رد على مقال: «تصحيح حديث فضائل القرآن» (ح5)

09 أبريل 2016 01:20
الدروس المؤصلة لمن خالف العلماء وفقد البوصلة

منير المرود

هوية بريس – السبت 09 أبريل 2016

ضمن سلسلة: ( دفاعا عن السنة النبوية الشريفة : سلسلة الردود العلمية على خريج دار الحديث الحسنية “محمد بن الأزرق الأنجري” )

الجزء السادس: الحلقة الخامسة والأخيرة

بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

وبعد:

كتب ابن الأزرق في مقاله موضوع البحث قائلا:

ثانيا: حديث سيدنا عبد الله بن مسعود

( روى أَبُو مُعَاوِيَةَ ومحمد بن عمرو بن علقمة ومحمد بن عجلان وصالح بن عمر ويحيى بن عمر أو ابن عثمان الحنفي وعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ وعمار بن محمد الثوري ويَزِيدَ بْنِ عَطَاءٍ وَحَكِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ الْهَجَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَتَعَلَّمُوا مَأْدُبَتَهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ … ) الحديث.

السقطة الأولى:

قال ابن الأزرق تعليقا على رواية ابن مسعود رضي الله عنه: (حكمــــــــــــــــــــــه: قال الإمام الحاكم في المستدرك: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِصَالِحِ بْنِ عُمَرَ» ).اهـ

قلت: الحاكم رحمه الله معروف بتساهله في التصحيح، وقد أشار السيوطي في ألفيته إلى ذلك حيث قال:

وكم به تساهل حتى ورد  ***  فيه مناكير وموضوع يرد

قال الأثيوبي في شرحه لألفية السيوطي: « (وكم) أي كثير (به) أي في كتابه (تساهل) أي تغافل في التصحيح, قال الحافظ: وإنما وقع له ذلك لأنه سود الكتاب لينقحه فأعجلته المنية »[1]، وقال : « والحاكم إلا أنه وقع له تساهل كثير »[2].

ولذلك تعقبه الحافظ الذهبي على أحكامه في كتاب ” التلخيص”.

قال الشيخ الألباني في سلسلته الضعيفة: « إذا صحح الحاكم حديثا – وهو معروف بتساهله في ذلك – ورده عليه أمثال الذهبي والهيثمي والعسقلاني أفيجوز والحالة هذه التعلق بتصحيح الحاكم؟! اللهم إن هذا لا يقول به إلا جاهل أو مغرض! اللهم فاحفظنا من اتباع الهوى حتى لا يضلنا عن سبيلك »[3].

السقطة الثانية:

أكثر ابن “ابن الأزرق” من ذكر من خرج هذه الأحاديث، كما صدر رواية الحديث بجمع من الرواة، مما يوهم من لا علم له أن الحديث قوي لكثرة رواته، والمعروف بين المحدثين والمشتغلين بهذا الفن الشريف أن كثرة المخرجين للحديث لا تعطيه قوة إذا انتهت أسانيدهم إلى طريق واحدة[4].

وجميع هذه المصادر التي ذكرها “الأنجري” تدور رحاها على إبراهيم الهجري وأبي الأحوص، وبالتالي فلا وجه لذكر ذلك الجمع الغفير الذي روى هذا الحديث إلا إذا كان الهدف من ذلك توجيه الروايات عند التعارض، وهذا ما لم يفعله صاحب هذه الأباطيل.

