دة. صفية الودغيري تكتب: فلسفة الاهتداء

25 يناير 2019 23:52
د. صفية الودغيري تكتب: مغالبة الشدائد والمحن

هوية بريس – صفية الودغيري

إذا أدرك الإنسان الكيفية الصحيحة في التأثُّر والتَّأثير، وأحاط بصنائع الخير والمعروف وما يقيه مصارعَ الشَّر والسُّوء، وأبصر بما ينكشف له رفع عنه حِجابه المظلم، ومزق ستاره المسدل، وهيَّأ بذاك الفِعل لوَثبات فكره، ونشاط حسِّه ووجدانه لاستقبال ما ويتوارد عليه من الأفكار والخواطر، وتمكَّن من النَّظر والتَّأمل فيما يعتري حالته الداخليَّة والنفسِيَّة، وعرف أسباب ما ينشأ عنها من الإعراض والإنكار أو الإيجاب والقبول، وما يجعل صدره منشرحا في حالات، وما بجعله ضَيِّقا حَرِجا كأنما يصَّعد في السماء في حالات أخرى، فقاوم ما يغشى بصيرته، وأخذ بالأسباب التي تقوِّي قدرته وإرادته على الاختيار، وتحثه على سماع الحق، وتجره إلى قبوله وإيثاره..
أما من تعلَّم أن يرى نفسه على حالة واحدة وفي إطار واحد، وداوم على النظر في مرآته، لا يبصر أقواله وأفعاله إلا في انعكاس صفائها ولمعة بريقها، وداخل إطارها الزجاجي الهش، فيتوهَّم أنه ماض على جادَّة الطريق، وأنه مستقيم على الحق والصَّواب، قد بلغ من الكمال والتمام مبلغا عليًّا، ويؤخذ من كلامه ولا يرد، ولا شيء يعيب سلوكه أو يشين تصرفاته، فيختال بنفسه ومحاسنه، ويغتر بما أدرك من فضائله، ويأخذه الغرور كلَّ مأخذ فيتصَوَّر أنه بلغ مرتبة أسمى ممن دونه، ولا يستوي بغيره في تقلُّب أحوالهم، وتقلُّب إيمانهم بين القوة والضعف، فلا يُلزم نفسه بما يلزمون به أنفسهم، ولا يضعها في ميزان المحاسبة والمراقبة، للنَّقد والمراجعة، والتَّقويم، والتَّصحيح..
وأما إذا أناب الإنسان إلى الله تعالى، وسلك طريقه، واستعان بمن يهديه ويعينه على الوصول إليه، ومن يرشِدُه ويعِظُه ويلقِّنه كلمة الحق، تحققت له المعرفة الصحيحة، وأدرك مبتغاه وغايته، كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذاك السراج المنير فقال: (المؤمِنُ مرآةُ أخيهِ، المؤمنُ أخو المؤمنِ يَكُفُّ عليهِ ضَيْعَتَه ويحوطُه مِن ورائِهِ).
وأما إذا استكبر عن الإنابة إليه، وقصر عن إعمال ملكاته من قوة التَّمييز والفهم والبصيرة والفراسة والتعقُّل، وتخلَّى عن استخدامه لوسائل مختلفة في اكتساب العلوم والمعارف، ولم يشحذ همَّته وعزيمته، فإنه لن يرى نفسه إلا رأي العين لا البصيرة، فيظن أنه غير مسؤول عن أفعال لسانه وقلبه وجوارحه، ولن يميز قوى الهداية عن قوى الضلالة المتعارضة ..
وما أعمق وأنفع ما قاله أبو الأعلى المودودي في فلسفة الاهتداء : “كان الإنسان في الدنيا لا تنفك تعمل فيه قوة الهداية الفطرية وقوة الضلالة المفروضة عليه من الله تعالى على صورة غير محسوسة، تدعوه هذه إلى الصراط المستقيم بإشارات لطيفة، وترغبه تلك في زخرفة الباطل، وتزينه في نظره وتلهيه بمظاهره الخلابة، فهو تارة يتأثر بعوامل الباطل ويستعين بما تحت إرادته من القوى بطريق فاسد، فيتردى في هوة الضلالة، ولا يلقى سمعه إلى صوت الحق ودعوته. وتارة يكون سالكا طريق الباطل، إذا بعقله وبصيرته وما إليهما من العوامل الداخلية والخارجية ترغبه عنه ويشتد نور الهداية أمام عينيه، نفس ذلك النور الذي كان خفيفا من قبل، ويفتح عينيه دفعة واحدة فيميل إلى طريق الحق، وتارة يبقى متذبذبا يبن طريق الحق والباطل يميل إلى هذا مرة وإلى ذلك أخرى، ولا يكون من حيث قوة قضائه وعزيمته حتى ينقطع إما إلى هذا أو إلى ذاك، فمن الناس من يفارقون الدنيا على ما كانوا عليه في هذا العالم من التذبذب، ومنهم من يموتون على الضلالة، ومنهم من يدركون إشارة الهداية الإلهية بعد بحث وتمحيص ونضال طويل. وأحسنهم حظا أولئك الذين فطرتهم سليمة، وقلوبهم صحيحة، ونظرهم سديد، فيستعينون بما آتاهم ربهم من العقل والأعين والآذان، وأودع فطرتهم من القوى على الوجه الصحيح، ويستخرجون النتائج الصحيحة من مشاهداتهم وتجاربهم، ويعتبرون بما يرون من الآيات الإلهية، فلا تغرهم زينة الباطل ولا يخلب لبهم دجل الكذب، وهم لا يكادون يرون طرق الباطل المعوجة إلا ويعلمون أنها لا تصلح لسلوكهم، ثم إن هؤلاء عند ما يتوجهون إلى الحق ويتقدمون في سبيل طلبه، يرحب بهم الحق ويستقبلهم نور الهداية، وهم عندما يرون الحق حقا والباطل باطلا لا تنجح قوة من قوى الدنيا في الانحراف بهم عن طريق الحق إلى طريق الباطل”.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M