ذ. طارق الحمودي: حينما يحاول الجابري.. فهم القرآن

27 يوليو 2016 20:02
حينما يحاول الجابري.. فهم القرآن

هوية بريس – ذ. طارق الحمودي

“فهم القرآن”.. هكذا سمى الجابري تفسيره للقرآن الكريم، في أول محاولة، والوحيدة إلى حد الآن، لتفسير حداثي كامل للقرآن الكريم، ولأنه حداثي كان لابد من التميز عن منهج القراءة والتأويل التي عرفها المجال التراثي التفسيري عند المسلمين طوال أربعة عشر قرنا، وهذا الذي فعله الجابري، وأصر على أن يكون فيه متميزا، بل أصر على أن ينبه القارئ لذلك، فكان يشير «بدون فخر زائد ولا تواضع زائف، أنه لأول مرة أصبح ممكنا عرض القرآن ومحاولة فهمه… باعتماد خطوات منهجية لم يسبق أن طبقت في أي نوع من أنواع التفاسير السابقة»، كان تفسيره تفسيرا من نوع جديد، ظهرت فيه ملامح الاستعلاء والنخبوية الجابرية، مع كثرة استعمال ضمير الجمع “نحن“، كان تفسيره ثورة على التراث التفسيري الإسلامي، تفسير قائم على «فهم مستقل وأحيانا مختلف عن فهم جميع المفسرين» ولم يكن هذا الافتخار… «افتخارا»، إنما كان خروجا عن معهود المفسرين المسلمين كلهم أجمعين، كان الجابري معجبا بتفسيره إلى درجة أن زعم أن القارئ سيحتاج إلى قراءته مرارا لاستيعاب محتواه فضلا عن الحاجة إلى الرجوع إليه من حين لآخر!

رتب الجابري فهمه للقرآن على ترتيب نزول القرآن، نزول سوره على وجه التحديد، مكيها قبل مدنيها، موازيا لها مع أحداث السيرة النبوية، لكنه وجد نفسه أمام إشكاليتين كبيرتين، أولاهما عدم وجود تحقيق معتمد عليه في ترتيب كل سور القرآن، والثانية أن في كثير من السور آيات مكية ومدنية، يصعب معها وضع سورة بكاملها في موضع المكيات أو المدنيات، بفصلها مكيها عن مدنيها.

اعتمد الجابري كما ادعى على ثلاثة مسالك في تفسيره، مركبا منها منهجيته في الفهم، وهي أن القرآن يفسر بعضه بعضا الذي قصره فيه بشكل مثير، واعتبار السياق الذي كلفه أحيانا الوقوع في كثير من الشطط، ومراعاة معهود العرب الذي أساء استعماله جدا.

سيلاحظ القارئ أنه لم يشر إلى اعتماد الحديث النبوي والروايات في فهمه، وهو أمر مقصود من الجابري، ويشهد له صنيعه داخل “الفهم“، فلا تجد الجابري يعتمد على رواية إلا ما كان من سيرة ابن إسحاق أو رواية ضعيفة، إلا أحيانا، حيث يذكر حديثا صحيحا أو يشير إلى روايات صحيحة لينبه على ضعفها عنده، بل يجعلها أحيانا من الإسرائيليات وهي في الصحيحين من المتفق على صحته بين المتخصصين.

لم يكن الجابري يولي كبير احتفال واحترام لتفاسير المتقدمين، إلا ما كان من اعتماده المتكرر على تفسير الزمخشري والفخر الرازي، الذي يقتبس منه أحيانا مباحث على طولها، وربما رجح اختيارته في بعض المسائل بطريقة مثيرة للاهتمام، ومع هذا يدعي أنه راجع كل التفاسير المتوفرة، ودون هذا فناء العمر، فلست أدري كيف استقرأ الجابري كل هذا الكم من كتب التفسير، ومؤلفاتها في الدنيا بلا عدد كما يقال!

رتب الجابري فهمه لكل سورة وفق تقسيم ثلاثي مرة أخرى، فيبدأ بشيء سماه “التقديم“، ثم “الهامش” ويختم بما سماه “التعليق“، وكان يستعرض تفسيره للقرآن على طريقة تفسير الجلالين، لكن بطريقة أكثر اختصارا، وكان يضع فهمه في الهامش الذي احتوى على خلاصات من قراءاته الشخصية، فيقرأ كل سورة بطريق طريفة، تظهر شدة نزوعه إلى الدرس الفلسفي، وتأثره الشديد بمنهجية تحليل النصوص، فقد زعم أن كل سورة قرآنية هي عبارة عن مقدمة وتحليل وخاتمة، ويقرأ الآيات على أنها مقاطع كمقاطع النصوص الأدبية التي تعالج عن طريق السيميائيات الغربية، ويستعمل مصطلحات “العبارة” وفي بعدها المنطقي و”الجملة” في بعدها اللغوي، و”المقطع” في بعدها السيميائي الغربي، فقد كان يتحاشى وصف الآيات بأنها آيات وكأن القرآن وضع بشري، بل هو عنده كذلك، وضع نبوي، من تأليف النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن عنده أميا لا يعرف القراءة والكتابة، ولذلك زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراجع القرآن كل مرة حتى يتأكد من سلامة العبارة من أي قلق، يتحدث عن نفسه.

