د.بنكيران يكتب عن “التحايل لتحريم ما أحله وتحليل ما حرمه الله”

08 فبراير 2023 16:40

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

يعد تحريم ما أحله الله سبحانه وتعالى، أو تحلة ما حرمه جل جلاله من أكبر الكبائر. ووقوع المؤسسة التشريعية في هذه الكبيرة المشينة، لا يقتصر على أن تسن قانونا يخالف ما شرعه الله صراحة، بل يشمل كذلك الأساليب الملتوية والطرق غير المباشرة، التي يمكن تصنيفها في دائرة التحايل المذموم؛ لأن العبرة بالمقاصد لا بالوسائل، وبالحقائق لا بالمظاهر.

ولهذا لو توصلت تلك المؤسسة إلى تغيير أحكام الشريعة بالتحايل لكانت محلة لما حرمه الله ومحرمة لما أحله. ولا يبعد أن يكون محاولة تغيير أحكام الشريعة بالتحايل أشد خطرا على الإسلام والمسلمين من السعي إلى ذلك صراحة وجهارا.

ونظرا إلى خطورة التحايل على الحلال فيحرّم أو الحرام فيحلل، حذر الشرع منه وذكر بعض صوره، منها:

التحايل على الأشياء المحرمة بتغيير شكلها، كما فعل اليهود لما حرم الله عليهم أكل الشحوم؛ فلم يتخذوا أسلوبا صريحا وواضحا لانتهاك ما حُرم عليهم، بل احتالوا عليه بسلوك ملتو؛ فأذابوا تلك الشحوم حتى يتغير مظهرها وباعوها وأكلوا أثمانها(1).

والتحايل على الأشياء المحرمة بتسميتها بغير اسمها لتصير حلالا، كأن تحريم الأشياء شرعا يتعلق فقط بالأسماء لا بالمسميات، وبالمباني لا بالمعاني، وهذا ليس صحيحا؛ فإن خطاب الله يتعلق بالحقائق الشرعية ولو غيرت أسماؤها، فما حرمه الله يبقى حراما ولو سمي بأسماء جديدة لم ترد في الشرع، كما هو حال الخمر مثلا الذي أخبر النبي ﷺ بتلاعب بعض الناس باسمه ليحلوه (2).

والتحايل على الحرام بموافقة الشريعة في الرسم ومخالفتها في القصد؛ فمن أتى بأعمال يوافق فيها الأحكام الشرعية من حيث المظهر والشكل ويخالفها من حيث المقصد من تشريعها فقد تحايل ولم يمتثل لشرع الله، ولتقريب الصورة، نمثل بما جاء في التيس المستعار الذي أخبر به النبي ﷺ، فمظهر الزواج محفوظ والقصد منه مهتوك محرم(3).
من صور التحايل الجديدة لتحريم ما أحله الله، سَنّ الجهة المسؤولة قوانين تجعل المشروع الذي أذن به الشرع صعبَ المنال، وتفضي الى منعه واقعا دون التصريح بتحريمه، ومن الأمثلة التي تندرج في هذا النوع، تحريم تعدد الزوجات، وبيان ذلك:

قاربت مدونة الأسرة موضوع تعدد الزوجات وفق خطة أفضت إلى تحريمه واقعا، فكل عاقل منصف يتأمل مواد المدونة من 40 الى 45، يستنتج دون أدنى ارتياب أو غموض أن الهدف الحقيقي من تلك المواد المقررة، أن تجعل تعدد الزوجات شبه مستحيل، فهي لم تحرمه صراحة، لكنها سنت له قوانين جعلته ممنوعا، والشاهد من الواقع أقوى دليل على ذلك، فبعدما يتقدم الراغب في تعدد الزوجات بالطلب لدى المحكمة، يواجَه بالمسطرة الآتية:

✓ (لا تأذن المحكمة بالتعدد إذا لم يثبت لها المبرر الموضوعي الاستثنائي)؛
قلت: ولا يقبل من الأسباب الموضوعية لدى القضاء إلا إذا كانت زوجته عقيما، أو عاجزة عن الجماع، وهذا تضييق لا دليل عليه من الشرع، وعقبة تفضي إلى منع تعدد الزوجات.

