ﺣتى ﺗﺒﻠﻎ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﺍﻷسمى ﺃﻻ ﻭﻫﻲ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﰲ ﺍﻟﺪﺍﺭﻳﻦ ﺑﺸﺮﻭﻃﻬﺎ ﻭﺃﺭﻛﺎنها ﻭﺿﻮﺍﺑﻄﻬﺎ. ﻓﺄﻋﻠﻰ ﺍلمقاﺻﺪ ﺍﻟﺸﺮﻋﻴﺔ، ﻭﺃسمى ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍلحاﻛﻤﺔ ﺛﻼﺛﺔ هي: ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ، ﺍﻟﺘﺰﻛﻴﺔ، ﻭﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ. وهي تمثل مقاصد وﻗﻴﻤﺎ ﺣﺎﻛﻤﺔ في ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺫﺍﺗﻪ، ﻭﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺇلى ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﻴﻢ ﺍﻟﺜﻼﺙ ﺍﻟتي ﻫﻲ ﻣﺘﺮﺍﺑﻄﺔ ﻻ ﻳﻨﻔﻚ وﻻ يمكن ﺃﻥ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﺃﻱ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﻦ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ:

# ﻓﺎﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺘﺰﻛﻴﺔ ﻭﻫﺪﻓﻬﺎ ﻭﻭﺳﻴﻠﺘﻬﺎ في ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺫﺍﺗﻪ. فهو قيمةٌ معيارية عليا تختصّ أساساً بالرؤية الإسلامية للإله الخالق المدبِّر، وتُقوَّم بها معتقدات الإنسان، وآثارها في فكره وحياته. ﻭﻻ ﻳﺒﺪﻭ ﺃﺛﺮ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﺑﺪﻭﻥ ﻓﻌﻞ ﻋﻤﺮﺍني ﻳﻨﺒﻪ ﺇلى ﺍﻷﺑﻌﺎﺩ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻌﻘﺪﻳﺔ ﻭﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺎﻡ ﺑﻪ.

# ﻭﺍﻟﺘﺰﻛﻴﺔ ﻻ ﺗﺘﺤﻘﻖ ﺑﺪﻭﻥ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ، ﻭﻻ ﺗبرﺯ ﻭﻻ ﺗﻈﻬﺮ. فهي قيمةُ معيارية عليا تختصّ بالرؤية الإسلامية للإنسان المخلوق المستخلف، يُقَوّمُ بها سلوكه وجهود ترقيته في مراتب التزكية في جسمه وعقله وقلبه، وفي سلوكه وتصرفاته، وفي ماله وممتلكاته، وفي أنظمته وعلاقاته في حياة الفرد والمجتمع.

# ﻭﺍﻟﻌﻤﺮﺍﻥ ثمرﺓ ﻟﻠﺘﻮﺣﻴﺪ ﻭﺍﻟﺘﺰﻛﻴﺔ ﻣﻌﺎ، ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻠﻰ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ ﻭﺑﺸﺮﻭﻃﻪ ﺑﺪﻭنهما. فهو أيضا قيمة معيارية عليا تختصّ بالرؤية الإسلامية لوظيفة الإنسان في الكون المستخلف فيه، وتُقاس بها قيمةُ الحياة في عُمُر الإنسان الفرد، أو عُمُر الجماعة أو الأمة، وسائر الجهود والإنجازات الحضارية العُمرانية» للفرد أو الجماعة أو الأمة «.

فالتوحيد هو الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، وهي حقيقة تستمد قيمتها من ذاتها، وعنها يصدر غيرها من الحقائق.

والكون كله خاضع بالفطرة لمقتضيات التوحيد، فإذا أراد الإنسان أن ينسجم مع فطرة الكون، فلا بد له من أن يتزكى، فيتوجه إلى الله وحده بالعبادة، فالتزكية موضوعها الإنسان المستخلف، وهو موضوع الإصلاح في الواقع الإنساني، وَفقاً لما يهدي إليه الخالق الواحد من رعاية مخلوقاته وتدبير شؤونها، لذلك فإنَّ التزكية هدف العُمران ووسيلته، وهي تدخل في صميم البناء الاجتماعي والعمران البشرى.