السقطة الثالثة:

 بما أن مدار الحديث على “إبراهيم الهجري”، فإن ابن الأزرق أراد أن يسقط عنه ما وسمه به العلماء من الضعف بضرب من الكهانة، وقد سود لذلك فقرة تحتاج كل كلمة منها إلى رد، سأورد بعض أخطائه فيها على الشكل التالية:

1 ـ قال: (لكنهم اعتبروا قول الإمام يَحْيى بن مَعِين المتأخر زمانا عن الهجري، والذي لم يفهم كلام ابن عيينة جيدا )

قلت: كيف يجرؤ على وصف يحيى بن معين بسوء الفهم وهو الذي قال عنه الإمام أحمد: « كان أعلمنا بالرجال يحيى بن معين »، وهل العبرة بتأخر الزمان أم بسبر حديث الرواة، وكلام “ابن الأزرق” الذي قبل هذا الكلام المدون أعلاه والذي بعده، يدل على قصوره في فهم طريقة القدماء في الحكم على الراوي بالصحة أو الضعف، حيث يعتقد أنه بمجرد سماع كلام ابن عيينة في “الهجري” حكموا عليه بالضعف، والحال أنهم لا يضعفون أو يصححون راو ما إلا بعد استقراء جميع مروياته، مع النظر فيها، ومقارنتها برواية غيره، فإن كثر خطؤه ضعفوه، وإن قلَّ وثقوه وبين ذلك مراتب كثيرة يعرفها المشتغلون بهذا الفن.

2 ـ وقال أيضا :” وأعدل الأقوال في الرجل قول ابن عدي في كتاب الكامل: وإبراهيم الهجري هذا حدث عنه شُعْبَة والثوري وغيرهما، وأحاديثه عامتها مستقيمة المتن، وإِنَّما أنكروا عليه كثرة روايته عَن أبي الأحوص عن عَبد اللَّه، وَهو عندي ممن يكتب حديثه “.

قلت: لم تفهم كلام “ابن عدي” كعادتك مع المتقدمين، وهذا يدل على عدم إلمامك بمصطلحات العلماء في الجرح والتعديل، فقول أغلب المتقدمين: “يكتب حديثه” يدل على ضعف من أطلق عليه هذا الوصف، وقد أكثر “ابن عدي” رحمه الله من إطلاق هذه العبارة في “الكامل”، وقد ظهري لي بعد تتبع الكثير منها أنه قد يطلقها على الضعفاء، كما قد يطلقها على من يحسن حديثه، سواء أكانت مضافة إلى قوله “مع ضعفه”، أو مفردة كما في ترجمة “الهجري”.

ولا يمكن فهم كلامه هنا ـ رحمه الله ـ إلا بمقارنته بتراجم باقي الرواة، وقد ظهر من خلال المقارنة أنه يقصد ب “يكتب حديثه” أي مع ضعفه، بدليل قوله في ترجمة إبراهيم بن مهاجر: « وإبراهيم بن مهاجر أحاديثه صالحة، يحمل بعضها بعضا، ويشبه بعضها بعضا، وهو عندي أصلح من إبراهيم الهجري، وحديثه يكتب في الضعفاء »[5].

قلت: فإبراهيم بن مهاجر أصلح من “الهجري” ومع ذلك يكتب حديثه في الضعفاء، أي من أجل المتابعة والاعتبار، فكيف هو الحال بالنسبة إلى “الهجري” إذن ؟!.

بل إنني قد وجدت ابن عدي نفسه يصف ” الهجري” باللين، حيث قال في ترجمة “يزيد بن عطاء اليشكري”: « وهذه الأحاديث لم تؤت من قبل يزيد بن عطاء بل هو من قبل إبراهيم الهجري لأنه لين»[6].

وإتماما للفائدة أجد نفسي مضطرا لأن أسوق كلام ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه ” الجرح والتعديل”، حيث يقول مبينا مراتب ألفاظ الجرح والتعديل: « ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى وإذا قيل للواحد إنه ثقة أو متقن ثبت فهو ممن يحتج بحديثه، وإذا قيل له إنه صدوق أو محله الصدق أولا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية، وإذا قيل شيخ فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية، وإذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار، واذا أجابوا في الرجل بلين الحديث فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا… »[7].

فهل ستبقى على رأيك في الاحتجاج بقول ابن عدي ؟، وقد علمت بالدليل والبرهان أنه يضعف “الهجري” إذا تفرد بالرواية.

3 ـ ثم قال: (وأحسن منه ما نقله ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الإمام الفسوي قال: “كان رفاعا لا بأس به” ).

