حلقات مفقودة في بناء النهضة.. (ج1)

06 نوفمبر 2017 15:17
فيديو.. #لا_تحزن فأنت من رواد التوحيد! - قناة دعوة

هوية بريس – د. صفية الودغيري

في حياتنا حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها في ذاكرة مَنْسِيَّة، وعلى رَفٍّ من رُفوفِ تاريخِنا حيث يُسْحَق شبابنا وسطَ عَناكيبِ الجهل والأمِّية، والانْصِهار بمظاهر المدنيَّة الغربية التي غَيَّرت نفوسهم تَغييرًا جَوْهَريًّا، وطمسَت معالم هويَّتهم وانتماءهم للدِّين وأصول الشَّريعة، فأنكروا أحكامها وتجاسَروا على القول ببُطْلانها، وأنَّها صارت تقليدِيَّة لا تُناسِب مُسْتجدَّات العصر، وقد نبَّه الشيخ المحدِّث الرحالي الفاروقي تـ(1405هـ/1985م)[1] الشَّباب إلى سُلوك مَسْلك الحيطَة والحذَر في الأَخْذ بمظاهر الحياة الغربيَّة، وإرشادهم إلى مفهوم التَّقدم الحقيقي وذلك في مقالته “محافظون ومجددون” فقال:

“ونَأْسَف كثيرَ الأسَف لأنَّ بعض شَبابِنا قد غَرَّتهم مظاهِر الحياة الغربِيَّة غُرورًا، وغَيَّرت نفوسهم تغييرًا جوهريًّا فأَنْكَروا الإيمان بالغَيْب وتركوا الصَّلاة والزَّكاة، وتجاسَروا على القول إنَّ هذه المظاهِر رُسومٌ تقليدِيَّة، وأنَّ الزَّمَن قد تقدَّم عليها. يظنُّون أنَّ التَّقدم إلحادٌ وابْتِداعٌ، وانْصِرافٌ عن الواجِبات، وإِغْراقٌ في المادِّيات، وأَخْذٌ بالإباحَة المطلقة، وأنَّ التَّقدم المادِّي المجرَّد كفيلٌ بضَمان الحياة وَبقاءِ الحضارة، وجالِبٌ للهَناء والسَّعادة، وهو ظنٌّ حائِدٌ عن جِهَة الصَّواب، بعيدٌ من نفس الحقيقة، وأصحابه في حيرةٍ وفتنةٍ وغُرور، يَسْبَحون في بحر من الخَيال والسَّراب. وإنَّ التَّقدم الحقيقي أنْ نَنْصرِف بكُلِّيتنا إلى تَكْوين النُّفوس، وتَقْويم الأخلاق، وإِصْلاح الاعْوِجاج، ببناء الحياة على أساسٍ متين من الأخلاق والدِّين والعِلم والجِد والعقل الرَّصين، ونَسْتَقْصي الجُهود فيما يَنْقصُنا من الحياة حتى نكونَ عُلماء مخترعين، وأَطِبَّاء ماهِرين، وعُمَّالاً متدرِّبين، وجُنودًا مُسْتعِدِّين، وليس من التَّقدم في شيء أنْ نَتنصَّل من الآداب الشَّريفَة والأخلاق الكريمة، ونَخْرُج عن أوضاع الإسلام ونتلاعَب بشَرائعِه ونَتنكَّر لعَقائدِه”[2].

الحلقة الأولى: لنَكُنْ مسلمين أوَّلاً

إنَّ من أهم حلقاتِنا المفقودَة والتي تمثِّل رُكْنًا من أَقْوى الأركان التي نَبْني عليها نهضتنا، هي غِياب الإسلام العملي في أقوالنا وأفعالنا، وسُلوكنا ومعاملاتنا،

فالإسلام الحقيقي لا يقتصر على النُّطق بالشَّهادتين، مع الإِعْراض عن ممارستها في النُّطق والكتابة، والصُّدود عن إِعْمال العقل، والتَّكاسُل عن تحريك الجوارح، وصَمِّ الآذان عن الإصْغاء لخَلجات النفس وحديثها في السِّر والجهر، وإِضْعاف نشاطِ الأعضاء في أداءِ وظائفها، وتسخيرِها في السَّعْي للكَسْب والعمَل لتنَشْر الخَيْر..