ﻓﻤﻨﻬﺞ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁني ﺑﺪﺃ ﺑﺒﻨﺎﺀ ﺩﻋﺎﺋﻢ ﺍﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﺍﻹﻧﺴﺎني ﻣﻊ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻐﻴبي ﻭﺍﻟﺒﻴﺌﺔ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ، ﻭﻣﻊ ﺑﻴﺌﺘﻪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﰲ ﺇﻃﺎﺭ ﺗﻠﻚ ﺍلمقاﺻﺪ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ، ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﻛﺘﺎﺏ ﷲ ﺗﻌﺎلى ﻛﺘﺎﺏ ﺍﺳﺘﺨﻼﻑ ﻫﺎﺩﻑ ﺟﺎﺀﺕ ﺁﻳﺎﺗﻪ ﻛﻠﻬﺎ في ﻧﻈﺎﻡ ﺩﻗﻴﻖ، ﻻﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﻨﺘﻬﻲ في ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻮﻋﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺍﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﺑﻪ ﺇلى تحقيق ﻫﺬﻩ ﺍلمقاﺻﺪ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ، ﻭﺇﻋداﺩ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺘﺰﻛﻴﺔ ﻋﻘﻠﻴﺎ ﻭﻧﻔﺴﻴﺎ ﻭﺟﺴﻤﻴﺎ.(5)

 2-المساواة بين البشر.

يقرر الإسلام أن كافة الخصائص والملكات المشكلة لإنسانية الإنسان موجودة لدى كل البشر بالفطرة التي فطر الله الناس عليها. ولا موضع في الإسلام للتمييز ضد أي إنسان، بدعوى أن تلك الخصائص والملكات لم تكن متوفرة لديه، أو أنها كانت متوفرة في فترة ثم فقدت بسبب خطيئة ارتكبها الفرد، أو ارتكبها أسلافه، أو ارتكبها رفاقه.

وكما قرر الإسلام أن كل البشر والمخلوقات سواسية أمام الخالق سبحانه، وأن لا إنسان ولا مخلوق أقرب بذاته وليس بعمله إلى الله تعالى من غيره من نوعه ولو بمثقال ذرة، من حيث المبدأ. فكل ما بالكون مخلوق يقف على الخط الفارق بين الطبيعي وبين المتعالي، بحكم المبدأ الأول المتمثل في كون الله تعالى هو المتفرد بموضع القيمة العليا، وإليه المنتهى، والإسلام كان على الدوام رسالة للعالمين. وسجّلُ المسلمون فيما يتعلق بمسألة التسوية بين كل البشر سجلا ناصع البياض، على نحو لا يرقى إليه سجل أي أمة أخرى. حيث يقرر الله عز وجل في محكم القرآن الكريم بكل وضوح وقوة أن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات :13)

ويقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1)

ولم يربط الإسلام مبدأ المساواة بثقافة أو حضارة بعينها، فالمبادئ الأخلاقية التكوينية للإنسانية في المنظور الإسلامي ثابتة ومُسلّم بها لأي إنسان حتى لو كان منتميا إلى دين غير الإسلام، أو إلى ثقافة أو إلى حضارة أو إلى عصر آخر، أو حتى لو كان أو لا يزال عبدا، نتيجة تبعات فعل قومه في التاريخ.

ففي صحيح البخاري نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم:

« كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ». (6)

 الوجه البشع للغرب.

*على قدْر ما تقدّم الغرب كثيراً وتطور مادياً وتقنياً، على قدْر ما تخلّف روحياً وإنسانيا…

وعن ذلك التقدم لن أقول شيئا.

(وليس يصح في الأذهان شيء ++ إذا احتاج النهار إلى دليل)

ما أقصده بالغرب هنا هو سياسات الدول ومناهجها الاستراتيجية، وليس العنصر البشري الأبيض الذي لا يقل إنسانية عنّا. ففي المجال الإنساني سطر الغرب للتاريخ ترسانة هائلة من الحقوق الحامية للحياة والحرية والسلام والكرامة… وعقد لذلك المؤتمرات والندوات، وأسس لذلك المؤسسات والأليات والبرامج والتطبيقات…

بل أقام مَحكَمات ومُحاكمات… هذا كله موجود وكله محمود. وأمام هذا كله انبهر الناس، واستسلم الناس… وانقادوا للغرب انقياد الدابة لمالكها… سكارى وما هم بسكارى ولكن سحر التكنولوجيا شديد.

فالتقدم التكنولوجي ليس حكراً على الغرب، فعلى الرغم من الاحتكار الذي مارسه هذا الغرب في هذا المجال إلا أنه بقدرة قادر انتشر في الشرق كذلك وأصبحت الصين وروسيا والهند وكوريا واليابان تضاهي الغرب في كل ما هو تكنولوجي بل وتتفوق أحيانا في مجالات شتى. وفي الواقع، ليس العقل الغربي وحده الرائد، بل إن الأدمغة العربية والأفريقية وغيرها ساهمت في تلك الريادة العلمية بيقين. الغرب استجلب الأدمغة النابغة واستثمر فيها واستثمرها.