أقول: هذا القدر المتفق عليه بيننا وبينك هو ما نحتاجه للحكم على هذه الرواية بالوقف، فقد وصفه الفسوي والإمام أحمد وغيرهما بكونه رفاعا، وهي صيغة مبالغة تدل على الإكثار من رفع الموقوفات.

والرواية التي بين أيدينا رواها عنه أكثر من شخص، بعضهم بالوقف وبعضهم بالرفع، وفي الجانبين معا نجد الرواة عنه ثقات، فكيف تم ترجيح رواية الوقف إذن ؟

لقد قمنا بترجيح رواية الوقف لأننا نجد في أحد طرقها ابن عيينة كما في المصنف 3/375 برقم 6017، وروايته عنه صحيحة تقدم على غيرها في حالة التعارض، لما رواه ابن عدي وغير ـ بسنده ـ أن سفيان بن عيينة قال: « أتيت إبراهيم الهجري فدفع إلي عامة حديثه، فرحمت الشيخ فأصلحت له كتابه فقلت: هذا عن عبد الله، وهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عن عمر»[8].

قال ابن حجر معلقا: « القصة المتقدمة عن ابن عيينة تقتضي أن حديثه عنه صحيح لأنه إنما عيب عليه رفعه أحاديث موقوفة وابن عيينة ذكر أنه ميز حديث عبد الله من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم»[9].

السقطة الرابعة:

قال: (هذا وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه أحاديث من طريق إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود عن رسول الله، فهذا السند صحيح عنده )

قلت: ليس من التحقيق إطلاق الكلام على عواهنه دون دليل أو بينة، فقوله “أحاديث” يوهم بأن ابن خزيمة رحمه الله روى ثلاثة فما فوق، والحال أنه لم يورد من طريقه بهذا السند أو غيره إلا حديثين[10]، إلا إذا كان كلام “الأنجري” سيق على أن أقل الجمع هو اثنان فهذا شأن آخر!.

السقطة الخامسة:

قال “ابن الأزرق”: (واضطرب الحافظ الذهبي، فأورد الهجري في الضعفاء، لكنه وافق الحاكم النيسابوري في تصحيحه لكثير من أحاديث الهجري، حتى إنه قال في تعليقه على تصحيح الحاكم (4/146) لحديث يرويه شعبة عن الهجري: على شرط البخاري ومسلم. ه ).

قلت: ما أجرأك، وما أكثر غفلتك، وتقصيرك عن قراءة وفهم كلام العلماء!، وما أغرب هذه الأخطاء التي تقع فيها وأنت خريج دار الحديث الحسنية.

فالموضع الذي أشرت إليه من مستدرك الحاكم، والذي ضمنه محققه تعليقات “الذهبي” في “التلخيص” ليس فيه ما يدل على تصحيح “الذهبي” لحديث “الهجري” المذكور، فغاية ما فيه أنه وافقه على تصحيح حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيه ولا يلقاه فيها أحد فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر؟» فقال: خرجت للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر في وجهه والسلام عليه … الحديث، وهو ليس من رواية شعبة عن الهجري.. فتأمَّل!

ويبدو أن الوهم حصل “للأنجري” لأنه لا يعتمد في بحوثه إلا على “المكتبة الشاملة”، حيث إنه لا يرجع إلى المعلومة من مصدرها من أجل التحقق والتبين، وأنا أعتقد جازما أنه لم يطالع يوما “تلخيص المستدرك” للإمام الذهبي، ولا ” مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم” لابن الملقن، وإلا لما حصل له هذا الخطأ الفاحش الذي لا يغبط عليه.

وبالرجوع إلى “مختصر استدراك الحافظ الذهبي”[11] لابن الملقن 5 / 2642 يتبين أن الذهبي لم يعلق إلا على حديث أبي هريرة المشار إليه قبل قليل، أما الحديث الذي رواه شعبة، عن إبراهيم، عن أبي الأحوص فلفظه: « كنا نعد الإمعة في الجاهلية الرجل يدعى إلى الطعام فيذهب بآخر معه … الحديث »، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي كما في التلخيص، حيث قال: « وهذا صحيح أيضا »[12].

