د. الودغيري يكتب ردا على تصريحات عيوش: دعوةٌ للفِتنة وتحريضٌ على التطرُّف

26 فبراير 2018 15:50
د. الودغيري يكتب ردا على تصريحات عيوش: دعوةٌ للفِتنة وتحريضٌ على التطرُّف

هوية بريس – د. عبد العلي الودغيري

لا أريد في هذه الكلمة أن أدخل في نقاش سخيف مع رجل الإشهار والإعلان المعروف بتطفُّله الذي عوَّدنا عليه بين الحين والآخر، وحشْرِ أنفه في قضايا وموضوعات خطيرة وشائكة لا يملك مؤهِّلاً فكرياً وعلمياً وتخصصًّيا للخوض فيها عن جَدارة واستحقاق.

ومن آفات العصر أن كل شخص أصبح يدَّعي القدرة على فهم كلِّ شيء، والإفتاء في كلّ نازِلة، وانتحال صفةِ المفكِّر والعالِم المُحيط بكل أمر، والموسوعي المجتهد في كل موضوع. فبعد ضجَّته المثيرة للصخَب في قضية تعليم الدارجة بالمدارس عوض الفصحى مما يعرِّض الأمن اللغوي والثقافي لخطَر داهِم، يعود اليوم لإثارة زوبعة أخرى حول موضوع بالغِ الخطورة والحَساسية.

وهو في هذه المرة، لا يهم فئة محدودة من الناس، ولكنه يهمُّ كل أفراد المجتمع وطبقاته الخاصة والعامة، المتعلِّمة والمحرومة من التعليم، وفيه تَطاوُل غير عادي على الدِّين وقيَم المجتمع المغربي المعروف بتعلُّقه الشديد بإسلامه وعقيدته.

فقد دعا في تسجيل صوتي ومَرئيّ إلى ما سماه (حرية الجسد) وشرَحَها بأنها تعني حرية النساء والرجال، المتزوجّين وغير المتزوِّجين، في إباحة أجسادهم لمن شاءوا وقتما ما شاءوا. فللرجل الحرية المطلقة في بَذل جسده لرجل مثله، وللمرأة، أن تبذل جسدها لامرأة أخرى إذا شاءت، أو لأي رجل ـ حتى ولو كانت على ذمة زوجها ـ في عملية زنا ودعارة مكشوفة دون مراعاة لميثاق الزوجية أو أي قانون سماوي أو وضعي أو عُرفي، وللرجل أن يفعل مثلَ ذلك أيضاً مع أي امرأة ولو خارج ميثاق الزوجية أيضاً.

وفوق هذا وذاك، يطالب الدولة بأن لا تتدخل في هذا الشأن، بل عليها حماية مثل هذه الممارسات، وتغيير القوانين والدستور لتتلاءم معها. أما ما جاء به الدينُ قرآناً وسنةً ومذاهب فقهية، فهو عنده من الماضي المتلاشي الذي مضى وقتُه وامَّحَى أثَرُه.
قلت: ليست غايتي أن أناقش هذا الفَتّان فيما جاء على لسانه من قولٍ طائشٍ غيرِ مسؤول، لأنه لا يستحقُّ المناقشة أًصلاً، وإنما غايتي أن ألفت نظر كل من يهمه أمرُ البلاد ومستقبلُها وأمنُها واستقرارُها، إلى ما ينطوي عليه هذا النوع من الكلام المُباح من الأخطار العظيمة الجِسام.
وليس هناك ما هو أخطرُ على البلاد من جرِّها، بخطاب استفزازي متطرِّف في تحريضه على الإباحية الأخلاقية وممارسة الزّنا والدعارة والشُّذوذ الجِنسي، جهراً وعلانيةً، والتطاولِ على أحكام الدين المنصوص عليها في آيات من القرآن مُحكَمةٍ، وسنّة الرسول الكريم الثابتة الصحيحة، إلى ما هو أقوى منه تطرّفًاً في الاتجاه المضادّ، وإلى التمزُّق والحروب الأهلية والمذهبية والعقَدية، وإحداث شروخٍ عميقة في لُحمة المجتمع المُتماسِك الموحَّد ديناً وعقيدةً ومذهباً.