وله في التهجير حيَلٌ وشؤون… وهذا موضوع آخر.

أجل، في المجال الإنساني الخالص، الغرب متخلف جداً، متخلف حتى عن بعض المجتمعات البدائية…. في الغرب لا يزال الإنسان الأسود إنسانا من الدرجة الثانية، أو إنسانا لا يستحق تلك الحقوق المعلنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولا تعنيه. بشرته السوداء لا تؤهله استئجار غرفة في فندق، أو الجلوس بجانب أبيض في حافلة أو حديقة. تؤهله فقط ليختنق تحت ركبة شرطي أبيض بمباركة زملاء بيضٍ، وفرجة “ممتعة” للمارة…

إنه امتداد للميز العنصري البغيض.

لا تحدثوني عن كرامة الآدمي في الغرب وهو يقتل بالرصاص الحي حتى وهو معاق على كرسي متحرك. الغرب هو من سرق ثروات الشعوب ونهبها بالقوة وبالصفقات الجائرة. وامتلك المواد الأولية بالحديد والنار تارة، وبالرشاوى والإيهام بالحماية تارة أخرى… وللغرب في النهب والسلب تألق وتفوق.

لقد حول الغرب المجتمعات البشرية إلى أسواق استهلاكية لفائض إنتاجاته بطرق غير أخلاقية، وغير إنسانية.

انظروا، الغرب ينهب المواد الأولية من طاقة ومعادن، ويعمل على استجلاب الأدمغة، ويستثمر فيها وبها كما قلت آنفاً… ثم يعيد ما فاض من مصنّعاته إلى بلدان العالم “المتخلف” بثمن غير بخْس. ولا تَسل عن تصديره لخردة الأسلحة الصدئة. والتحرش بالحكومات لبيع أسلحته المتطورة، أو قل لتجربة الجديد منها في الفتك والقتل والدمار.

قل لي أين الإنسانية وحقوق الإنسان في ذلك؟

أسوأ هتك لحقوق الإنسان على الإطلاق هو صناعة الدكتاتوريين وحمايتهم، ثم ضرب هذا بذاك، وافتعال الخلافات السياسية، وتغذية الأحقاد بين الشعوب، لا سيما حول الحدود التي هو من سطرها بالمسطرة أصلاً في غفلة من أهلها، أو تحت قهر استعماري مسلح. (انظروا إلى الحدود بين مصر والسودان وليبيا، إنها مسطرة بالمسطرة. قد يأتي الحدّ على دار فيجعل بيت النوم مصريا والمطبخ ليبيا وفناء البيت سودانياً).

يحدثوننا عن القيم: الحرية والسلام والكرامة والمساواة والحياة…

– ويحمون الطغاة بعد صناعتهم، ويصنعون “داعش” ومن على شاكلتها للتخريب والفوضى، أو المسوغ للتدخل.

– ويتنافسون على تقسيم الأوطان وخيراتها في واضحة النهار (ليبيا) نموذجاً.

– ويجثمون على شعوب بأكملها، يسلبون منها كل حرية واستقلال وتقرير مصيرها (فلسطين) نموذجاً.

– يبتزون حكومات كرتونية وحكاماً أغبياء من أجل الحماية الوهمية أمام عدسات الكاميرا (السعودية) نموذجاً.

– أيها السادة! حتى الطرق البيداغوجية التربوية والتعليمية يجربونها في أطفال شعوب أخرى قبل تطبيقها في بلدانهم.

– وحتى اللقاحات الطبية ينبغي تجريبها في الحيوانات ثم في البلدان المتخلفة قبل استعمالها في بلدانهم…

أرأيتم تخلّفاً أوضح من هذا؟ أرأيتم انحطاطاً إنسانيا كهذاً؟ أرأيتم همجية وجشعاً وانعدام حياءٍ كهذا؟

أرأيتم بشاعة ولؤما ونذالة واستعباداً كهذا؟ أما أنا فلم أقرأ في التاريخ مثيلا له، ولا شاهدت في واقع الناس ما يشبهه، ولن يطمس بريق التكنولوجيا بصري وبصيرتي…(7)