بل إن الذهبي نفسه لم يقل عن هذه الرواية إنها على شرط الشيخين، بل اعتبرها شاهدا صحيحا للرواية التي قبلها، حيث قال في المستدرك 7 / 238 ـ طبعة دار التأصيل ـ : « وقد روي بإسناد صحيح شاهد: … حدثنا شعبة عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص … »، فأين هي الإشارة إلى أنه على شرط الشيخين سواء من الحاكم أو الذهبي رحمهما الله، وكيف يتصور أن يقع منهما ذلك وهما يعلمان أنهما لم يحتجا بالهجري؟!، حيث قال الحاكم في المستدرك ـ طبعة عطاـ 1 / 539: « إبراهيم بن مسلم الهجري ليس بالمتروك، إلا أن الشيخين لم يحتجا به».

وردا مني على قول “ابن الأزرق”: (وافق الحاكم النيسابوري في تصحيحه لكثير من أحاديث الهجري)، حاولت أن أتتبع المواضع التي ذكر فيها “الهجري” في “مختصر ابن الملقن”، معتمدا في ذلك على فهرس المحقق، كي أنظر في حكم الذهبي على رواياته، فوجدت أنه عقب عليه في موضعين، قال في الأول منهما ـ وهو حديث ابن أبي أوفى في النهي عن المراثي ـ: «فيه إبراهيم الهجري، وقد ضعفوه »[13]. بينما قال في الثاني ـ وهو يعلق على الحديث موضوع البحث ـ : «لكن فيه الهجري وهو ضعيف »[14].

ثم تيسر لي تتبعها أيضا في الطبعة الهندية للمستدرك والمذيلة بالتلخيص للذهبي، فوجدته يعلق على الروايات التي من طريق الهجري فيقول 1 / 360: « ضعفوا إبراهيم»، ويقول أيضا 1 / 383: «إبراهيم بن مسلم الهجري ليس بالمتروك»، وأظنه حكاية لقول الحاكم لأنها نفس عبارة الحاكم في “المستدرك” 1 / 539 ـ طبعة عطا ـ، وقد أورد الحاكم روايته هناك على سبيل المتابعة، وقال أيضا 1 / 555: « إبراهيم بن مسلم ضعيف»، وقال 2 / 27: « صحيح، سمع خالد بن عبد الله منه»، وأعتقد أن قوله” «صحيح» في هذا الموضع الأخير حكاية عن قول الحاكم وليس تصحيحا منه للحديث والله أعلم.

وفي جميع الأحوال فمن مجموع أقوال الذهبي تعليقا على أحاديث “الهجري”، يتبن أنه ضعيف عنده، لكنه ليس بمتروك ـ إن كان قوله: « ليس بالمتروك » من كلام “الذهبي”، أي أنه يصلح في الشواهد والمتابعات، والله تعالى أعلى وأعلم.

السقطة السادسة:

(وسبق أن إبراهيم الهجري كان يجعل كلام الرسول عن ابن مسعود والعكس، فالراجح أنه سمعه من مشايخه مرفوعا إلى رسول الله، لكنه نسي فرواه إلى ابن مسعود موقوفا، وأكثر تلامذته يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الرفع هو الصواب لذلك، ولوجود الشاهدين عن مولانا علي وسيدنا معاذ بن جبل).

لنا على هذا الكلام عدة ملاحظات:

الأولى: قولك: (وسبق أن إبراهيم الهجري كان يجعل كلام الرسول عن ابن مسعود والعكس، فالراجح أنه سمعه من مشايخه مرفوعا إلى رسول الله، لكنه نسي فرواه إلى ابن مسعود موقوفا).