ولهذا نجِد الشيخ محمد المختار السوسي يكتب مقالته: “لنكُنْ مسلمين أولا” ليُرشِد إلى ضَرورة الرُّجوع إلى الإسلام الحقيقي للحِفاظ على مُقَوِّماتنا، وللتَّصَدي لمَكائِد الاستعمار ومحاولاته الحَثيثة للقَضاء على مبادئ دينِنا الحنيف، وتَقْييد من يَسْعَوا جاهِدين ليُفْسِدوا أفكار الأمَّة بنَشْرِ الإِلْحاد وسوءِ الأخلاق، ولإِقْرار هذه الغايات وتحقيقها يقول: “فيجب علينا أنْ نَتنبَّه إلى مُقوِّماتِنا لنُحافِظ عليها، ونَسْترجِع ما كادَ الاستعمار يأتي عليه بمُحاولاتِه الشتَّى. يا قوم، لنَكُنْ مسلمين أوَّلاً، في عَقائدِنا وفي أَعْمالِنا، وفي مَحاكمِنا، وفي نُظُمِنا، وفي كلِّ شيء، لتَبْقى لنا صِبْغَتُنا القَوْمِيَّة من كلِّ ناحية، ولنَحْرِص على أن لا نأَخْذُ من الغَرْب إلا ما هو نافِع، ثم لنَحْرِص على أن نَصْبِغَه بصِبْغَتِنا الخاصَّة، فإنَّنا إنْ لم نَفْعَل ذلك ولم نَتعَرَّب ولم نَتَّصِف بالإسلام العَملي، فسنَنْدَم عن قَريب”[3].

إنَّنا لن نسودَ اليوم كما سُدْنا بالأمس إلا إذا كُنَّا مسلمين أوَّلا، ونتَّصِف بالإسلام العمَلي، وهذه من بين حَلقاتِنا المفقودة التي نحن في أشدِّ الحاجَة إلى إيجادها، لنَسْتخلِص العِبر من أخطاءِ الماضي، ونوقِظ في نفوس شَبابنا صحوة الضمير الحي، ونوقِد فيهم شُعْلَة الطُّموح التي خَبَت وانْطفأَت، ونُعَلِّمهم من دُروسِنا وأخطائِنا ليتَّعِظوا منها في حاضرهم ومستقبلهم، ويُحَقِّقوا الغاية التي تَقْتضي تَأْهيلهم وتأهيل جميع القوى الحيَّة النَّشِطَة، وضَمِّ الجهود والكفاءات والمواهِب وتَوْجيهِها وتَرْشيدِها.

وإنَّنا لن نسودَ اليوم كما سُدْنا بالأمس إلا إذا أَدْركنا كمالَ الإيمان بالاتِّصاف بصفاته والارْتِقاء في دَرجاته وحِيازَة مراتبِه، التي بيَّنها أبو الأعلى المودودي في مقالته الماتِعَة “كمال الإيمان” فذكر مفصِّلا في شأنها فقال: “إنَّ كمالَ كلِّ شيء في اتِّصافِه بصِفَة من الصِّفات على درجتين: أولاهما، أن تكونَ بالغًا النِّهاية في اتِّصافِه بتلك الصِّفة. وثانيهما، أن تكون تلك الصِّفة قد اسْتَحْكمَت فيه واشْتَدَّت حتى جَعلتْه يُؤثِّر في غيره ويَصْبِغُه بصِبْغَة نفسِه، فالثَّلج وهو مَوْصوفٌ بالبُرودَة بارِدٌ أشدَّ البُرودَة في حَدِّ ذاتِه فهو كمالُه الأوَّل، ومع هذا فإنَّه يُبَرِّد غيرَه فهو كماله الثاني. والنَّار وهي مَوْصوفةٌ بالحرارة، حارَّةٌ أشدَّ الحَرارة في ذاتِها فهو كمالُها الأول، ومع هذا فإنَّها تُحْرِق غيرَها فهو كمالها الثاني. كذلك فإنَّ الكمالَ الأول للرَّجُل الصَّالح أن يكونَ بالغًا النِّهاية في صَلاحِه الذاتي أن يكونَ مُصْلِحًا لغيرِه بتَأْثيرِه فيه.. وكذلك المؤمن إذا كان راسِخًا في إيمانِه كامِلاً في طاعَتِه للحَق، فهو على الكمال الأول من حيث اتِّصافِه بصِفَة الإيمان، وأما إذا قَوِيَت فيه تلك الصِّفَة واسْتَحْكمَت حتى بدأَ يَدْعو غيرَه إلى الحَق ويهبُّ به إلى أَتباعِه ويُحَلِّيه بأخلاق الإسلام بتَأْثيرٍ من لسانِه وقَلمِه وأخلاقِه وسُلوكِه في الحياة أو قُوَّة يدِه وساعدِه، فإنَّه يدخُل في الكمال الثاني أيضا. وهذا ما تَكرَّر في جملة آيات من القرآن الحكيم، وعلى لسان النبي الكريم صلَّى الله عليه وسَلَّم عدَّة مَرَّات. فقد قيلَ لأهلِ الكِتاب في سورة آل عمران بآية 98: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، ثم قيل في الآية التالية: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا)”[4].