ولاسيما أن هذا الخطاب المتطرِّف ضد الأخلاق والقيَم والدين لم يكن داخل دائرة خاصة أو مغلقة، وإنما أُذيعَ ونُشِر على أوسع نطاقٍ بالصوت والصورة، في بلد عريق في إسلامه، ومجتمع متـشبِّع بقيَمه الدينية والأخلاقية، وصدَر عن شخصٍ حِرفتُه المعروفة هي تجارةُ الدعاية والإشهار، ولا معرفة له أو علاقةٌ بشؤون الدين أصلاً، ولا بعلوم القرآن والحديث والفقه ومذاهبه والاجتهاد وأصوله والفكر ومؤهلاته، ولا بلغة المجتمع الذي يُخاطبه وثقافته وعاداته الأصيلة. لذلك فهو بمثابة إعلان فِتنة داخل بلَد آمِن مستقِر، وخِطابِ حربٍ على السِّلم والأمن الاجتماعيّين، إذ ليس من المستبعَد أن تترتَّب عنه ـ كما قلتُ ـ ردودُ أفعالٍ قوية وقاسية لا تُحمَد عُقباها ونتائجُها، علَنية كانت أم مُستَتِرة.

إنها لعبةٌ نارية بالغةُ الخطورة لا تؤمَنُ حرائقُها وآفاتُها، وهذا ما لا يتمناه أيُّ عاقل متَّزِن لوطنه وشعبه. فالأغلبية الساحقة من هذا المجتمع المغربي مُسلِمة متشبِّثة بدينها وقيَمها، والدعوة إلى المسِّ بشيء أساسي من عقيدته وثوابت دينه وقيَمه وأخلاقه، لمن شأنها أن تكون دافعاً من دوافع الاضطرابات وزيادة الأزمات. فالتطرُّف من أي اتّجاه جاء، يولِّد تطرُّفاً مُضاداً قد يكون أشَدَّ منه وأَقوى. وهذا الخطاب الإباحيّ العنيف المتطاوِل على القيَم الدينية بشكل وقِحٍ، إنما هو في ذاته نوعٌ من التطرُّف المُدمِّر بلا شك. وإذا لم يوضع له حد ويُحاسَب صاحبُه محاسبةً قانونية، فمن المُمكن أن يقوّي في الاتجاه الآخر نزعة التطرُّف الديني المضادّ التي نعرف جميعاً آثارَها ونتائجها الكارثية. فلا أحد يجهل أن كثيراً من حركات التطرُّف الديني في العالَم، نشأت في الأًصل نتيجة رَدِّة أفعال لدعوات تطرُّفية في اتجاه من يَستهين بعقيدة المجتمع ويدوس قيَمه الأصيلة. والأمرُ يزداد خطورةً عندما تقف الدولةُ موقفَ المتفرِّج في الوقت الذي يكون من واجبها القيام بردع كل تطرُّف من أي اتجاه كان. فالوسَطية ومراعاة الشعور العام للمجتمع، ليستا مطلوبتين في الخطاب الديني فحسب، وإنما في أيّ خطاب مهما كان موضوعُه ومصدرُه، ولا سيما إذا كانت له تداعياتٌ من شأنها أن تُخل بالنظام العام للمجتمع والدولة كلها.

وإذا كانت الدولة تبادر إلى التدخل السريع في حالة أي خطاب ديني متطرّف، فعليها أيضًا واجبُ التدخل في حالة التطرف المضاد المسيء لعقيدة المجتمع ودينه وقيَمه الروحية والثقافية التي تجمعه وتوحِّده. فحين يخرج علينا شخص مستغلاً كل وسائل الدعاية والإشهار التي يملكها وموقعه الاجتماعي وعلاقاته الشخصية القوية الملتبِسة، ليَفتِنُ الناس في دينهم، ويحرِّض الأبناء على أولياء أمورهم، ويدعو لتحليل المُحرَّم شرعاً وقانوناً وعُرفاً، والاعتداء على ما اعتبره القرآن حداً من حدود الله التي لا يَسمح بتجاوزها، يصبح من واجب الدولة أن لا تقف مكتوفةَ الأيدي وتلزَمَ الحياد السّلبي، وإنما عليها أن تفكر في العواقب الوخيمة لما يحدث تحت سمعها وبصَرها، وما يمكن أن يؤدي إليه الأمرُ من عواقب سيّئة على أمن المجتمع وتماسُكه واستقراره.
ثم إن صاحب هذه الدعوة الإباحية التي يروِّج لها عبر وسائله الإشهارية الدعائية الواسعة الانتشار، له صفة أخرى هي كونه عضواً في المجلس الأعلى للتربية وللتعليم. وبغضّ النظر عن الطريقة التي اكتَسَب بها هذه العضوية، فإنه سمحَ لنفسه أن يستغل صفتَه هاته لتوجيه السياسة التعليمية للدولة بهذه الطريقة الفِجّة نحو الخطّ المنُحِرف الذي أراده.