قلت: لماذا لا نفترض عكس ما قلت، أي أنه سمعه من شيخه “أبي الأحوص” موقوفا، لكنه نسي فرواه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، خاصة أن رواية ابن عيينة عنه كانت بالوقف، وهو الذي خبر مروياته وصححها كما تقدم.

الثانية: قولك: (سمعه من مشايخه )

فيه مبالغة غير محمودة علميا، والصواب : سمعه من شيخه لأنه لا يرويه إلا عن أبي الأحوص فتنبه!

الثالثة: قولك: (وأكثر تلامذته يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )

قلت: العبرة ليست بكثرة من رواه بالرفع، إنما العبرة بالأوثق والأثبت كما هو مقرر عند علماء هذا الشأن، وقد علمنا أن ابن عيينة أثبت في الرواية عن الهجري من غيره، خاصة فيما يتعلق بالرفع والوقف.

أضف إلى ذلك أن المشكل هنا ليس من الرواة عنه، بل من “الهجري” نفسه، فليس في الكثرة أو القلة أية مزية ما دام الخطأ منه.

الرابعة: قولك: (ولوجود الشاهدين عن مولانا علي وسيدنا معاذ بن جبل )

قلت: أما حديث علي رضي الله عنه فقد تقدم بيان حاله، وأنه لا يصلح كشاهد، نظرا لشدة ضعفه، وأما حديث معاذ رضي الله عنه فهو أكثر ضعفا منه كما سنرى بعد قليل.

ثالثا: حديث سيدنا معاذ بن جبل

روى عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الفتن، فعظمها وشددها، فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله، فما المخرج منها؟ فقال: كتاب الله، فيه حديث ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم … الحديث

ثم قال عقب ذلك : ( وهو ضعيف بسبب عمرو بن واقد القرشي الدمشقي المتكلم فيه، وأعدل الأقوال بشأنه قول ابن عدي في كامله: وهو من الشاميين ممن يكتب حديثه مع ضعفه. ه

أي أنه مقبول في المتابعات والشواهد، بحيث تقبل رواياته التحسين إذا وردت من طريق مشابه لها في القوة، كما أنها تصلح لتقوية غيرها

وقول الذهبي في المغني وابن حجر في التقريب أنه متروك، خطأ فاحش منهما رحمهما الله، وتقليد بارد لبعض النقاد، فالرجل لم يترك، وابن عدي أعلم منهما بالرجال.

وهذا الشاهد عن سيدنا معاذ بن جبل لم يذكره أحد من مضعفي الحديث، فهو علامة إضافية على قصور تحقيقهم ).

لقد وقع “ابن الأزرق” من خلال هذا المقطع في عدة سقطات:

السقطة الأولى:

( .. وأعدل الأقوال بشأنه قول ابن عدي في كامله: وهو من الشاميين ممن يكتب حديثه مع ضعفه ).

قلت: من عادة “ابن الأزرق” أن يتكاسل عن إتمام قراءة كلام العلماء فيتيه عن فهم مرادهم منه، كما بينت في غير ما موضع من مقالاتي السابقة، لكن ما لم أعتده منه هو أن يقفز فوق كلام المصنف، ويستدل بما يلبس به على من لا خبرة لديه بمصنفات أئمة هذا الشأن.

وسأسوق فيما يلي كلام ابن عدي السابق كاملا دون بتر ليتبين قصده منه، حيث قال بعد أن ذكر عدة أحاديث لعمرو بن واقد بسنده الذي أورده “الأنجري” كشاهد! لحديث علي رضي الله عنه ومنها حديث الباب: «  ولعمرو بن واقد غير ما ذكرت من الحديث وهذه الأحاديث التي أمليتها بإسناد واحد كلها غير محفوظة إلا من رواية عمرو بن واقد عن يونس، عن أبي إدريس عن معاذ بن جبل، وهو من الشاميين ممن يكتب حديثه مع ضعفه »[15].