الحلقة الثانية: أيُّها العُلَماء ! اخْرُجوا من عُزْلتِكُم

لا قيمة لأيِّ تقدُّم مع فقدان حلقة الارتباط بالدِّين والاتِّصال بمَنْظومَة الأخلاق والقِيَم، وقديمًا أطلق هذا النِّداء المُدَوِّي في الآفاق الشيخ عبد الرَّحمان الدُّكالي تـ 1404هـ [5]، من خلال تلك الدَّعوة إلى مقارعَة الخُطوب والأهوال، التي تَهْدي الناس إلى الطًّريق المستقيم وتُعَرِّفهم بحقيقة الإسلام المَتين، في مقالته الماتِعَة ” أيها العلماء ! اخرجوا من عزلتكم “، حيث وجَّه خِطابَه القوي النَّبرة والعميق المعنى فقال: “قد صار لِزامًا علينا أن نعرِف أنَّها الدَّعوة التي كَرَّمت الإنسان، وأنَّها صالحة لكلِّ زمانٍ ومكان، لأنَّها دعوة الرَّحمان الذي: “عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) “[6]، إنَّها الدَّعوة التي بعثَت كوامِن العظمَة في أولئك العَرب الذين كانوا أهلَ بسالَة، مَرَنوا على الحُروب وجُبِلوا على العِناد، واسْتَمْسَكوا بالعُصْبَة، وكانوا الخُطَباء اللُّد[7]، والفُصَحاء البُلَغاء، وُصِفوا بأنَّ أَسَلاتَ[8] أَلْسِنَتهِم أَمْضى من أَسِنَّة أَسْلحتهِم، وقد كان الدَّاعي الأوَّل محمَّد صلَّى الله عليه وسَلَّم يُعالِج كلَّ حالة من أحوالِ الضَّعف والانْحِلال في نفوس أولئك العَرب بما يُوائِمُها من الدَّواء النَّافِع، الذي لا يُبْقي أَثرًا لداءٍ من الأَدْواء، وقد أَلْبسَهُم مناعة وقُوَّة اضْمَحلَّ أمامها كلُّ ضعف، وانْمَحى كلُّ عناد، وخارَت تلك العَصبيَّة العمياء، واستطاع القرآن بقُوَّة إِعْجازه، وفَصيحِ كلامِه، وبَليغِ لفظِه وأُسلوبِه ومعناه، أن يجعل من كلِّ عَربيٍّ آمَن بهذه الدَّعوة، رَجُلاً في قُوَّة قبيلة في حَمِيَّتِها وحِفاظها ونَجْدتِها، رَجُلاً يريد أن يموتَ فيَحْيا، بينما غَيْرُه يريدُ أنْ يَحْيا فيموت” [9].

ولا قيمة لأيِّ تقدُّم لم يخلِّد ذاك الأثَر العَميق، الذي خَلَّدته الدَّعوة المُسْتنيرة في نفوس من حَملوها وآمنوا بها، فذابَت أمامهم فَوارِق الحسَب والنَّسب، وتخَلَّوْا عن التَّفاخُر بالتَّكاثُر بالأولاد والأَحْباب، وضعف في نفوسهم سُلْطان الجاه والمال، وتكاثفَت -لأجل إِعْلاء كلمة الله- حكمة الشيخوخة مع عزيمة الشباب، ليَغْنموا جميعا الأجر والثَّواب، ويعملوا لينالوا رضوان الله وجنته..