والمفروض في عضو هذه الهيئة الدستورية العليا أن يلزَم قاعدةَ التحفُّظ في كل ما يصدر عنه من أٌقوال وأفعال ويحسب لكل كلمة منه حسابَها، لا أن يُجاهِر بالدعوة إلى إدخال ثقافة ما سماه (حرية الجسد) ضمن المقرّرات والمناهج الدراسية. وفي الوقت الذي ينتظر فيه المواطنون من هذه الهيئة العليا الانكباب على ما من شأنه إصلاح المنظومة التربوية والحرص على تنشِئة الأجيال على قيَم الفضيلة والأخلاق وحبّ الدين والوطن، يخرجُ علينا عضوٌ من أعضائها بخطة جهَنَّمية شاذّة منحرِفة تدعو إلى تعليم أبنائنا وبناتنا ممارسةَ الشذوذ الجنسي، وبَذلِ المرأة جسَدَها لغير زوجها، وتشجيع الشباب الطائش على العبَث ببنات الناس، وهتكِ أعراضهن في الفنادق وغيرها، واعتبار ذلك كله مجردَ ممارسة عادية لحرية جسَدية تدخل في نطاق “الثقافة الحديثة الكونية” التي على الدولة أن تحميها ولا تتدخل في شأنها، ناسياً أن لهذا المجتمع خصوصياتِه وثقافتَه وحضارتَه التي ينتمي إليها ولا يتسامح في نَسفها واختراقها.