ومن آثار جائحة كورونا بروز العنصرية المقيتة ضد الأمريكيين ذووا الأصول الإفريقية ، ومشهد مقتل مواطن أمريكي أسود على يد الشرطة بوحشية شاهدٌ على ذلك، حيث تابَعتْهُ أنظار العالم بفضل الهواتف الذكية، أشعلت نارا للمظاهرات انتشرت في أمريكا أولا ثم في العالم كله، وأظهرت منظومة قيم جديدة ترفض العنصرية والظلم، وتنادي بالحرية والعدالة والمساواة في الحقوق المدنية ، وإزالة كل ما يرمز للعنصرية والعبودية في حياة الناس، فاتجهت هذه الموجة لإزالة كل تماثيل الشخصيات التاريخية التي عُرفت بتاريخها العنصري، أو تعاملها في تجارة العبيد من أفريقيا إلى أمريكا، المعروفة في التاريخ بالتجارة الثلاثية بين(أوروبا وإفريقيا وأمريكا)، وانتقلت العدوى إلى أوروبا لتنبش التاريخ المرير للدول الاستعمارية كفرنسا وإنجلترا وإسبانيا، اضطرت بعض الدول لإزالة تماثيل لشخصيات ذات تاريخ مشبوه، مشوب بالظلم والعنصرية وجرائم إنسانية موجودة في ساحات عمومية، لجعلها في متاحف لإخماد أو التقليل من شدة المظاهرات المشتعلة، ومازالت الوقائع تتفاعل، وسننتظر المستقبل لنعرف إلى ما ستؤول إليه الأحداث، لأن زمن ما قبل كورونا ليس كزمن ما بعدها.

بينما عالمية الإسلام تسمو على كل الفوارق بين البشر، وتعود بهم جميعا إلى الفطرة الأولى التي يولد عليها كل مولود. وهناك تُحدّد تلك العالمية ما حصل عليه الإنسان بفطرته، أو ما هو مؤهل له بحكم مولده. يقول الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)  (الروم :30)

ومما لا ريب فيه أن الإسلام يفاضل بين البشر على أساس العلم والحكمة والتقوى والفضيلة والاستقامة والأعمال الصالحة، والتوجه بالباطن والظاهر إلى مرضاة الله بالصلاح والإصلاح.

 – 3البعد الروحي والمادي للإنسان.

خلق الله تعالى الإنسان من جسدٍ وروحٍ، وهما مترابطان ترابطاً وثيقاً، ومتفاعلان تفاعلاً قوياً، لا ينفكّ أحدهما عن الثاني إلا بخروج روح الإنسان(الموت). فالأول معلوم، والثاني غيبي لا يعرف حقيقته إلا الله… ولكل منهما غذاء، فالجسد معلوم وغذاؤه معلوم، ودواؤه معلوم، ولدينا أبحاث وعلوم لا حصر لها تهتم بالجسد وغذائه وعلاجه، والرقي به وراحته، وتناسينا الروح!

*ومنذ فترة طويلة أصبحت الروح موضوعا دينيا بحتا، كما أن الجسد أضحى موضوعا علميا بحتا. وبما أنه لا يمكن معرفة الروح جيدا إلا مع العلم، لذا لم يُقَدّر رجال الدين الروح حق قَدرها. ولو شبهنا الدين بالروح والعلم بالجسد، كان افتراق الدين عن العلم كافتراق الروح عن الجسد، ونتيجة لهذا الحال أصبح الدين منغمسا في الأوهام والأحلام، وبالتالي بات بعيدا عن تقديم حلول مقبولة لمشاكل الحياة ومستجدات الأحداث. كما أن العلم الذي بعد عن الدين بات لا يستطيع أن يفرق بين الإنسان والحيوان، وأبرز ذلك القول بنظرية التطور، كما أصبح العلم وسيلة لكسب المال والجاه. وإذا استطعنا أن نقيم التوازن بين الدين والعلم، يمكن لهما تقديم الحلول والخدمات التي تتناسب مع الكرامة البشرية*.(8)

فما الجسد إلا مركبة للروح، واجب علينا أن نهتم به من أجل أن تقوم الروح بواجبها في عبادة الله وطاعته والاتصال به، أما ما حدث فإننا ارتقينا بالجسد حتى لا يبقى للروح أثر… فالإنسان مزيج من روح وجسد، بل تشكلت إنسانيته بالروح والبدن المادي، فلا يجوز أن يطغى أحدهما على الآخر، ولكل من الروح والجسد المادي حقوقه وخواصه وطعامه وغذائه، وقد خلق الله سبحانه لكلٍ منهما حاجته وما يتناسب معه باعتدال.

وحتى يحقق الأنسان السعادة الكاملة في حياته عليه أن يعنى بهما عناية فائقة تضمن صحتهما وازدهارهما، وصيانتهما من المَضَار. وديننا دين الاعتدال والتوازن، فلا غلو فيه ولا تغالي، ولا إفراط فيه ولا تفريط، فقد وازن الإسلام بين جانب الروح والمادة في الإنسان، فأعطى للبدن حقه، وللروح حقها، كما أنه دين دنيا وآخرة.

