د. رشيد بنكيران: أنا مسلم علماني.. هل يصح في ميزان الشرع؟!

12 مارس 2018 15:43
د. بنكيران يكتب: العلمانية هي الحل.. سفسطة حكيم الببغاء

هوية بريس – د. رشيد بنكيران

تقرر أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولهذا، وقبل أي حكم على الدعوى، موضوع هذا المقال، يحسن بنا أن نمهد بمقدمة نبين فيها مفهوم هذا الفكر وحقيقته، لكي نتصوره تصورا يمكِّننا من أن نجيب عن السؤال بشكل صحيح.
العَلمانية فكر وضعي معاصر يؤله البشر، ويقوم على أساس إقصاء الدين السماوي من الحياة العامة للمجتمع أو الحياة العامة للمجتمع والخاصة للفرد.
وتتنوع العلمانية باعتبار موقفها من الدين والتدين إلى ثلاثة أنواع:
العلمانية المتطرفة: وهي التي تنكر وجود الله، وتدعو الناس إلى الإلحاد والتحرر من رِبْقة التدين ومناهضة التشريع السماوي في الحياة العامة والخاصة. ومن الأمثلة المعاصرة لهذا النوع، الشيوعية الماركسية (لا إله، والحياة مادة… والدين أفيون الشعوب).
العلمانية الصلبة: وهي التي لا تعطي لفكرة وجود الخالق سبحانه من عدمه أهمية رئيسة، فتتحاشى الحديث في هذه المسألة. إلا أنها تمنع أن يكون لله جل جلاله دور في الحياة العامة للمجتمع، فتسند تقنين العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى البشر وفق مرجعية غير دينية، فلا سلطان لله الخالق على الحياة العامة للبشر، ولا تدبير للمجتمع إلا ما يأذن به عقل الإنسان.
العلمانية الناعمة الماكرة: وهي التي لا تنكر وجود الله، وتقدس الحرية الشخصية المطلقة، وتدعو إلى احترام معتقدات الناس على المستوى الفردي، سواء كانت هذه المعتقدات دينية أو غير دينية، وسواء كان أصحابها كثيرين أو قلة، بل الأقلية في ظل هذه العلمانية تلقى اهتماما أكثر، حتى أصبح شأنها يُعرف بحقوق الأقليات. وقد يوجد في صفوف هذه العلمانية من يمارس بعض الشعائر الدينية مثل الصلاة والصيام والحج وغيرها، وفي المقابل، وهذه هي المفارقة البراح، فهي تمنع أن يكون لله حق في الوجود على مستوى التشريع العام، فتكفر بالله مشرعاً للحياة العامة للخَلْق بعدما أقرت به خالقا لهم. ولهذا كانت مفاهيم الروابط الاجتماعية لديها لا تخضع لسلطة الله سبحانه. ومن أبرز هذه الروابط الاجتماعية، رابطة الأسرة وما يتعلق بها من حقوق وواجبات مادية ومعنوية وأخلاقية بين الزوجين وبين والأقارب.
أما ما قد يصدر عن أصحاب هذا القسم من كلام يدعو إلى احترام المجتمع المتدين على المستوى الاجتماعي وفي الفضاء العام، فإنما هو تدرجٌ منهم في تنزيل مبادئ العلمانية، واستدراجٌ لذلك المجتمع حتى يتشرب الفكر العلماني، ودفعٌ لما يمكن دفعه من الاصطدام المباشر غير المحسوب بين مبادئ العلمانية والمؤمنين بشريعة الله.
وعليه، فهذا اللون من العلمانية، وبفضل أسلوب المكر والخداع الذي تنهجه في تقديم نفسها للمجتمع، وتتظاهر بمظهر الحاضن لجميع التنوعات الفكرية لدى أفراده ومجموعاته، والمحايد تجاهها جميعا، بيد أنها أشد خطرا على الإسلام والمسلمين من باقي العلمانيات الأخرى، وأشد عداوة للإسلام العام والخاص وتشويها له، لأن الفكر العلماني لا يمكن له أن يتحكم في الواقع ويهيمن على المجتمع المسلم دون السعي لاستئصال الإسلام الصحيح أو إضعافه.
نخلص، بعد هذه المقدمة، إلى أن العَلمانية بجميع أنواعها رفضت أن يكون الخالق مشرعا للمجتمع، وأنكرت حق الله الخالص في التحليل والتحريم، وفي تأسيس المفاهيم الأخلاقية لدى المجتمع ، ولم تأذن له في الوجود إلا في ضمائر الناس وعبر شعائر محددة، كالصلاة والصيام والحج…، والتي لا ترتبط بتنظيم الحياة العامة للناس على مستويات متنوعة.