✓ (إذا أصرت الزوجة المراد التزوج عليها على المطالبة بالتطليق، حددت المحكمة مبلغا لاستيفاء كافة حقوق الزوجة وأولادهما الملزم الزوج بالإنفاق عليهم)؛
قلت: في هذه المادة أو العقبة، يفرض على الزوج تطليق زوجته، وتشتيت أسرته وفراق أولاده، ولو أنه لا يرضى بذلك، وهي عقبة يصعب على الزوج تجاوزها للمضي في تحقيق رغبته المشروعة.

✓ (يجب على الزوج إيداع المبلغ المحدد داخل أجل لا يتعدى سبعة أيام)؛
قلت: في هذه العقبة، يلزم الزوج أداء مبالغ مالية باهظة لفائدة الزوجة دون مسوغ شرعي، مع أنه لا يرغب في طلاقها، وهي من أصرت على تطليق نفسها.

✓ (يعتبر عدم إيداع المبلغ المذكور داخل الأجل المحدد تراجعا عن طلب الإذن بالتعدد)؛
قلت: لا يخفى أن المدة التي أعطيت للزوج لتوفير المال قصيرة جدا، وهي عقبة أخرى على طالبي التعدد توشي بأن فلسفة القانون لمدونة الأسرة أو الخلفية التي تستند إليها تسعى إلى صرف الناس عما أحله الله.

✓ (فإذا تمسك الزوج بطلب الإذن بالتعدد، ولم توافق الزوجة المراد التزوج عليها، #ولم_تطلب_التطليق، طبقت المحكمة تلقائيا مسطرة الشقاق المنصوص عليها في المواد 94 إلى 97 بعده)؛

قلت: رغم أن الزوجة لم تطلب تطليق نفسها من المحكمة، فإن المحكمة كانت حريصة على التفريق بين الزوجين، وتشتيت الأسرة، وفرض مسطرة التطليق للشقاق، وهذا موقف آخر يؤكد أن الجهة المسؤولة عن سن قوانين المدونة لا ترغب في شريعة تعدد الزوجات، وأنها تحتال لمنعه.

هامش …………………………………

(1)حرم الله عز وجل على اليهود أكل الشحوم، لكنهم سلكوا طريق التحايل ليحلوا ما حُرم عليهم؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ” قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، (فَجَمَلُوهَا) فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا”.
يدل الحديث النبوي على أن اليهود لما أرادوا تحليل أكل الشحوم، لم يتخذوا أسلوبا صريحا وواضحا لانتهاك ما حُرم عليهم، بل احتالوا عليها بسلوك ملتو؛ فأذابوا الشحوم حتى يتغير مظهرها ويلتبس أمرها على الناس، ثم باعوها واستفادوا من ثمنها، لذلك استحقوا اللعن والطرد من رحمة الله سبحانه؛ لأنهم وقعوا في معصيتين: معصية عدم امتثال النهي الشرعي، ومعصية التحايل والخديعة لتحليل ما حُرم عليهم.

(2) يهدف صانعو هذه الحيلة إلى تحليل ما حرمه الله بتغيير أسماء المسميات، وهو خداع منهم للشرع وللناس، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في مصيدة هذا النوع من التحايل، فعن أَبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺيَقُولُ : ” لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ” رواه أحمد وغيره بسند صحيح. وفي سنن الدارمي بسند حسن أن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ : “إِنَّ أَوَّلَ مَا يُكْفَأُ – يَعْنِي الْإِسْلَامَ – كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ – يَعْنِي – الْخَمْرُ “. فَقِيلَ : كَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا مَا بَيَّنَ ؟ قَالَ رَسُولُ ﷺ: ” يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا فَيَسْتَحِلُّونَهَا “.
وفي وقتنا المعاصر، نرى جملة من الأشياء التي غيرت أسماؤها الشرعية ووضع مكانها أسماء حديثة حتى تغيب أحكامها الشرعية، ومنها الربا مثلا، فقد سميت بالفائدة.

(3) التيس المستعار هو: الرجل الذي يتزوج امرأة ويطلقها ليحللها لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثا وبانت منه بينونة كبرى، سواء جامع الرجل المحلل المرأة أو لم يجامعها، فمجرد الاتفاق بين الأطراف المعنية به على ذلك، يقع المحذور ويكون الزواج باطلا، وتنتهك حرمة الشريعة بتحلة ما حرمه الله. روى أبو دواد وغيره بسند صحيح أن رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قال: ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ ” قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ ﷺ: ” هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ “.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M