وانسجاما مع الاتجاه الواقعي الذي يلتزمه الإسلام الحنيف في تعامله مع الأشياء والحقائق والأحداث، فقد تبنّى نهجاً متميزاً في تلبية المطالب الروحية لدى الإنسان، حيث حرص على تلبية مطالب الأشواق الروحية من خلال أفضل السُّبُل وأقومها، مع المحافظة على خطة التوازن بينها وبين المطالب المادّية في كيان الإنسان. فالتوازن بين الروح والجسد حاجة إنسانية وتشريع ديني، ولكل من الجسم والروح أشواقه وحاجاته.

*وعندما نتدبر في هدي النبي – صلى الله عليه و سلم- نجد أن الاعتدال سمته، ورسالته كانت دوماً تحمل في طياتها الموازنة الحقيقية بين متطلبات الروح والجسد، و كان المنهاج التربوي الذي سلكه الإسلام الحنيف وفق هذين المحورين فريداً متميزاً يجعل الإنسان المسلم دائم التسبيح والذِّكر، ودائم الاتصال بالله ربّ العالمين، يَسبَح في ينابيع روحيّة تَمُدُّ جسور الصلة بالله الواحد الأحد، فينقلب الإنسان ريّاً رويّاً راضياً، إلا أنّها ليست نهاية المطاف.                                                                                                                        فالإسلام الحنيف يعطي العبادة مفهوماً شاملاً عميقاً، إذ كل عمل يعمله الإنسان تلبية وطاعة لله عزّ وجل فهو عبادة، وكل أمر ينأى ابن آدم عنه تقرُّباً وطلباً للثواب فهو عبادة، وكل سبيل يسلكه المؤمن وقد نَدَب الباري عز ّوجل إليه، فهو عبادة. *(9)   

فالعبادة خلافة في الأرض وتمكين وتسخير واستعمار لها بأمر الله ليعمرها الإنسان بالصلاح والإصلاح.

وهكذا يكون المسلم الذي هذا نهجه وكأنّه في خشوع دائم وتطلُّع دائم إلى الله عز ّوجل تجسيداً لقوله تعالى:

(قُل إنّ صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومَماتي لله ربّ العالمين). (الأنعام/ 162).

فالإنسان في بعده المادي والنفسي (الجسد والروح) متكامل مع بقية المخلوقات، وخاضع للسنن التكوينية، وغير مختار في الاستجابة لمقتضياتها. ومعنى ذلك أن البعد الروحي للإنسان المرتكز على الفهم والفعل الأخلاقي هو وحده الذي يخرج من نطاق السنن الإلهية التكوينية المحكومة بقاعدة: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (الذاريات: 56)

 3-علاقة النشاط المادي بالنشاط المعنوي في الإنسان.

*يحتل الاقتصاد الجانب الأكبر من اهتمام الإنسان في الحياة عامة، وفي العصر الصناعي خاصة، وتلك حقيقة لا ينكرها أحد. لكن بعض المفكرين قد استغلوها في حملتهم على هذا العصر؛ إذ إن الاقتصاد في رأيهم نشاط متعلق بالمادة، وبالتالي يكون العصر الصناعي ذاته عصر اهتمام بالمادة، لا يسمح بأي نوع من أنواع السمو الروحي أو المعنوي للإنسان. والحق أنه لا سبيل إلى فهْم الاقتصاد على حقيقته إلا إذا أدركنا أنه عملية إنسانية كاملة، لا عملية مادية خالصة. فالعقل البشري له الدور الأكبر في تشكيل الطبيعة خلال مراحل العمليات الاقتصادية، وبالتالي يكون الارتباط وثيقًا بين النشاط الاقتصادي وبين الجانب المعنوي للإنسان. فالحياة الاقتصادية السليمة تضع لنفسها هدفًا، هو تحقيق المطالب الحيوية الضرورية للإنسان، ثم تجاوزها إلى ما هو أعمق منها، وتلك صفة يغفلها الكثير من الكُتَّاب أو يتجاهلونها عن عمد، فتكون النتيجة إصدار أحكام باطلة تمامًا عن طبيعة الحياة الاقتصادية والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. والذي لا شك فيه أن تحرير الإنسان من عبودية الإرهاق المتواصل والتفكير المستمر في مطالبه الضرورية هدف معنوي رفيع. وكل أنصار «الروحية» ذاتهم يؤكدون أن الصورة العليا للإنسان هي صورة ذلك الذي يستطيع أن ينمِّي مواهبه وقدراته الخاصة، ويجد لنفسه -بعد عناء العمل -من الفراغ ما يسمح له بممارسة هذا النشاط الرفيع.

