حين وصفني الشيخ بوخبزة بسيوطي الحمراء..

03 فبراير 2020 18:29
حين وصفني الشيخ بوخبزة بسيوطي الحمراء..

هوية بريس – ذ.حماد القباج

كما كان حالي مع السادة العلماء والمشايخ الذين جالستهم واستفدت منهم؛ لم يتيسر لي أن ألازم العلامة محمد الأمين بوخبزة رحمه الله تعالى على الطريقة المعروفة في أدبيات طلب العلم؛ حيث يلازم الطالبُ الأستاذَ مدة طويلة أو قصيرة، ويقرأ عليه أو يدرس كتابا أو أكثر..

وهي طريقة منهجية حضارية لها كثير من المزايا، كما اعترت تنفيذها أخطاء تتعلق بمنهجية تلقي العلم ونقله، والعلاقة بين الشيخ والتلميذ، وغير ذلك من المتعلقات..

لم أتمكن من الاستفادة من الشيخ في إطار تلك المنهجية بسبب ظروفي الصحية وبُعد المسافة بين مراكش وتطوان…

وإنما حظيت بشرف مجالسته عددا من المرات على الطريقة التي تيسرت لي في الاستفادة من باقي العلماء والباحثين في عدد من التخصصات والمجالات: القرآن الكريم / الفقه / السيرة / الحديث / التاريخ / الفلسفة / علم الاجتماع / علم النفس / روايات بالعربية والفرنسية… إلـخ.

والطريقة التي يسر الله تعالى لي أنني كنت أضع برنامجا مكثفا لقراءة عدد من الكتب في مختلف تلك العلوم والمجالات، وألتزم به التزاما صارما لا يتعثر بالعوارض والعلائق، وأثناء القراءة أجمع ما يشكل علي من المعلومات ..

وكلما اجتمع قدر معين من الإشكالات؛ بحثت عن عالم  أو متخصص أو باحث يمكنه إفادتي بخصوص تلك المسائل المشكلة ..

ثم أؤم العالم المذكور ولو اقتضى الأمر شد الرحل، وأجالسه وأطرح عليه أسئلتي وأناقش معه كثيرا أو قليلا من تلك المسائل ..

وبهذه المناسبة أجدد شكرهم جميعا والدعاء لهم بكل خير على كل فائدة أفادونيها جزاهم الله خيرا.

وبهذه الطريقة رجوت أن أتفادى سلبية كوني تلقيت العلم عن الكتب؛ فقد قيل: “من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه”.

كنت أرى أن في هذه المقولة ظلما لمن تعذر عليهم الدراسة على الشيوخ والأساتذة؛ فماذا يفعلون؟

هل يحرمون أنفسهم من شرف العلم بسبب ظروفهم الصحية أو المادية؟

الجواب لا؛ بل يقبلون على القراءة والدراسة بهمة ونشاط، وليستغلوا الحركة العلمية المعاصرة التي طورت وسائل تأليف الكتب وطبعها؛ بحيث صار الكتاب يُخدم خدمات تساعد هذا الصنف من القراء والمتعلمين على تقليص حجم الخطأ، كما يطلب من هؤلاء أن يراجعوا العلماء والخبراء فيما أشكل عليهم ..، وهو ما قمت به مع عدد من العلماء؛ منهم شيخ الجماعة العلامة المحدث الأديب محمد الأمين بوخبزة الذي توفي رحمه الله أول أمس الخميس 4 جمادى الثانية 1441؛ الموافق: 30 يناير 2020.

والذي سافرت إليه وجالسته في بيته في تطوان عددا لا أحصيه من المرات ..

ولم أتردد مرة من تلك المرات في شد الرحل؛ مع بعد المسافة بين مراكش وتطوان، ومع أنني كنت أجد صعوبة في إيجاد السكن المناسب لظروفي الصحية؛ لم أتردد وتحملت ذلك كله بتوفيق الله تعالى، ثم بما كان يحفز نفسي ويشحذ همتي من كوني أجالس عالما من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بحجم وكفاءة الشيخ رحمه الله تعالى.

ولعلمي بأنني سأجد عنده أجوبة أسئلة قد لا أجدها عند غيره.

والأهم عندي أن الشيخ كان حلقة وصل هامة في سلسلة الفقهاء الذين ناهضوا الاحتلال، واشتغلوا في إطار الحركة الوطنية سنوات قبل الاستقلال؛ وقد حمل الأفكار التحررية وناضل من أجلها، ورضع حب الوطنية وحرية الوطن وكرامته من مشايخ في مقدمتهم: إمام الوطنيين شيخ الإسلام بلعربي العلوي، وشيخ الدعاة الوطنيين العلامة الدكتور تقي الدين الهلالي؛ رحمهما الله.

وقد كنت -ولا زلت- معجبا بهذين العالمين المناضلين؛ لأنني رأيت فيهما نموذج العالم الصادق العامل المهتم بالإصلاح في المجالين الدعوي والسياسي ..

