د. بنكيران يكتب عن: زكاة الفطر بين صاع القمح والنقد وقفة العيد

11 يونيو 2018 23:34
هل ابن تيمية هو من ابتدع تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام أم مسبوق به؟

هوية بريس – د. رشيد بنكيران

زكاة الفطر واجبة على كل مسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته.
والحكمة من تشريعها هو جبران ما قد يفوت الصائم من أجر بسبب تقصيره في طاعة أو وقوعه في ذنب، وكذلك مساواة للفقراء المعوزين الذين يحتاجون إلى من يغنيهم عن السؤال في يوم العيد فتكتمل فرحتهم بحلوله.
ويشهد لهذه المعاني ما جاء عن ابن عباس في حديث حسن أنه قال: «فرض رسولُ اللهِ ﷺ زكاة الفطرِ طُهرَةً للصائمِ من اللغوِ والرفثِ وطُعْمَةً للمساكينِ من أدَّاها قبلَ الصلاةِ فهي زكاةٌ مقبولَةٌ ومنْ أدَّاها بعدَ الصلاةِ فهيَ صدقةٌ منَ الصدقاتِ».
وإذا كان إخراج زكاة الفطر من العين (الطعام) هو الأصل، فقد اختلف العلماء قديما وحديثا في إخراج زكاة الفطر بالقيمة أو نقدا؛ هل يجوز أو لا يجوز؟
وهذا يدل على أن الخلاف في هذه المسألة من الخلاف المعتبر؛ فإن من أقوى أمارته بقاؤه بين علماء الأمة، ولهذا كان من المناسب جدا بل من الواجب استحضار أدب الخلاف عند تعرض لهذه المسألة والابتعاد عن ألفاظ التي لا تليق بالخلاف المعتبر من تبديع أو تفسيق أو نبز ولمز.
ويمكن أن نجمل الخلاف في حكم إخراج زكاة الفطر بالقيمة حسب ما نقلته كتب مذاهب الأئمة الأربعة إلى ثلاثة أقوال:
1ـ أنه يجزئ بكل حال، كما قال به الإمام أبو حنيفة. بل ذهب بعض فقهاء الأحناف إلى أن أداء القيمة أفضل وعليه الفتوى لأنه أدفع لحاجة الفقير، وأحيانا تترجح الأفضلية عندهم بين العين أو القيمة بحسب ما هو أنفع للفقير.
2ـ أنه لا يجزئ بحال، كما قاله الإمام مالك في المشهور عنه، والإمام الشافعي.
3ـ أنه لا يجزئ إلا عند الحاجة. وهو المنصوص عن الإمام أحمد صريحا. فإنه منع من إخراج القيمة، وجوزه في مواضع للحاجة، كما جزم بذلك ابن تيمية.
ولست أروم في هذه السطور القليلة مناقشة الراجح من الأقوال، ولكن غرضي هو أن أدعو من يعتقد رجحان مذهب الجمهور -والذي يبدو هو الأقوى حجة- والقائل بوجوب إخراج زكاة الفطر طعاما، أن يتأمل مدى تحقق مقصد الحكم عند تنزيله، فإن الأحكام الشرعية غير مراد لذاتها، وإنما هي وسائل يراد منها تحقيق مقاصدها التي من أجلها شرعت.
فإذا كان مقصد الحكم يتحقق جزء منه بإخراج زكاة الفطر طعاما (صاع من قمح مثلا)، والذي يتمثل في كونه طُهرَةً للصائمِ من اللغوِ والرفثِ، فإن جزأه الثاني من المقصد ، والذي يتعلق بإطعام المساكين ، لا يتحقق بالشكل المطلوب شرعا عندما نخرج زكاة الفطر صاعا من قمح، يوضح ذلك:
1ـ يعدّ الطعام من العاديات مثله مثل اللباس والسكنى وغيرهما، ومفهومه يتأثر كثيرا بالعرف والعادة والمألوف، فرُبّ طعام كان يملأ العين قبل البطن في الصدر الأول، لم يعد من يملكه في زمانا اليوم يدفع عنه الشعور بالجوع والفقر ، يقول القاضي عبد الوهاب في المعونة عند شرحه «أغنوهم عن الطلب في ذلك اليوم» وهم لا يستغنون عن الطلب إلا بوجود قوتهم المألوف لهم…
2ـ تقديم صاع أو أصوع من القمح للمعدم لا تتحقق به الطعمة في وقتنا المعاصر، وخصوصا لأهل الحضر؛ لأن صناعة الطعمة أو المَأكُلَة في واقع الناس اليوم أصبح يتطلب أشياء كثيرة، وقد يكون القمح آخرها أو لا يكون.
3ـ إعطاء أصوع القمح للمسكين يشبه تقديم شيء لن يستفيد منه يوم العيد، لأن جعل القمح جاهز للاستعمال أي دقيقا يتطلب دفعه للطاحونة، وهو أمر متعذر يوم العيد أو ثاني يوم العيد، فضلا على تكلفة يفر منها صاحب الإمكانيات فضلا أن يتحملها المسكين المعدم.
4ـ غالب المساكين ـ كما نشاهد مشاهدة عيان ونقل الأخبار المستفيضة ـ الذين قُدم لهم أصوع القمح يبيعونها للمحلات المخصصة لذلك لأجل أخذ النقود وشراء بها ما يحتاجون، فيغبن المسكين مرتين؛ مرة بأخذ ثمن بخس مقابل أصوع القمح والتي تكون غالبا من أجناس مختلقة، ومرة بضياع جهده وهو يحمل تلك الأصواع الثقيلة دون قيمة مضافة إلى محلات البيع.
5ـ لا تَـتحقق الفرحة المرجوة للمسكين يوم العيد بتقديم له أصوع القمح، ولا يغنيه ذلك عن السؤال في ذلك اليوم للأسباب الآنفة الذكر.
وبناء عليه، فإن التزام الوسيلة التي عينها النبي ﷺ في زمانه لم تعد تحقق المقصد الذي من أجله شرع الحكم، ولهذا لا مانع شرعا لمن يعتقد وجوب إخراج زكاة الفطر طعاما أن يبحث عن الوسيلة التي تمكنه من توقيع مقصد الحكم، ولنا في ضوال الإبل الشاردة عن أصحابها (وغيرها من الأمثلة) خير شاهد على ما ندعو إليه؛
كانت ضوال الإبل (الإبل الشاردة التي ضاعت من صاحبها) في عهد النبي ﷺ لا يتعرض لها حيث نهى عليه الصلاة والسلام نهيا شديدا عن المساس بها، فتُترك كما هي في مكانها التي استقرت فيه حتى يجدها صاحبها، وكانت هذه الوسيلة تحقق المقصود من الحكم وهو حفظ المال أو الإبل لصاحبها…
ولكن لما تغير الواقع في عهد الصحابة بدخول أناس جدد في الإسلام وأصبح هناك من يمتد إلى الحرام، تصرف عثمان بن عفان في الإبل الشاردة فباعها واحتفظ بثمنها حتى يأتي صاحبها ويأخذ ماله…
فالمقصد هو حفظ المال، لكن الوسيلة التي كانت في عهد النبي ﷺ والتي هي بمثابة الحكم الشرعي (النهي عن تعرض لضوال الإبل) تغيرت لوجود معارض لها أقوى، وكذلك هو الواقع اليوم فيما يتعلق بتقديم أصوع القمح للمسكين زكاةً الفطر.
وأظن أن من قال بجواز إخراج زكاة الفطر بالقيمة بقيد وجود الحاجة إلى ذلك كما هو مذهب الإمام أحمد فأنما اتجه نظره إلى تنزيل الحكم، فوجد أحيانا أنه هناك ما هو أقوى منه يعارضه، ولهذا قال بذلك. يقول ابن تيمية مجموع الفتاوى(ج25 / 46): وهذا القول أعدل الأقوال… فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا كسائر أدلة الوجوب، ومعلوم أن مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنفية شرعا.
ومن باب التنبيه والفائدة، فإن أي حكم من أحكام الشريعة إلا وله شروط يجب أن تتوفر فيه وموانع يجب أن تنتفي عنه، وهذا ما يسعى إليه محاول البيان أن يبرزه.
وعليه، فإن الذي يأخذ بهذا النظر الذي قررناه، هو في حقيقة أمره لا يزال يأخذ بقول الجمهور، إلا أن تنزيل الحكم بالوسيلة التي كانت في الصدر الأول وُجد لها موانع في وقتنا المعاصر.
بقي لي أن أتحدث عن ما المقصود بقفة العيد:
قفة العيد هو كيس يحمل مجموعة من المواد الغذائية (نصف كيلو من اللحم أو دجاجة، 5كيلو دقيق، زيت، سكر، شاي…) ما يمكن أن يصنع وجبة طعام لا بأس بها، تناسب إلى حد ما يحقق للمسكن مع أسرته كفاية يوم العيد.
فتكون الدعوة لعموم المزكين (من تجب عليهم زكاة الفطر) والراغبين في الانخراط في مشروع قفة العيد، فتجمع أموالهم ويشتري بها المواد الغذائية، وتجعل في الكيس كما سبق ذكره وتقدم للمحتاجين.
ويكون بذلك حققنا المقصد من زكاة الفطر، فقدمنا الطعام للمسكين الذي سيستفيد منه يوم العيد، ورجونا أن تكون طهرة للمزكي، وأبقينا زكاة الفطر شعيرة ظاهرة في المجتمع، وهو مقصد آخر يأتي بالتبع حينما تكون طعمة، بخلاف من يقدمها نقدا فتكاد أن تكون خفية.