فحياة الإنسانية الرفيعة، تقتضي الاهتمام بالجانب المعنوي وبالقيم الروحية، التي لا يمكن أن تُمارَسَ إلا إذا ضمن الإنسان لنفسه اكتفاءً ماديًّا، ولم يَعُد البحث عن المطالب الضرورية للحياة هو الموضوع الوحيد لاهتمامه. فهذا الاكتفاء المادي، وتحقيق ضرورات الحياة، هو الشرط الأساسي لقيام حياة معنوية رفيعة. والاقتصاد هو النشاط البشري الذي يهتم بتوفير هذا الاكتفاء المادي للإنسان. إذن فالاهتمام بالحياة الاقتصادية وتركيز نشاطنا عليها أمرٌ يحتمه سعينا إلى الارتفاع بالإنسان معنويًّا، بل هو الشرط الأساسي للسمو الروحي للإنسان.

وبذلك يمكننا أن نصل إلى فهْمٍ صحيح لمشكلة علاقة النشاط المادي بالنشاط المعنوي في الإنسان؛ ذلك لأن الدعوة إلى الاهتمام بمعالجة المشكلات الاقتصادية والمادية للإنسان قبل غيرها من المشاكل دعوةٌ ذات هدف معنوي صرف؛ إذ هي ترمي إلى تخليص الإنسان من قبضة الاهتمام المفرط بضرورات الحياة اليومية، وهو الاهتمام الذي يقضي على كل احتمال لسمو الإنسان، أو سعيه إلى تحقيق أهدافه الروحية. وإذا شئنا أن نعبِّر تعبيرًا أدق عن العلاقة الحقيقية بين ما هو معنوي أو روحي في الإنسان، لقلنا إن المجالين متداخلان تمامًا، ولا يمكن تصورهما منفصلين. فالخطوة الأولى نحو الروحية في الإنسان هي الاهتمام بالمشاكل المادية، وعلينا أن نؤمن بأن تحرُّر الإنسان من سيطرة القوى الطبيعية هو أول مظهر من مظاهر شخصيته الحرة، بينما يُعَدُّ خضوعه لهذه القوى الطبيعية شر أنواع العبودية، والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا التحرُّر من سيطرة المادة عليه هو الاهتمام بالمادة ذاتها. ومن جهة أخرى يتضح لنا أن مَن يدعو إلى الترفُّع والسمو عن المادة يهدف بدعوته هذه -عن قصد أو عن غير قصد -إلى أن يظل الإنسان خاضعًا للمادة، ويبقى إلى الأبد عبدًا لها، ما دام «ترفُّعه» المزعوم سيؤدي به إلى أن يظل جاهلًا بأسرارها. *(10)

فماذا يكون موقفنا إزاء هذا التعديل الذي جَلَبَتْه الحضارة الصناعية الحديثة على العلاقة بين المادة والروح؟

إننا نحن المسلمين قد وُصِفْنَا طويلًا بأننا «روحانيون»، والمقصود من هذا الوصف هو أننا «نترفَّع» عن المادة، ونعلي من قدْر الوجه المعنوي من حياة الإنسان، ولا نعبأ كثيرًا بالمشاكل اليومية «الجزئية» بقدْر ما نهتم بالعموميات والروحانيات. والحق أن حضارتنا سوف تظل متخلِّفة عن ركب الحضارة العالمية طالما ظللنا متمسكين بوهم «الروحانية» هذا.

وليس معنى قولي هذا الحط من قدْر القيم الروحية أو الاستخفاف بها، بل ينبغي أن يُفْهَمَ هذا القول في ضوء الفكرة التي أكدنا فيها أن السبيل الأول إلى العلو بالمعاني الروحية في الإنسان، هو الاهتمام بمشاكله المادية والسعي إلى حلها. وسيكون من العبث أن يُقال لنا إن مشاكلنا تُحَلُّ عن طريق التمسُّك ﺑ «الروحانية».

– فمن المحال أن ننتظر سموًّا أخلاقيًّا من شخص جائع.

– ومن المحال أن ننتظر إنتاجًا فكريًّا من مريض هزيل.

والخطوة المنطقية الأولى هي أن نبدأ بإزالة هذا الشبح المخيف، شبح الجوع والفقر والحاجة والقلق والخوف من المستقبل، وبعد ذلك -وليس مطلقًا قبل ذلك -يمكننا أن ننتظر ارتفاعًا في الجانب المعنوي من حياتنا.