وقد اتصل سندي وتعمقت معرفتي بهما من خلال القراءة، ومن خلال علاقتي بالمشايخ: لحسن وجاج ومحمد المغراوي ومحمد الأمين بوخبزة والحسين مرداس وبالمؤرخ عبد الكريم الفلالي جزاهم الله خيرا.

لقد كان النضال السياسي الوطني جانبا مهما من حياة الشيخ بوخبزة لا يعرفه كثيرون، وقل من نبه عليه؛ وقد أشار الشيخ إلى بعض ملامحه في سيرته الذاتية قائلا: “أصدرت جريدة “البرهان” خطية لانتقاد سياسة الاستعمار الإسباني في التعليم واضطهاد الطلبة والتضييق عليهم، ولم يصدر منها إلا عددان؛ فكتب مدير المعهد رسالة إلى رئيس الاستعلامات الإسباني (بلدا) يخبره فيها باستفحال نشاط الطلبة السياسي وصدور الجريدة وما يكتب فيها فلان يعنيني – وهو غير طالب بالمعهد ومتهم بالوطنية – من مقالات تمس سياسة إسبانيا.. إلـخ؛ فاستدعيت ونالني من السب والشتم والتهديد والأذية ما قرت به عين سيادة المدير للمعهد الديني الإسلامي وأذنابه”.

“ونشرت مقالات كثيرة في عدة صحف ومجلات؛ كمجلة (لسان الدين) التي كان يصدرها الدكتور الهلالي بتطوان، وبعد سفره الأستاذ عبد الله كنون، ومجلة النصر“اهـ.

ثم ذكر الشيخ أنه توقف عن النشاط السياسي بعد الاستقلال.

كانت جل الأسئلة التي أحملها إلى الشيخ تتعلق ببعض المسائل والمعلومات الدقيقة والخفية شيئا ما من تاريخ المغرب الحديث ودور الحركة الوطنية وأعلامها، وكان كثير منها يرتبط ببعض البحوث والدراسات التي اشتغلت عليها بين سنتي 2004 و2012.

وأول مجالسة له كانت في شهر ماي من سنة 2007، ثم توالت المجالس بشكل تعمقت به الألفة والمودة، واتسعت به دائرة الاستفادة.

وتولدت عن المجالس مراسلات بيني وبينه تحوي فوائد جمة (يؤسفني أنها ضمن مجاميع في مكتبتي التي لا يزال أكثرها أسير (كراتين) تكنها من الحر والقر!!).

وفي سياق هذه العلاقة المتنامية زيارةً ومراسلةً؛ تمكنت من إهداء جميع كتبي إلى الشيخ طالبا توجيهي في عملية الكتابة والتأليف؛ فشرفني بقراءتها وراسلني مرات بملاحظاته وآرائه؛ فكان أكثرها تعبيرا عن الموافقة والتأييد، وكان بعضها انتقادا وتخطئة ..

وكان آخر كتاب أرسلته له: “حياة شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي“، الصادر في يونيو 2014.

وكان شيخي بوخبزة قد أفادني بمعلومات عن شيخه بلعربي؛ الذي ذكره في سيرته الذاتية؛ قائلا: “وفي نحو عام 1370هـ زرت مدينة فاس ومكثت بها أياما أخذت فيها دروسا على الفقيه الشهير محمد بن العربي العلوي بالقرويين في أحكام القرآن لابن العربي“.

كنت كلما صدر لي كتاب أراسل به عددا من العلماء والكُتاب لأستطلع رأيهم، وأسمع من ملاحظاتهم ما يساعدني على تطوير مهارة الكتابة والتأليف؛ ثم فوجئت بأن هذه العادة دفعت شيخي بوخبزة إلى أن استقبلني مرة بقوله: “مرحبا بسيوطي الحمراء“!

فقلت له: “أستغفر الله أشكركم على تشجيعكم الكريم وأسأل الله تعالى التوفيق والقبول“.

فقال: “أقولها حقيقة؛ مؤلفاتك ومقالاتك الكثيرة هي التي تزكيك ولست أنا، أنت ما شاء الله عندك همة أكبر منا في التأليف ومؤلفاتك كثيرة ومتنوعة“.

لقد نقشت هذه الكلمات في قلبي، وتأثرت بها كثيرا، واعتبرتها شهادة قيّمة من خبير كبير .. وأيقنت أن عاطفة الشيخ وحبه لي؛ ما كانت لتصل درجة المجاملة الكاذبة حاشاه ..

أعوذ بالله تعالى من الغرور، ولعل من نافلة القول التأكيد بأنني لم أشعر للحظة أن هذا تشبيه مطلق؛ وإنما تشبيه جزئي يحفز على تطوير الذات وتوسيع مجال الشبه الإيجابي.

فجزى الله خيرا شيخنا الأمين الناصح المفيد، على هذا التشجيع الكبير والتحفيز الذي يكسر طوق الأغلال الوهمية التي تعيق كثيرا من القادرين على النجاح ..؛ لا سيما: الفقراء وذوي الإعاقات المهمشين في مجتمعاتنا الإسلامية ..