ولبيانٍ شافٍ لمكونات الواقع المطلوب تصوره، وإبرازِ مدى اغتصاب العلمانية حق الخالق في التحليل والتحريم أسوق هذه الأمثلة الآتية:
1ـ الإرث: تدعو العلمانية إلى تدبير الإرث وفق أصل المساواة المطلقة بين الجنسين الذي يلغي كل فرق بين الذكر والأنثى، وتعتقد أن ما جاء به الإسلام في الإرث جوْراً ضد المرأة لصالح الذكر. ولتسويغ هذه الدعوة، تستند العلمانية إلى الحقوق الكونية الوضعية، أي التي وضعها الفكر الغربي وحده وفق مرجعيته. أما ما شرعه الله سبحانه، والذي أعطى كل ذي حق حقه بنص قطعي الثبوت والدلالة كما جاء في القرآن، فترفضه بدعوى أنه لا دخل لله أو للدين في الحكم بين الناس، وخاصة في تقسيم ما يملكون.
2ـ العلاقة الجنسية: ترى العلمانية أن الإنسان حر في جسده، فهو مالكه، وله الحق الكامل في أن يمارس الجنس مع من شاء (زنا، لواط، سحاق)، وتدعو المجتمع إلى قبول هذه العلاقات، أو ما يسمى بالفكر الإباحي، على أنها حقوق شخصية لا تضر المجتمع في شيء ما دام أنها ستكون في فضاء خاص.
3ـ الخيانة الزوجية: تعتقد العلمانية وفق فلسفتها في مفهوم الحقوق الكونية وحرية الجسد أن الزنا الذي يقع من أحد الأزواج هو جريمة في حق الزوج الآخر، ولهذا لو تنازل صاحبُ الحق للخائن لرفعت جريمة الخيانة ولم يطالب الجاني بأي شيء. ولكن الإسلام يأبى هذا التفسير السطحي للحقوق، ويرى أن هناك حقوقا لله عز وجل أعلى من جميع الحقوق تسمى حدوده ويطلق عليها القانون أحيانا بالحق العام، فمن تعدى حدود الله بالزنا مثلا وجب صيانة حق الله تعالى من الضياع، ولا يجوز التنازل عنه والتفريط فيه حتى لو تنازل الزوجان عن حقهما وأيدهما المجتمع.
4ـ إباحة الإجهاض: تطالب العلمانية بحق المرأة في الإجهاض وبتقنينه على أساس أنه حق خاص للمرأة الحامل، ومسألة شخصية مباحة، تلجها متى شاءت بزعمهم. أما حق الخالق الذي جعل من النطفة في الرحم علقة ثم خلقها مضغة، ثم نفخ فيها الروح، فلا شأن له بأمر الإجهاض. والإقدام على هذا الفعل دون ضرورة شرعية عدّه الشرع قتلا للنفس ومحرما إجماعا.
وإذا اكتفينا بذكر هذه الأمثلة المحصورة التي كان الغرض منها بيان واقع العلمانية، ومدى مصادمتها للشريعة الإسلامية، ودعوتها للفكر الإباحي لما حرم الله، فهناك أمثلة أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها كالمطالبة بإسقاط عقوبة الإعدام عن القاتل العمد، وإباحة التبني المحرم إجماعا، وإباحة الزواج المثلي، والترخيص لانتهاك حرمة رمضان بالفطر… إلاّ أنه يتعين التنبيه إلى أن كل ما ذكر من أمثلة لا يلزم العلماني أن يمارسه عمليا حتى يكون علمانيا، فنحن نرى من أصحاب هذا الفكر من يصلي ويصوم ويأتي ببعض مظاهر العفة مثل الحجاب، ويبتعد عن بعض المحرمات…، وإنما المطلوب منه ليكون علمانيا أن يعتقد إباحة تلك المطالب المسماة حقوقا ويقدسها، وأنها تدخل ضمن حقوق الإنسان أو حريته الشخصية، وهي مباحات مأذون بها، ولا دخل للدين في منعها أو تقييدها، وبهذا يكون علمانيا مخلصا ووفيا لمبادئ العلمانية.
واعتقاد إباحة هذه الحقوق العَلمانية التي مثلنا لها واستباحتها هي في حقيقتها في معنى الاستحلال لما حرم الله سبحانه من المعلوم من الدين بالضرورة، فلفظ “الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً” كما ذكره الشاطبي في كتابه الاعتصام، فالمراد بـ”حلالا” أي مباحا له فعل ذلك الشيء، ومن حقه أن يأتيه متى شاء.