فالحضارة المعنوية السليمة لا تقوم إلا على أساسٍ من الرخاء المادي، وإذا ضاع هذا الأساس، استحال أن تظهر بيننا القيم الروحية أو تحتل المكانة التي نريدها أن تحتلها؛ أي إننا في حالة «الترفُّع» المزعوم عن المادة نفقد العنصرين معًا، وتضيع معنوياتنا مثلما نُحْرَم من مادياتنا.

على أن هذا الهدف (تحقيق حدٍّ معيَّن من الاكتفاء المادي للناس) يحتاج إلى جهودٍ مضنية وإلى وقت طويل؛ وسنكون حقًّا مهتمين ﺑ «المادة»، ولكن من أجل غرضٍ يعلو على المادة، وسنكون مهتمين ﺑ «الاقتصاد»، ولكن من أجل هدفٍ يتجاوز الاقتصاد.

فكلُّ ما نشاهده حولنا من انحراف ومن نزوع إلى الشذوذ أو الإجرام لا يُحَلُّ عن طريق الوعظ الأخلاقي والإرشاد الروحي، بل يُحَلُّ أولًا وأساسًا باقتلاع جذور الشر؛ أعني الحاجة المادية وعدم القدرة على تلبية المطالب الضرورية للحياة. وكل حل غير ذلك عبثٌ لا طائل تحته. فنحن إذن لسنا مفتقرين إلى المبادئ الأخلاقية، وليست مشكلتنا الحضارية في مرحلتنا الحالية هي فقدان القيم الروحية، بل إن هذا النقص في حقيقته نتيجة وليس سببًا؛ أعني أنه نتيجة لافتقارنا إلى ضرورات الحياة، وليس هو علة ما نعانيه في هذه الحياة من متاعب. هذه الكلمات -عن حضارتنا «الروحية» -أراها ضرورية بوجه خاص في الفترة الحالية من تاريخنا ومن تاريخ العالم؛ ذلك لأن خدعة «الروحانية» لم تَعُد تقتصر علينا نحن فحسب، بل لقد امتدت في الوقت الحالي إلى المسرح العالمي ذاته، وأصبحت واحدة من كبريات «الأساطير» التي تتعلَّق بها أوهام الكثيرين في مرحلة التحوُّل الحاسمة التي نعيش فيها.

ومن الغريب حقًّا أن تجد أشد الناس تعلقًا بالماديات بأحط معاني هذه الكلمة لا بمعانيها السليمة، هم الذين يدَّعون الدفاع عن القيم الروحية، وأن يبلغ هذا الادعاء ذروته في المجتمعات التي لا يحرِّكها إلا دافع الربح، ولا تنظر إلى بقية الأمم إلا على أنها وسائل تُسْتَغَل في تحقيق المآرب الخاصة للمسيطرين على هذه المجتمعات. هذا الانقلاب في الموازين، وهذه المغالطة الكبرى لم تصبح ممكنة إلا بفضل الخدعة القديمة التي وقعت فيها الإنسانية زمنًا طويلًا، والتي جعلت الناس يعتقدون أن بين الوجه المادي والوجه المعنوي لنشاط الإنسان تضادًّا أساسيًّا، وأن الاهتمام بأحدهما يستبعد الاهتمام بالآخر، فكانت النتيجة أن وُصفت كل محاولة لتنظيم المجتمع البشري على أسسٍ تكفل تحقيق ضروراته بأنها «مادية»، ولم يَدْرِ أصحاب هذا الوصف (أو ربما درَوا ولكنهم تغافلوا) أن الخطوة الأولى نحو كل بناء روحي سليم ينبغي أن تكون السيطرة على المادة، والتخلُّص من إلحاح مشاكلها بفهْم أسرارها وإخضاعها لتحكُّم الإنسان. وهذه الحقيقة ذاتها لم تُطرح على بساط البحث إلا بعد أن أُثيرت بصورة مُلِحَّة في العصر الصناعي الحديث، ولم يكن من الممكن حلُّها على أسسٍ سليمة إلا في ظل حضارة صناعية. (11)

فالشريعة الإسلامية تضمن تحقق حاجات الفرد الروحية ورغباته المادية بشكل متوازن ودقيق، وبما يضمن كرامته وشخصيته، فإن على قواعد هذه العقيدة يقوم بناء الشخصية، شخصية الفرد والمجتمع، وتتحدّد الحقوق والواجبات، وتتحقق العدالة والمساواة، ويستتب الأمن والسلام، وينشأ التكافل والتضامن، وتزدهر الفضائل والمكارم، ويبنى الإنسان على كافة الأصعدة.

