د. البشير عصام المراكشي: من جنى اليراع.. العثرة والاعتراف

26 أكتوبر 2017 18:57
د. البشير عصام: تواترت النصوص الشرعية في فتنة القبر وعذابه ونعيمه واتفق علماء المالكية على ذلك

هوية بريس – د. البشير عصام

الحديث الثالث #من_جنى_اليراع: العثرة والاعتراف..

في رواية آنا كارنينا، يصف الكاتب الروسي “ليو تولستوي” شخصية “بيتروف” المريض والذي يذرع الخطى في المكان الذي يعالج فيه، وهو يحدث بعض أصدقائه، فيقول: “.. تعثّر وهو يتحدث، ولكنه -لكي لا يُظنّ أن ذلك كان بغير اختياره- أعاد الحركة نفسها”.

ما أكثر من يتعثر، ولكنه يرفض الإقرار بأنها عثرة ضعف أو قصور، فيتعمد تكرارها مفضلا التمادي في الغلط مع ادعاء العصمة، على الاعتراف بالقصور مع تصحيح المسار!

يقع هذا كثيرا -على الصعيد الفردي- في مجال التعامل مع أوامر الدين ونواهيه.

يرتكب الشخص معصية من معاصي الشهوات، مستسلما في لحظة من لحظات ضعفه البشري لعدوه إبليس  أعاذنا الله من وساوسه. لكنه يرفض أن يقرّ بضعفه، ويستكبر على الانكسار أمام ربه معترفا بأنه خاض معركة ضد شهوات نفسه وخسرها .. فيدّعي -تصريحا باللسان أو اعتقادا بالجنان- أنه ما فعل تلك الفعلة إلا عامدا مختارا، لأنها أمر يسير لا يستحق التشديد، ولأن في الدين والدنيا ما هو أهم وأعظم، أو لأنها ليست معصية أصلا بل لها – بشيء من النظر – وجه في الإباحة، أو لغير ذلك من منازع التأويل!

ثم لا يزال المسكين بين معصية وتسويغ، حتى يُسلِمه هذا المركب الوبيل إلى انحراف في فهمه للدين، ثم التشكيك في ثوابته، ثم الإلحاد والزندقة – إن لم يتداركه الله تعالى بلطفه.

فهذه شجاعة في غير محلها، لأنها شجاعة تنكر الضعف الذاتي، وترفض الإقرار بالقصور، وتأبى الانكسار أمام باري البريات، ومبدع الأرضين والسماوات.

ويقع هذا أيضا -على الصعيد الجماعي- في تقرير طرائق العمل، وسبل التعامل مع الواقع.

فقد رأينا مرارا أحزابا وتيارات إسلامية ترتكب هفوات، وتقع في أخطاء، بل قد يتبين لكل مُتابع منصف أنها قد فشلت في مهمتها، وغلطت في اختياراتها، وابتعدت أكثر فأكثر عن غايتها. ثم مع ذلك كله، ترى قياداتِها ترفض الاعتراف بالخطأ، مخافة أن تعرّض نفسها لمحاسبة -هي آتية لا محالة-، فتتمادى في المنهج نفسه، وتواصل السلوك على الطريق ذاته، بل تدخل في دوامة التسويغ لما كان من الاختيارات، وأن الغلط كان في عدم الاستمرار عليها، وعدم فعل المزيد منها!

وما أشبه هذا بما وقع لبعض منظري الشيوعية العالمية، حين بدأت تظهر بوادر انهيار المنظومة الشيوعية، فكانوا يرسخون أقدامهم أكثر في قناعاتهم المهترئة، قائلين بسطحية مدهشة في تحليل الأسباب والنتائج: “فشلت دول المعسكر الشيوعي، لأنها لم تطبّق الشيوعية بحذافيرها. فالحل هو مزيد من الشيوعية!”.

وفي فقهنا المعاصر المتذبذب بين المحافظة على التراث الأصيل والتفاعل مع الواقع المتقلب، نرى -يوما إثر يوم- أن بعض المدارس الفقهية العصرية أنتجت فقها هجينا في تكوينه، عاجزا عن تلبية الحاجات المتسارعة للأمة، أفرادا ومجتمعات.

وهكذا تتناسل التأصيلات لاقتراح “فقه العصر” المنشود، متراوحة بين المذهبية والاجتهاد، وبين الظاهرية والمقاصدية، وبين النزعتين التقليدية والتجديدية، وبين الانضباط الحرفي بالتراث والنهل الانتقائي منه. وفي جميع هذه المناهج، هفوات في التأصيل والتقعيد، وخلل في الممارسة والتطبيق، وأخطاء في الخطاب والشعار. ومع ذلك لا أحد يقبل الاعتراف بذلك، أو يسعى إلى إعادة النظر الشمولي من أجل التصحيح والتقويم. بل هو التمادي ولا شيء غير التمادي!

وفي أثناء ذلك، وفي غفلة من هؤلاء المصرّين على مسلكهم الأعوج، يسعى سدنة الثقافة المهيمنة إلى تنقيح التراث الفقهي، خالطين بين ثابت الوحي ومتغير الاجتهاد البشري؛ وإلى اقتراح “فقه الجهل والهوى” الذي لا مسوغ لوجوده سوى كونه موافقا للثقافة العلمانية المهيمنة.

إن التوبة تحتل مرتبة عظيمة في منظومة العمل الإسلامي الفردي والجماعي، بل لعلها الخطوة الأولى في طريق السلوك إلى الله تعالى، لأنها المنزلة التي تصحح الأساس، وتجعله صالحا للبناء عليه.

وما التوبة -بحمولتها الشرعية السلوكية المؤصلة- إلا التعبير الإسلامي عن معنى الاعتراف بالخطأ، والسعي للخروج من تبعاته، بالتقويم والإصلاح.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم).

وذلك لأن مقام الضعف والانكسار يقوي القلب للإقدام، ولأن الاعتراف بالغلط يساعد على التصحيح..

جعلنا الله من المستغفرين التائبين المقرّين بأخطائهم، المسارعين إلى إصلاحها.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M