وإذا ارتبط ذلك الشيء المستباح بما حرمه الله سبحانه وتعالى، وكان تحريمه معلوما لدى الجميع؛ الكبير والصغير، والمثقف وغير المثقف، والمقيم في الحضر والمقيم في البادية، والمتخصص في الشرع وعامة الناس، أي المعلوم الذي لا يمكن لأي أحد أن يجهله مهما كان وضعه ومستواه، فمن من المغاربة من يجهل حرمة الزنا مثلا ، فالعلم بحرمة الزنا لا يمكن لأحد أن يدفعه عن نفسه، إلا إذا كان يعيش في أحوال نادرة هي أقرب إلى المستحيل، فهذا له وضع خاص وحكم خاص. أما من كان يعلم أن الله حرم الزنا ويطالب رغم ذلك بإباحتها وأنها تدخل ضمن حرية الإنسان الشخصية وهي من حقوقه فقد وقع في كفر البواح المخرج من الملة والمسمى كفر الاستحلال.
يقول القاضي عياض رحمه الله (ت 544هـ) وهو من كبار علماء المالكية في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 287): “أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا، مما حرم الله بعد علمه بتحريمه..”.
لا أظن أن كلام القاضي عياض يحتاج إلى شرح أو توضيح، ولكن ينبغي التركيز على الإجماع الذي نقل ودلالته القاطعة على الحكم والذي لم يقع فيه اختلاف، وما ذكره رحمه الله ذكره غيره من علماء المذهب، ومن بين هؤلاء العلماء:
قال محمد بن رشد (ت520هـ) في كتابه البيان والتحصيل (16/ 394): أما من جحد فرض الوضوء والصلاة والزكاة أو الصيام أو الحج، أو استحل شرب الخمر، أو الزنا…، فلا اختلاف في أنه كافر، وإن قال: إنه مؤمن فيعلم أنه في ذلك كاذب للإجماع المنعقد على أن ذلك لا يكون إلا من كافر”. اهـ
وفي كلام ابن رشد الجد رحمه الله بيان سبب كفر من استباح محرما مثل الزنا مثلا، وهو أنه يتضمن تكذيب الله سبحانه وتعالى، لأن الله حرم الزنا، والعلماني يقول هي مباحة، وللإنسان الحق في ممارستها، وتدخل ضمن حريته الشخصية…
وقد تتابع العلماء المالكية بتكفير من استحل محرما معلوما من الدين بالضرورة، فنقل بهرام تاج الدين السلمي الدمياطي المالكي (ت 805 هـ) في كتابه “الشامل في فقه الإمام مالك” الإجماع على كفره، وكذلك أبو عبد الله المواق المالكي (ت 897هـ) في كتابه “التاج والإكليل لمختصر خليل”، ومحمد ابن غازي العثماني المكناسي (ت: 919هـ) في كتابه “شفاء الغليل في حل مقفل خليل”، و محمد بن أحمد الدسوقي (ت 1230هـ) في “حاشيته على الشرح الكبير”، وغير هؤلاء كثر، كما هو مقرر في جميع المذاهب الإسلامية الأخرى. وإنما اكتفيت بالنقل عن علماء المذهب المالكي للمكانة السنية العالية التي يحضون بها عند المغاربة وحُق لهم ذلك، ولتكميم أفواه ما لبثوا يلصقون تهمة التكفيري أو الوهابية أو الداعشية من تحدث في مثل هذا الموضوع وبهذا النفس واستدل بعلماء خارج المذهب المالكي.
وبناء عليه، فمن اعتقد أن تلك الإباحيات التي مثلنا لها هي حقوق للإنسان لم يعد مسلما، وإن صلى وصام وحج واعتمر، كما نص على ذلك ابن رشد رحمه الله، وقد وقع في ناقض من نواقض الإيمان المسمى: كفر استحلال. وهو كفر يتضمن تكذيب ما أخبر الله بتحريمه، ويستحيل أن يجتمع في المسلم تصديق الله وتكذيبه كما يستحيل أن يكون الإنسان مسلما ويكون علمانيا.
ولا يخفى على أهل العلم وأولي النُّهى أن الحكم بالكفر على الأعيان؛ فلان وفلانة ممن تلبس بالعقيدة العلمانية الإباحية يتطلب إثبات شروط وانتفاء موانع، ليس هذا المقال موضعا للتفصيل فيها.
والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. جزاك الله خيرا…
    لقد آذونا _بنو علمان_كثيرا و نجسوا فطرتنا و فطرة ابنائنا … عاملهم الله بما يستحقون

  2. هذه شعار العلماني (لا إله، والحياة مادة… والدين أفيون الشعوب) مسلم وعلماني هذا نفاق وحيلة وهناك من يريد فرق الدين عن السياسة هل الإيمان بالله جاكيطة نلبسها وننزحها كيف نشاء؟

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M