فالأحاديث المروية بهذا الإسناد غير محفوظة كما قال “ابن عدي”، ومعنى ذلك أنها منكرة لا تصلح في الشواهد والاعتبارات، والمعروف عن “ابن عدي” أنه لا يورد غالبا في “الكامل” إلا الأحاديث التي أنكرها الحفاظ على الراوي موضوع الترجمة، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر في مقدمة شرحه لفتح الباري ـ هدي الساري ـ  ص: 429 حيث قال: « ومن عادته فيه أن يخرج الأحاديث التي أنكرت على الثقة أو على غير الثقة  »، وحديث معاذ رضي الله عنه أورده هنا في ترجمة عمرو بن واقد، مما يعني أنه عنده منكر غير محفوظ.

السقطة الثانية:

قوله: (أي أنه مقبول في المتابعات والشواهد … )

قلت: قد تبين للقارئ اللبيب، وكل منشغل بهذا الفن الحبيب، أن هذه الطريق لا تزيد الحديث إلا ضعفا على الضعف الذي فيه، ولا تقبل في المتابعات والشواهد.

السقطة الثالثة:

(وقول الذهبي في المغني وابن حجر في التقريب أنه متروك، خطأ فاحش منهما رحمهما الله، وتقليد بارد لبعض النقاد، فالرجل لم يترك ).

الخطأ الوحيد في هذه المنظومة كلها هو أنك تتحدث في أمر عظيم دون فهم وتثبت، وتنتقد الكبار دون أن تراعي لهم حرمة، فكيف يقال عن “ابن حجر” و”الذهبي” أنهما أخطآ خطأ فاحشة إلا ممن لم يخبر مكانتهما في هذا العلم الشريف.

أما التقليد سواء أكان باردا أو ساخنا فلا يليق نسبته إليهما ممن عرفهما حق المعرفة، بل قد عرف من حالهما أنهما يتبعان القول بدليله لا بقائله، والأدلة على ذلك كثيرة ليس هذا موضعها، ومن شاء التوسع أكثر فليراجع الكتب التي ألفت في شأنهما.

أما قوله (لبعض النقاد ) فخطأ فاحش منه، لأنه لو استقرأ أقوالهم في “عمرو بن واقد”، لوجدها تكاد تتفق على تركه وعدم الاحتجاج بروايته، وبما أننا نتحدث مع باحث يدعي العلمية في مقالاته، وينتسب إلى واحدة من أشهر المؤسسات التعليمية في المغرب، فإن كل كلمة ينطق بها يجب أن يحسب لها ألف حساب، فقوله “بعض” يعني أن في مقابله الكثير والكثير ممن صححوا روايته، و”البعض” في اللغة: ما بين الثلاث إلى التسع[16]، فلننظر إذن هل سنتجاوز هذا العدد في معرض بحتنا عمن ضعفه.

وفيما يلي عرض لأقوال أئمة هذا الشأن في ” عمرو بن واقد”:

ـ قال عنه البخاري ـ وحسبك ـ : «منكر الحديث »[17].

وذكره في جملة الضعفاء كل من: أبي زرعة الرازي 2 / 642، والعقيلي في “الضعفاء الكبير” 3 / 293، والنسائي في ” الضعفاء والمتروكون” ص: 80 وقال: «متروك الحديث »، والدارقطني في “الضعفاء والتروكين” 2 / 165، وأبو إسحاق الجوجزاني في ” أحوال الرجال” ص: 286، وقال: «أحاديثه معضلة مناكير »، وابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل” 6 / 287 ونقل عن أبيه قوله: « ضعيف منكر الحديث »، وابن حبان في “الجروحين” 2 / 277 وقال « كان ممن يقلب الأسانيد ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك »، وقال عنه في “الثقات” 7 / 179: «وعمرو بن واقد لا شيء »، والبزار في مسنده 10 / 66 حيث قال: « ليس بالقوي »، والترمذي في سننه حديث رقم: 2340 حيث قال: «عمرو بن واقد منكر الحديث » ورقم: 3843 حيث قال عنه:« يُضعَّف »، وابن الجوزي في ” الضغفاء والمتروكون” 2 / 233.