لا يا رجل، وألف لا. فإذا كان هناك من يُبيح حرية السِّفاح والعلاقة الجسدية الحيوانية لأختٍ من أخواته أو بِنتٍ من بناته، أو زوجته أو قريبته، فعليه أن يحتفظ بهذا السلوك المَشين لنفسه وأهله داخل أسوار بيته المغلَق، وعليه بعد ذلك أن يعرف أنه واقعٌ تحت طائلة الشرع والقانون مهما كان. أما المغاربة المسلمون، فلا أعرف أحداً منهم يرضى لبنته أو أخته أو امرأته أو قريبته أن تسير في الطريق الشيطاني الذي يُدعَى إليه. وإذا كان عضوُ المجلس الأعلى للتربية والتكوين قد سمَح لنفسه بتحريض الدولة على هذا التوجُّه، فهو مخطئٌ وواهِم. لأن في المغرب مؤسساتٍ وهيئاتٍ ورجالاً ونساءً وشباباً لن يسمحوا أبداً بجرِّ البلاد إلى هذا المنعطَف الخطير، واتِّباع هذا العبث الأخلاقي ونشر الرذيلة باسم اجتهاد يدّعيه وهو أبعد ما يكون عن مؤهِّلات المفكّر والمجتهد والمُصلح الاجتماعي والديني.
وأمر آخر، هو أن من شأن هذه الدعاية الإشهارية الانحلالية أن تنشر في المجتمع أمراضاً جنسية خطيرة تُلحِق أضراراً بالغة بالسلامة الجسدية لأبنائه وبناته، وفي هذا أيضاً تهديد كبير لنوع آخر من أمن البلاد، وهو الأمن الصحّي الذي نحرص عليه حرصاً شديداً. فإذا كان صاحب الدعوة / الدعاية يريد إلحاق الضرر بنفسه وأهل بيته فهو حرُّ في نفسه، لكنه ليس حرّاً في الدعوة إلى تفشِّي الأمراض الفتّاكه في المجتمع كله، ولا في تحريض الناس على إلحاق الأذى بأنفسهم وغيرهم. وزيادة على ذلك، فإن إباحة العلاقات الجنسية بهذا الشكل المُقرِف من شأنه إنتاج آلاف الأطفال المُتخلَّى عنهم من مجهولي النسَب، وخلق مشاكل اجتماعية أخرى كالشكّ في الأنساب وزيادة النزاعات الزّوجية وارتفاع معدَّلات الطلاق وتهديد الاستقرار الأُسَري … إلى غير ذلك من الأمور التي لم يحسب الرجلُ لها حساباً، وهي أصلاً لا تهمُّه في شيء بقدر ما يهمُّه تخريبُ المجتمع والأسرة والإكثار من أطفال الشوارع، وزيادة هذه الأعباء البالغة التكاليف على كاهل الشعب والدولة.
أما حرية التديّن التي تحدَّث عنها هذا الفَتّان، فليست فكرة جديدة من إبداعه واجتهاده، ولا حاجة للاستناد فيها إلى قول وزير أو كبير، ولا هي دعوة جديدة أصلاً كما أراد أن يصوِّرها للناس، وإنما هي قاعدة من القواعد السمحة التي أرساها الإسلامُ منذ خمسة عشر قرنًا. ففي القرآن الكريم: ﴿من شاء فليُؤمن ومن شاء فليَكفر)، وفيه: ﴿ لكُم دينُكم وليَ دين)، وفيه: ﴿فذكِّر، إنما أنتَ مُذَكِّر، لستَ عليهم بمُسَيْطِر)، وفيه: ﴿ليس عليكَ هُداهُم، ولكن الله يَهدي مَن يشاء)، وفيه: ﴿لا إكراهَ في الدّين، قد تبيَّن الرُّشدُ من الغَيّ).. لكن الإسلام الذي سمح بحرية العبادة، ولم يُجبر أحداً على اعتناقه، وترَكَ الناس أحراراً في اختيار ديانتهم وإيمانهم، لا يسمح لأي متطفِّل على أمور الدين ليفسد على المسلمين إسلامَهم ويخرِّب ديارَهم ومجتمَعهم وأُسَرَهم ودولتَهم ونظامَهم ويقوِّض أُسُسَ وحدتهم بهَرطقاته وشَعوذته، ويُضلِّل شبابَهم، ويُنشئَ أبناءَهم في المدارس على غير ملَّتهم، ويغيِّر أو يبدِّل شيئاً من دينهم، ويزعزع أمنَهم الروحي، ويخلق الفتنة الكبرى فيما بينهم، ويقسّمهم إلى طوائف يُحارب بعضُها بعضًا. فهنا يتحول الأمرُ إلى مَسٍّ خطيرٍ بالأمن العام والنظام واستقرار البلاد ووحدتها.
لا أحد يمنع الآخر من التعبير عن آرائه وأفكاره، لكن دون أن يصل به الأمرُ إلى التعدّي على حرية الآخرين لاسيما إذا كانوا شعباً كاملاً ملتحمِاً ومُتحانِساً في دينه وعقيدته ومذهبه، وتجاوزِ الحدود التي تكون وراءها أخطارٌ كبيرة يمكن أن تَعصف بالمجتمع كلّه في لحظة من لحظات الطيش والعبَث، والاستِهانة بمشاعر المسلمين من أبناء هذا المجتمع الذي يستمدّ قوتَه ووحدتَه وتعايُشَه السلمي من تعاليم الدين وقيمه ومبادئه وثقافته وحضارته العريقة قبل كل شيء آخر. إنها لعبةٌ خبيثة قَذِرةٌ. وعلى الدولة وأهل العلم والفكر والإصلاح ورجال السياسة والثقافة والعقلاء جميعاً أن يبادروا إلى وضع حدٍّ لكل من يُمارسها بمثل هذا الحُمق والطيش والتهوّر والكلام اللامسؤول.

هذه كلمتي لكل من يهمه أمر سلامة البلاد والعباد. وأنا لستُ مفتياً ولا متخصِّصاً في علوم الشريعة والدين، ولكني مواطن حريصٌ على أمن بلدي واستقراره ومستقبله وتلاحُم كافة شرائحه ومكوِّناته، مشفِقٌ عليه من كل خطر يُحدِق به،غيورٌ على دينه وأمته وقيَمه والثوابت من هُويته.

(حساب الدكتور على فيسبوك).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M