لما انتهينا في غشت الماضي (2019) من مستلزمات تأسيس مركز بلعربي العلوي للدراسات التاريخية التابع لمنتدى إحياء؛ وضعت برنامجا يتضمن زيارة الشيخ وبعض تلامذته بمجرد الانتهاء من إعداد إصدارات المركز الأولى، ونويت إهداءهم إصدارات المركز ومنتدى إحياء وكتبي الصادرة عن مركز يقين للدراسات والأبحاث؛ لا سيما كتاب: “غرناطة في مواجهة الإلحاد“؛ الذي كنت متأكدا أن الشيخ سيفرح به فرحا كبيرا ..

لكن أجَلَ الشيخ سبق ذلك والحمد لله على كل حال ..

وحمدت الله تعالى على تشرفنا في مركز يقين بطبع كتاب (أرجوزة) الشيخ: “الاحتلال الإسباني والهوية المغربية: المقاومة والتدافع الثقافي“.

وقد أخبرني مدير المركز: الأستاذ جلال اعويطا بأن الشيخ معجب بإصدارات المركز، وأنه عرض عليه طبع كتابه المذكور.

هذا وقد أجازني الشيخ رحمه الله تعالى إجازة عامة بكل ما تصح له روايته عن شيخه أحمد بن الصديق الغماري بما حواه ثبته المسمى: (البحر العميق، في مرويات ابن الصديق).

وبقدر فرحي باتصال السند إلى سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بقدر تأكيدي على أن المطلوب ليس هو الألقاب والشواهد، بقدر ما إن المطلوب هو العمل بالعلم والتخلق بأخلاقه، والنضال للإصلاح به ابتغاء وجه الله تعالى.

وهذا هو خير ما لمسته في شيخي بوخبزة الذي سبقت أخلاقه علمه، وبز تواضعه مكانته.

أسأل الله تعالى أن يجعل هذه الشهادة -التي شهد بها الكل- رحمة عليه، ورفعة لمقامه مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين؛ وحسن أولئك رفيقا.

وفيما يلي صورة من إجازة الشيخ لي:

وفيما يلي موجز من ترجمة شيخنا التي كتبها بخط يده:

الراوية المسند الأديب؛ محمد بن الأمين بن عبد الله بن أحمد الحسني الإدريسي العمراني المكنى “أبو خبزة”.

ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولد بتطوان بحي العيون يوم السبت 26 ربيع الأول سنة 1351هـ، الموافق 20 يوليوز 1932م.

ختم القرآن الكريم صغيرا، كما حفظ بعض المتون العلمية؛ كالآجرومية والمرشد المعين لابن عاشر وألفية بن مالك، وبعض مختصر خليل.

ثم التحق بالمعهد الديني بالجامع الكبير ومكث فيه نحو عامين تلقى خلالها دروسا نظامية في التفسير والحديث والفقه والأصول والنحو والبلاغة.

من مشايخه: الحاج أحمد بن الفقيه المقرئ، والفقيه محمد الحساني، والأستاذ محمد بن عبد الصمد التجكاني، والأستاذ محمد بن عبد الكريم الفحصي، والفقيه المؤرخ الوزير أحمد بن أحمد الراهوني (صاحب تاريخ تطوان).

قال شيخنا بوخبزة: “كما نفعني الله تعالى جدا بدروس الدكتور محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي الحسيني السجلماسي الذي قدم تطوان حوالي عام 1365هـ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من أوروبا، وأقام بين ظهرانينا حوالي ست سنوات تلقيت عليه خلالها دروسا في التفسير والحديث والأدب، وكان يلقي هذه الدروس بالجامع الكبير؛ وكان يسرد عليه محمد بن فريحة،يدرس بالدر المنثور للسيوطي.

وأحدث بتطوان نهضة أدبية وشغل الناس بآرائه وأفكاره، وأثار الفقهاء”.

“وفي نحو عام 1370هـ زرت مدينة فاس ومكثت بها أياما أخذت فيها دروسا على الفقيه الشهير محمد بن العربي العلوي بالقرويين في أحكام القرآن لابن العربي”.

قال: “أصدرت جريدة “البرهان” خطية لانتقاد سياسة الاستعمار الإسباني في التعليم واضطهاد الطلبة والتضييق عليهم، ولم يصدر منها إلا عددان؛ فكتب مدير المعهد رسالة إلى رئيس الاستعلامات الإسباني (بلدا) يخبره فيها باستفحال نشاط الطلبة السياسي وصدور الجريدة وما يكتب فيها فلان يعنيني – وهو غير طالب بالمعهد ومتهم بالوطنية – من مقالات تمس سياسة إسبانيا.. إلـخ؛ فاستدعيت ونالني من السب والشتم والتهديد والأذية ما قرت به عين سيادة المدير للمعهد الديني الإسلامي وأذنابه”.

“ونشرت مقالات كثيرة في عدة صحف ومجلات؛ كمجلة (لسان الدين) التي كان يصدرها الدكتور الهلالي بتطوان، وبعد سفره الأستاذ عبد الله كنون، ومجلة النصر”اهـ.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M