فهل هؤلاء الذين ذكرت وجلهم من علماء المائة الرابعة فما دونها إلا ابن الجوزي المتوفى سن 597هـ، كلهم يضعفون “عمرو بن واقد” فهل هؤلاء مقلدون أيضا ؟، وهل يصح إطلاق “البعض” عليهم وقد تجاوزا التسعة ؟ مع العلم أنني التزمت في نقلي هذا بأقوال أصحاب الكتب فقط دون النظر فيمن ينقلون عنه تضعيفه من المتقدمين، كأبي مسهر ودحيم ومروان بن محمد وعبد الرحمان بن إبراهيم، كما أنني لم أذكر أقوال علماء المائة السادسة وما بعدها كي لا يقول “ابن الأزرق” إنهم مقلدون !

ولو شئت أن أتتبع مرويات “عمرو” التي ردها الأئمة في كتبهم لطال بنا المقام، فقد أنكرها الطبراني في المعجم الأوسط  2 / 13، و 7/ 23ـ 37، و8/ 56ـ57ـ58، والأصبهاني في الحلية 5/ 127، و 7/ 253، والبيهقي في “الشعب” 3 / 64، والقيسراني في عدة مواضع من “ذخيرة الحفاظ” : 1 / 377 ـ 473 ـ 540، و 2 / 1046، 4 / 2211، و5 م 2769، والجورقاني في ” الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير” 1 / 435 ـ 436، والترمذي في السنن حديث رقم 2340 و 3843، وابن كثير في “البداية والنهاية”[18] 8 / 130 وقال: « عمرو بن واقد ضعيف»، وابن القيم في “طريق الهجرتين” ص: 398 حيث قال: « عمرو بن واقد لا يحتج به»، وقال أيضا قبل ذلك في الصفحة نفسها: «ضعيف».

كل هؤلاء الذين ذكرنا يضعفونه ويعلون حديثه، ولم يرو توثيقه إلا عن محمد بن المبارك الصوري، وقد رد عليه الأئمة ذلك، وجمع العلامة الألباني رحمه الله بين توثيقه وتضعيف غيره له فقال: « لا تعارض بين القولين، فالسعدي يحدث عن الواقع في أحاديثه، والصوري يتحدث عن صدقه في نفسه، فكما أن الكذوب قد يصدق، فكذلك الصدوق قد يكذب ويكذب؛ ولكن بدون قصد. وقد جمع لك هذه المعاني أبو مسهر الدمشقي فقال: ” عمرو بن واقد يكذب بغير تعمد” »[19].

فكيف يستقيم إذن أن يوصف هؤلاء كلهم بالبعض، والحال أن الإجماع منعقد على تضعيفه ورد روايته، ولا يضر هذا الإجماع مخالفة محمد بن المبارك.

ولو سلمنا بوجود الاختلاف في توثيقه وتضعيفه، فإن الجرح المبين مقدم على التعديل كما هو مقرر عند المحدثين.

السقطة الرابعة:

قوله: (وابن عدي أعلم منهما بالرجال ).

من أهم سمات “ابن الأزرق” تجرؤه على إصدار الأحكام دون تبين، ولم أر من أئمة هذا الشأن من فاضل بين “ابن عدي” من جهة و”ابن حجر” و”الذهبي” من جهة أخرى، لذلك لا يجوز علميا ولا منهجيا إطلاق الكلام على عواهنه لا لشيء إلا لنصرة الرأي وإعلاء المذهب.

ونحن هنا لا نريد الدخول في هذه المساجلات البيزنطية التي لا تخدم العلم من قريب أو بعيد، فلكل واحد منهم قدره الذي لا ينازع فيه إلا حاقد، لكن تبقى الصفة الملازمة لهم جميعا هي التحري والاجتهاد والبعد عن التقليد.