ولا قيمة لأيِّ تقدُّم بدون الأَخْذ بأسباب العِلم وتحصيله، ونهوض العُلماء بواجِبهم المَنوط بهم، ولهذا نبَّههم الشيخ عبد الرحمن الدكالي كي يَخْرجوا من عزلتهم ويُلبُّوا نداءَ دعوة الحق، ويُخَلِّدوا أثرَها لدى الشَّباب كي يكونوا أَقْوياء في إيمانهم، أَشِدَّاء في صُمودهمِ وبسالتهم، ثابِتين على الحق، ومُتمسِّكين بكرامتهِم وعِزَّتهم في أوطانهم، وعُظَماء في أخلاقهم، وصابرين في جهادهم، ومُضْطَلعين بأعمالهم، وسائِرين على خُطى أسلافهِم وأجدادهِم..

وفي إقرار هذا المعنى العظيم ولبُلوغِ مُرْتقاه، يقول مرشِدًا الدُّعاة: “وبعد فإنَّنا سنَبْلغ المقصود من دعوة الحق، إذا ما أَخْلص الدُّعاة لهذه العقيدة، وقاموا بالواجِب عليهم وخَرجوا من عُزْلتهم إلى ميدان العمَل، يَكتُبون ويَنْشُرون، ويَعْلمون ويُرْشِدون، ويَخْطُبون ويَعِظون، يملأون تلك المَنابِر المُشْتاقَة إليهم، إنَّهم إنْ فعَلوا، وما ذلك على هِمَمهِم بعَزيز، فسَيكْشِفون القِناع عن الإسلام، وأنَّه مَنْبع كلِّ ثقافة وأَصْل كلِّ حضارة ومَرْجِع كلِّ إصلاح”[10].

كما أقرَّ هذا المعنى العظيم الأستاذ عبد الوهاب بن منصور من خلال مقالته: “حَظُّ العُلماء من معركة البِناء”، حيث دَعا الطَّبقة العِلميَّة في المغرب إلى المُبادَرة إلى بناء صرح الوحدة، وتَدْعيم أركان الاستقلال، وخَلْق المغرب الجديد، ومشاركة علماء الدين في الحياة العامَّة، فقال: “ومن الخَطل والخَطر أن نسمح برَواج الفكرة التي اسْتقرَّت في أذهان الأوربيين ومُقَلِّديهم من المشارقة منذ انتصار الثورة الفرنسية واتِّصال الغرب بالشرق، تلك الفكرة التي تدعو إلى انْسِحاب عُلماء الدِّين من الحياة العامَّة وانْعِكافهم في الأَدْيِرَة والصَّوامِع، والانْصِراف إلى ممارسَة العِبادة التي وَقَّفوا حياتهم عليها، إنَّ هذه الفكرة تتَنافى مع الإسلام الذي لا رَهْبانِيَّة فيه، وفيها تَعْطيل لجزء حَيوي من جهاز النَّشاط والتَّفكير الشَّعبي، فالواجِب الدِّيني والوطني يُحَتِّم أنْ يَبْقى العُلَماء على اتِّصال بشُؤون مجتمعهم ومحيطهم، وأنْ لا يَفِرُّوا من المسؤولياَّت التي يَفْرِض حَمْلُها عليهم التَّفقُّه في الدِّين والعِلْم بحَقائق الشَّريعة، والاطِّلاع على نَواميس الطَّبيعة، فإنَّ الفِرار منها ممَّا يَجْلِب لهم النِّقْمَة ويُضاعِف لهم العذاب، إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) [11]” [12].