والله أعلم

آخر اﻷخبار
3 تعليقات
  1. مقال يتضمن اتهام الشريعة بالقصور عن الشمولية الزمانية كما يظهر العبادة كأنها طوع التعديلات البشرية…

  2.  قال صاحب المقال:”فإن الأحكام الشرعية غير مراد لذاتها، وإنما هي وسائل يراد منها تحقيق مقاصدها التي من أجلها شرعت.”
    هذا من كلامه وهو كلام خطير جدا. لأن كل عبادة قد لا يفهم المقصد منها أولا. وقد تكون هي بذاتها مقصودة.
    فعلى هذا الكلام مثلا: الصلاة مقاصدها النهي عن الفحشاء والمنكر والتقرب إلى الله سبحانه. والتفريغ لعبادته. فإذن إذا تحققت هذه المقاصد بغير الصلاة فيمكن إسقاطها. وقل ذلك في جميع العبادات.

  3. هذا كلام فيه تجرؤ واضح. فالقائلون بالجواز يجوزون بأدلة أخرى. لكن أن يقول أن المقصد ثم يدندن حوله. فهذا كله لغو فإن فرحة المال لا تعادلها فرحة الأصع في أي من الأزمنة. ومع ذلك بين صلى الله عليه وسلم الواجب. والغريب أنه لا يستدل بالأحاديث الأخر التي يصرح فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنها طعمة.
    نعم نلجأ للخلاف في حالة الضرورة وفي حالة تعسر الواجب. كما في بعض بلاد الغربية. مع تحفظ شديد. لكن أن نلعب على المقاصد ثم نشرع فهذا من باب التأويل الذي ركبته بعض الفرق لتشريع ما أرادت والله تعالى أعلم.

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M