وعندما يعالج الفكر الإسلامي القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والواجبات المناطة به، كونه المحور الأساس للتشريع، والغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الأشياء، وسخرها لخدمته، فإنه يمزج القانون بالأخلاق الإنسانية ليخرج من ذلك الامتزاج وصفة متكاملة للروح والجسد، لا يستغني عنها الإنسان.

فالفهم والفعل الأخلاقي يعتمدان على صاحبهما ويتحددان بقراره وما تنعقد عليه نيته. ولتحقق الإرادة الإلهية بهذا الفعل الأخلاقي الحر قيمة نوعية تفوق تحققها بالتسخير بواسطة المخلوقات الأخرى. ذلك أن مستوى تحقق الإرادة الإلهية دون اختيار من الفاعل يتعلق بمستوى القيم الأولية أو النفعية. أما التحقيق الحر لتلك الإرادة فيتجاوز ذلك المستوى إلى مستوى القيمة الأخلاقية. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن للغايات الأخلاقية التي أرادها الله تعالى للإنسان بأوامره التكليفية، ارتباطا بالعالم المادي، ولها بالتالي بُعدها القيمي الأولي النفعي. كل ما في الأمر أنها لا تستمد تميزها وتفردها من ذلك البعد، وإنما من كونها: فعلا أخلاقيا حرا. فمصدر رُقيها النوعي هو كونها قابلة للتحقق بإرادة الإنسان الحرة، بحيث تظل إمكانية الامتثال لها، أو مخالفتها واردة.

وبسبب من التوجه العلمي والفكري العام الذي ينشره الغرب في أنحاء المعمورة، صار الإنسان الحديث يقبل دون جدل أن الاهتمام الأساسي ينبغي أن يوجه إلى الطاقة والمادة المعروفتين، وفقدت (الروح) الكثير من الأرض التي ربحتها في الماضي، فصار يُنظَر إلى كثير من قضاياها على أنه نوع من الخرافة والوهم، ويعبر عنها بأنها الوعي أو الصورة الذهنية للمدركات أو المعنى، وأدى ذلك إلى تواري الخطط والتنظيمات التي تدعم الجوانب الروحية والخلقية في معظم الأحيان. فالحالة الروحية الخلقية هي المرآة التي تنعكس عليها عقيدة المجتمع وظروفه وأوضاعه العامة، ومن ثم فكما أن الأخلاق السامية تساعد على تجاوز الكثير من محنه، فإن أزمات المجتمع الفكرية والسياسية والاقتصادية…. وما يتحصل منها من وعي المجتمع بذاته، تنعكس بصورة واضحة على أخلاق الناس، وتعيد ترتيب سلم القيم لديهم.

والقاعدة الروحية الأخلاقية في أي مجتمع هي التي تتحمل الأثقال التي تتولد من طبيعة الحياة المادية والاجتماعية، وعن الانتكاسات التي تصاب بها أي أمة في ميادين الحياة المختلفة.

وقد آن لنا أن ندرك أنه لن يكون بإمكان أفضل النظم الاجتماعية، ولافي إمكان أقسى العقوبات الصارمة أن تقوّم الاعوجاج، ولا أن تملأ الفراغ الناشئ من ذبول الروح وانحطاط القيم، فالعقوبات لا تنشئ مجتمعا، لكنها تحميه. (13)

والحمد لله رب العالمين.

(يتبع)

(5) التوحيد والتزكية والعمران. (الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله). أنظر كتاب التوحيد (مضامينه على الفكر والحياة) للأستاذ الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي. وانظر منظومة القيم العليا. (الدكتور فتحي حسن ملكاوي).

(6) صحيح البخاري. كتاب الجنائز.

(7) مقال كتبه الشيخ محمد الفزازي بتصرف.

(8) (الموازنة بين الروح والجسد.أ د. عبد العزيز بايندر)

(9) الموازنة بين متطلبات الروح والجسد. البحث المُقدم في مسابقة (انصر نبيك بقلمك لشهر جمادى الثاني 1434هـ). ar.islamway.net

(10) الإنسان (مشكلة المادية والروحية). بتصرف. مؤسسة هنداوي.   www.hindawi.org ›

(11) المرجع السابق.

(12) التوازن بين الجسد والروح في الإسلام – شبكة النبأ المعلوماتية.

(13) عصرنا والعيش في زماننا الصعب. أ.دعبد الكريم بكار.ص: 205-207 بتصرف. 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M