كما دَعا علماء الدِّين إلى الالتزام بمَسؤوليَّاتهِم، ومُباشرَة الأعمال التي يَبْرَعون فيها، ووُلوج المَيادين التي اخْتصُّوا في فَنِّها، ويَصْعُب على غيْرهم خَوْض غِمارها ووُلوج شِعابِها، حتى ينهضوا بالمغرب ويُساهموا في تقدُّمِه، وفي هذا الشأن يقول: “ومعلوم أن تَشعُّب الأعمال وكثرتَها يَقْتضِيان إِرْجاع كلِّ فنٍّ إلى ذوي المعرفة وأرباب الاخْتِصاص، فكما أنَّ المهندس الفلاحي سوف لا يُدْعى إلى معالجة المرضى، أو تعليم الموسيقى، كذلك عُلَماء الدِّين سوف يُدْعَوْن إلى مُباشَرة الأعمال التي يَبْرعون فيها، ووُلوج الميادين التي يَصْعُب على غيرهم الصَّوَلان فيها والجَوَلان” [13].

وقد حصر أعمالهم في ثلاثة ميادين يُكَثِّفون جهودهم للاضْطِلاع بشؤونها غير مُنْفرِدين ولا مُتفرِّقين، وذلك عن طريق تَكْوين رابطَة تَجْمع شَتاتهم وتُوَحِّد مناهِجَهُم، وتُحَفِّزهم على العمَل والتَّعاون والتَّآزر فيما بينهم حتى يتمكَّنوا من تحقيق الأهداف المنشودة وإدراك المقاصد المَرْجُوَّة، وهي تشمل [14]:

ـ الميدان الديني: الذي يُجِلُّون فيه محاسِن الإسلام وفَضائِله، ويَقْضون على البِدَع والضَّلالات التي لصِقَت به أثناء عُصور الانحِطاط وشانَتْه، حتى عاقَت أهله عن النمُّوُ ومَنعَتْهُم من التَّطور، وسيكون على العلماء في هذا الميدان أن يَدْرُسوا القُوَّة التي فَتَّقَت أذهان البداة الأعراب نورًا وحِكمة، وجعلتهم يَنْطلِقون في سرعة عجيبة من جزيرتهم القاحلة إلى جهات كثيرة من الدُّنيا، يُشَيِّدون صرح مَدنِيَّة رائعة ما زالت أنوارها تُبْهِر النَّاظِرين وآياتُها تقطع ألسنة الجاحدين..

ـ والميدان الأدبي: وهو مجال واسع لهم، لأنَّه مُتعَدِّد المَناحي كثير الشِّعَب، وفي هذا الميدان يمكنهم أن يرفعوا الحُجُب عن المدنِيَّة العَربيَّة بما يُظْهِرون من آثارها ويَكْتُبون من الدِّراسات عنها، كما أن يُطْلِعوا المغاربة على تراثهم الفكري الذي عَبثَت به الأيام ووَزَّعته شذر مذر، حتى فُقِد وأصبحنا عُرْضةً للنَّقد من طرف أعدائنا، مَوْصومين لديهم بعقر الفِكر ويَبَس القريحة وجَفاف الإدراك، كما سيكون على العلماء في هذا الباب أن يُقَوِّموا الألسنة بالفصيح، ويُشيعوا العربية بما يُعَلِّمون ويَخْطُبون ويُحاضِرون ويَكْتُبون، ويساعدوا على تعريب البلاد من العجمتين السابقة واللاحقة حتى لا يبقى فيها إلا اللسان العربي المبين..

ـ والميدان التربوي: الذي يُهَذِّبون فيه الأمة ويُرَبُّون فيها مَلكات الخير والإحسان والتَّعاون، والأَخْذ بالأسباب الطَّبيعية للأشياء، ويُكَرِّهون إليها التَّواكل والتَّخاذل والتَّعلق بحِبال الخَيالات وأسباب الأوهام..