السقطة الخامسة:

وضع صاحبنا ملحقا وصفه بالضروري، أراد أن يبين من خلاله عدالة “الحارث الأعور”، وقد أتى فيه أيضا ببعض العجائب والغرائب لن أطيل في تتبعها سقطة سقطة، لكني سأجمل الكلام فيها فأقول:

لقد اختلف العلماء في الحارث الأعور اختلافا كبيرا جدا، والجمهور على توهينه وتضعيف رواياته، وقد كذبه الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وهما من تلاميذه، وكذلك فعل إبراهيم النخعي وابن المديني وهما عالمان جليلان، وإن كانا متأخرين عن الحارث الأعور، إلا أنهما من أهل التحري والمعرفة بأحوال الرجال.

وقد اعترض البعض ـ ومنهم ابن الأزرق ـ على الشعبي لأنه كان يتهم الحارث بالكذب، ومع ذلك يتتلمذ على يديه، لكن غاب عن هذا المعترض تعليل الشعبي لصنيعه هذا بقوله: « كنت أختلف إليه أتعلم منه الحساب، وكان أحسب الناس »[20].

وخلاصة القول أن الحارث الأعور كان عالما في الحساب والفرائض، لكنه كان ضعيف الرواية، واهي الحديث، متهما في رأيه.

الخلاصة الخاتمة:

لقد تقرر من خلال دراسة أسانيد حديث فضائل القرآن الكريم أن رواياته ضعيفة لا تقوى على أن يعضد بعضها بعضا، ولو اجتهد باحث متخصص في علوم الحديث، ونظر إلى هذه الأسانيد وذهب إلى خلاف ما ذهبت إليه لما كان في ذلك أي حرج، لأن الأمر كله يدخل في دائرة الظنيات لا القطعيات، لكن مشكلتنا مع “ابن الأزرق” أنه لم يتقيد بقواعد المحدثين، ولا سلك طريقهم، بل أغرب وأتى في مقاله بالعجائب التي لم يسبقه أحد إليها، ولم يزاحمه باحث عليها.

وقد تبين في ثنايا هذه الحلقات بعد “محمد بن الأزرق الأنجري” عن أصول المحدثين، فقد خاض في هذا البحر الخضم، وهو لا يحسن فن العوم، ولم يعتصم بأقوال أئمة الشأن كطوق نجاة، بل اعتمد في ذلك كله على جهده القاصر، فغرقت به أمواج الأسانيد، وتاهت به بحور الرجال، وصدق فيه قول الشاعر:

إذا لم يكن من الله توفيق للفتي **** فأول ما يجني عليه اجتهاده

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خريج دار الحديث الحسنية

[email protected]

[1]  ـ إسعاف ذوي الوَطَر بشرح نظم الدُّرَر في علم الأثر 1 / 49

[2]  ـ المصدر نفسه 2 / 131

[3]  ـ الضعيفة 1 / 97.

[4]  ـ الضعيفة 2 / 196.

[5]  ـ الكامل في الضعفاء 1 / 351.

[6]  ـ المصدر نفسه 9 / 163.

[7]  ـ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 37.

[8]  ـ الكامل في الضعفاء 1 / 346.

[9]  ـ تهذيب التهذيب 1 / 166.

[10]  ـ أنظر صحيح ابن خزيمة 3 / 95، و 4 / 96.

[11]  ـ طبعة دار العاصمة الرياض، ط 1: 1411 هـ.

[12]  ـ أنظر مستدرك الحاكم وبذيله تلخيص الذهبي 4 / 131 الطبعة الهندية.

[13]  ـ مختصر استدراك الحافظ الذهبي 1 / 287 حديث رقم 83.

[14]  ـ المصدر نفسه 1 / 470 حديث رقم 160.

[15]  ـ الكامل في الضعفاء لابن عدي 6 / 210 ـ الطبعة المتوفرة بالشاملة ـ

[16]  ـ الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية  3 / 1186.

[17]  ـ التاريخ الكبير 6 / 380، والضعفاء الصغير ص: 101.

[18]  ـ طبعة دار إحياء التراث العربي ط1 سنة 1988 م.

[19]  ـ الضعيفة 14 / 546.

[20]  ـ الكامل في الضعفاء 2 / 251.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M