كانت معاملة الجابري للتراث التفسيري الإسلامي طريقة نقدية عنيفة، تجاوز فيها حد اللباقة إلى حد التعالي، فقد كان يشير إلى تفاسير العلماء كلها ثم يسفهها، ويطعن في مناهجهم كلها زاعما أنهم كانوا لا يراعون السياقات ولا أسباب النزول ولا معهود العرب ولا تفسير القرآن بالقرآن، وأنهم كانوا حرفيين يعتمدون على طريقة تجزيء السورة، ويعرض تفسيره رافعا إياه فوقها، ويرمي تفاسيرهم.. كلها بركاكة العبارة أحيانا، ويزعم أنه يستعصي عليهم أحيانا فهم شيء ويفتح فيه عليه هو، وسيتجاوز هذا إلى ما هو أكثر استعلاء حينما يصف تفسيرا لابن عباس بأنه على طريقة الباطنية، وكذلك فعل مع المفسرين كلهم في بعض المواضع.

كان لاعتماده على مقولة “معهود العرب” وقع كارثي على “فهمه” فقد تسبب له في أن يزعم أن ذكر “سبع سماوات” في القرآن ليس على حقيقته، وإنما ذكرت السبعة لأنها موافقة لمعهود العرب في كون الأفلاك سبعة عند اليونان، وبصراحة، لم أفهم كيف كان صار ذلك من معهود العرب في ذلك الزمان؟

كان الجابري قاسيا وهو يرد جملة من الأحاديث النبوية، كتلك الواردة في فتنة القبر التي لم يكن يعتقدها، وأحاديث الدابة التي تكون في آخر الزمان، والتي كان يعتقد أنها ستكون يوم القيامة، وأحاديث الجن التي رمى بسببها المحدثين بالكذب والاختلاق، كان الجابري يتعمد إهمال الاستعانة بالأحاديث والسنة النبوية إلا إذا وافقت “فهمه” لأنه كان يعلم أنها تفسد عليه “فهمه” المؤطر بفكره الاشتراكي العلماني.

ظهر على فهم الجابري للقرآن هزال واضح، من ذلك أنه لم يستبعد أن يكون أصل كلمة “الأنام” من الكلمة الأجنبية “Anina”! واقترح أن يفسر ضرب الزوجة الناشز غير المبرح بأنه نوع من المداعبة للزوجة حتى تقبل إلى الفراش! أضف إلى هذا عدم الضبط في ذكر مذاهب العلماء، فقد نسب إلى الطبري أنه يقول بأن إسراء النبي صلى الله عليه وسلم كان بالروح لا الجسد وليس الأمر كذلك، بل كان يقول بالإسراء بهما معا، ونسب إلى الأشاعرة أنهم يقولون بأن الله حر في أن يفعل ما يشاء، وليس عبارة “حر” في حق الله تعالى من أدبياتهم، وزعم أن معنى الآيات المتشابهة هي الآيات الكونية لا اللفظية كما هو قول المفسرين، وأن معنى قتل النبيين بغير الحق تولي من يقتلهم..! كما زعم أن قوله تعالى “تسعة عشر” إنما هو رمز لا حقيقة له، وأن حواء خلقت من تراب كما خلق آدم، كما نفى أن يكون في القرآن نسخ لحاجة في نفسه ظهرت في مواضع أخرى ليس هذا محل بسطها، وغير هذا كثير في “فهمه“.

كانت هذه هي محاولة الجابري لفهم كلام القرآن الكريم، فأظهر بما لا يدع مجالا للشك أن الفكر الحداثي غير قادر على تفسير القرآن الكريم، وأنه لا يملك الأدوات المناسبة، ولا له المؤهلات لقراءته قراءة جادة، ولقد فوجئت بضعف هذا العمل الجابري، ورأيت فيه غير الجابري الذي أعرفه، وسرُّ هذا أن القوم في التنظير ليسوا هم في التنزيل، وهذا هو المحك الحقيقي، فالتنظير قد يحسن الكتابة فيه أي أحد، وإن لم يكن عنده شيء، وأما التنزيل، فهو ما يصدق عليه قول القائل، عند الامتحان، يعز المرء أو يهان، هذا والجابري من أحسنهم، وأكثرهم اطلاعا، ومع ذلك ارتكب من الأخطاء الكبرى التي تسيغ لي على الأقل أن أقول: إنه ضيع الورق والمداد في لا شيء.

لقد عرض الجابري نفسه لحرج كبير حينما قرر مناطحة الكبار، بل كل الكبار، كحصى أرادت أن تهون من قدر جبال الهمالايا، فأي شيء حصل للجابري؟

وابن اللبون إذا ما لز في قرن….لم يستطع صولة البزل القناعيس

ليس من المستنكر أن ينتقد المفسرون في اختياراتهم، وتصحح أخطاء بعضهم، لكن الذي فعله الجابري يتخطى النقد الموضوعي لبعض الاجتهادات، إلى نقض علم التفسير الإسلامي بمعاول المغامرة المنهجية، والله الموفق للخير والحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. ذهب الجابري وسيذهب عمله أدراج الرياح كما ذهبت جهود الكثيرين قبله ممن رام الطعن في الشرائع بفهم مزعوم، وأما جهود العلماء فيأبى الله إلا أن تبقى راسخة مكينة رائجة على مر الدهور وكر العصور ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)
    بوركت أيها الكاتب على المقال المتميز

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M