ونحن اليوم في أمسِّ الحاجة لهذا النِّداء، ليخرج العلماء من عزلتهم، فيوقظوا في ألنَّشْء مكارم الأحلاق، ويَبْعثوا في الشَّباب حُبَّ الديِّن، والنَّشاط في ميدان العمل، والسَّيْر في اتِّجاه مقدِّمة القافلة، كي لا تَبْقى كمًّا مُهْمَلاً أو قاعدةً جامِدَة مع القَواعِد، ومُتخَلِّفة مع الخَوالِف، وكي تَضْرِب أروع الأمثلة في الاقتداء والتَّأسي والاتِّباع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] هو السيد الرحالي بن رحال بن العربي.. ولد بقلعة السراغنة ناحية مراكش المغربية، وذلك عام 1323ه، وهو فقيه علامة مشارك، عُيِّن مدرسا بكلية ابن يوسف بمراكش عند تأسيس النظام بها عام 1357ه، كما عُيِّن رئيسا لهذه الكلية عام 1375ه، ثن عميدا لكلية الدراسات العربية التابعة لجامعة القرويين بمراكش عام 1382ه، وكان خطيبا بجامع بريمة بدار المخزن بمراكش، كما صار يقوم بدروس في التفسير في كلية الدراسات العربية في مراكش، وبدروس في الحديث بصحيح الإمام البخاري في دار الحديث الحسنية بالرباط إلى أن أُحيل إلى التقاعد عام 1392ه، من إنتاجه الفكري: “فتح العلي القادر على توحيد الإمام ابن عاشر”، وتعليقا على مقدمة بداية المجتهد سماه “الأعلام والإشادة بما في مقدمة البداية” وله مقالات ونشرات.. ترجمته في: إسعاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين / محمد بن الفاطمي السلمي – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء 1992: ص 114

[2] محافظون ونجددون ـ مجلة دعوة الحق: العدد الثاني ـ السنة الأولى (ذو الحجة 1376 هـ ـ غشت 1957م ): ص 9 ـ 10

[3] ” لنكن مسلمين أولا “، لمحمد المختار السوسي: ص 6

[4] كمال الإيمان / أبو الاعلى المودودي ـ تعريب: محمد عاصم الحداد ـ مجلة دعوة الحق: العدد الثالث ـ السنة الثانية (جمادى الأولى 1378 هـ ـ دجنبير 1958م ): ص10.

[5] هو عبدالرحمن بن أبي شعيب الدكالي الصديقي، حفظ القرآن الكريم ودرس مبادئ العلوم على والده وبعض العلماء – وفي العشرين من عمره رحل إلى القاهرة والتحق بدار العلوم العليا، وخلال حياته في القاهرة كان يلقي محاضرات عامة في «جمعية الشبّان المسلمين»، وينشر مقالات في مجلة «كوكب الشرق»، وصحيفة «الأهرام»، وقد عُيِّن كاتبًا للضبط بمجلس الاستئناف الشرعي، ثم أصبح قاضيًا في منطقة الغرب، وبعد استقلال المغرب عُيِّن كاتبًا عامًا لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ثم رئيسًا للمجلس العلمي لإقليم الجديدة. وعضوًا برابطة علماء المغرب، وعضوًا بأكاديمية المملكة المغربية. وأسهم في إحياء بعض المدارس القرآنية، من إنتاجه الشعري: «ديوان عبدالرحمن الدكالي» وقد حقق الديوان أحمد متفكر، وقدّم له محمد العربي الخطابي، وله قصائد بديوان: «دعوة الحق».

ترجمته في: تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر في المغرب/ عباس الجراري – مطبعة الأمنية – الرباط 1997.

[6] سورة الرحمن.

[7] الجمع: ألدّاءُ و لُدّ و لِداد، المؤنث: لدَّاءُ، و الجمع للمؤنث: ألدّاء و لِداد و لُدّ / صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من لدَّ: شديد الخصومة.

[8] الأَسَلَة: طَرَف الشيء المُسْتَدِقُ، أَسَلَةُ النَّصْل، وأَسَلَةُ اللسان، وأَسَلَةُ الذراع.

[9] ” أيها العلماء ! اخرجوا من عزلتكم “، ـ مجلة دعوة الحق: العدد الثاني ـ السنة الأولى (ذو الحجة 1376 هـ ـ غشت 1957م ): ص8.

[10] ” أيها العلماء ! اخرجوا من عزلتكم “، ـ مجلة دعوة الحق: العدد الثاني ـ السنة الأولى (ذو الحجة 1376 هـ ـ غشت 1957م ): ص8.

[11] سورة البقرة.

[12] “حظ العلماء من معركة البناء”، -مجلة دعوة الحق: العدد الثاني- السنة الأولى (ذو الحجة 1376 هـ – غشت 1957م ): ص15.

[13] المقالة نفسها: ص18.

[14] المقالة نفسها: ص18.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M