زواج المتعة: إقامة الدليل على بطلان شبهات “محمد ابن الأزرق” (ح5)

21 أغسطس 2016 01:56
زواج المتعة: إقامة الدليل على بطلان شبهات «محمد ابن الأزرق» (ح5)

هوية بريس – منير المرود

ضمن سلسلة “الردود العلمية على خريج دار الحديث الحسنية “محمد ابن الأزرق الأنجري” الجزء السابع / الحلقة الخامسة

بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد˸

فهذه هي الحلقة الخامسة من سلسلة ردودنا العلمية على الأستاذ محمد ابن الأزرق الأنجري في قضية إباحته لزواج المتعة. هذا النوع من الزواج الذي أصبحت تمجه النفوس والطباع السليمة، بعد أن دلت الوقائع التاريخية، والإحصاءات الرسمية على آثاره السلبية على الفرد والأسرة والمجتمع.

وقبل الخوض في رد الشبهة موضوع هذه الحلقة، حق علينا تنفيذ وعدنا للأستاذ ابن الأزرق بالاعتذار عن وصفي ـ في الحلقة الماضية ـ لما يكتبه بالمستنقع، على الرغم من أنني قد حذفت ذلكم الوصف من أصل المقال في مدونتي، إلا أن دين الاعتذار بقي في رقبتي بعد أن احتج الأستاذ على ذلك وطالبني بالتزام أدب الحوار.

ولئن كنا قد استجبنا لطلبه هذا، وهو حق مشروع له، فإننا نسجل هنا أيضا احتجاجنا على الطريقة الحادة التي يتعامل بها مع علماء أهل السنة، وخاصة القدماء منهم، حيث يصفهم في كثير من الأحيان بالغباء والغفلة والحمق والسذاجة والبساطة والعناد …، وهو ما يسيء به إلى الملايين من أهل السنة المغاربة وغيرهم، فهل يملك أستاذنا الجرأة العلمية والأدبية التي تجعله يقدم اعتذارا رسميا على هذه الأوصاف اللاذعة؟

فإن كانت نفسه تأبى ذلك، فلا أقل من أن يكف لسانه عن سلف الأمة وعلمائها في كتاباته القادمة، وأن يعذرهم في خطئهم ـ إن كانوا مخطئين حقا ـ جريا على عادة العلماء وطلبة العلم قديما وحديثا، ولا يكونن مثل قدوته ومَثَله الأعلى عدنان إبراهيم الذي يخالف قوله فعله، حيث ينكر على بعض علماء السنة شدتهم على المخالف، ثم نفاجأ به يقع في شرٍّ مما يصف به مخالفيه باستعماله لكلام سوقي لا يتلفظ به إلا سفلة القوم، أوكل سكير عربيد.

ولقد تأملت كثيرا في سير العديد من الأمم والشعوب، فوجدت أن كل أمة بعلمائنا وقادتها ـ وإن كانوا مفسدين ـ فرحون، إلا أخونا ابن الأزرق ومن مشى في دربه، فإن علماء السنة عنده أفسد وأحمق وأغبى من خلق الله في هذه الأرض، بل إنهم سبب التخلف و”الإرهاب” والإلحاد…، فيا ليت شعري، كيف يحمل لواء الإصلاح من يسفه سلفه، وينقص من شأن آبائه وأجداده.

والمفارقة العجيبة أن هؤلاء السلف -السفهاء!ـ كانوا قادة العالم في وقتهم، وسادة الدنيا في زمنهم، ومن يسفههم ويقلل من شأنهم اليوم، ينتمون إلى دول هي من أضعف الدول في التاريخين القديم والحديث، فكيف تستقيم هذه المعادلة إلا في عقول من يرون جواز اجتماع الضدين، والتقاء النقيضين!

هذا مع الإشارة إلى أن قادة العالم اليوم من علماء ومفكري الغرب،، يقرون ويعترفون بنبوغ أسلافنا وتقدمهم العلمي والعقلي والفكري، فهل يتعظ هؤلاء ويكفون أقلامهم وألسنتهم عن آباءنا وأجدادنا، ولا يتخذون بعض الأخطاء التي يقعون فيها مطية للتقليل من شأنهم، والانتقاص من قدرهم.

ولا يقولن قائل في هذا المقام׃ إنه يحكي واقع الحال في قضية معينة، حيث ينسب الحمق والغباء والسذاجة لفئة معينة من الفقهاء، أو المحدثين، أو المفسرين الذين ذهبوا إلى رأي معين في مسألة ما، وهي شبهة كثيرا ما يرددها الأخ ابن الأزرق، فلو أننا نسبنا هذه الصفات (الحمق والغباء والسذاجة …) إلى كل من أخطأ خطأ علميا أو منهجيا صغيرا كان أو كبيرا، لكنا أحمق وأغبى الناس لكثرة الأخطاء العلمية والمنهجية التي نقع فيها.

كما يجب أن لا نجعل من الانتقادات الحادة أو الهجمات اللاذعة التي نتلقاها من المخالفين عذرا للانتقاص من السلف قصد إغاظة هؤلاء المنتقدين لنا، لأننا مطالبين شرعا برد اعتداء المعتدي بالمثل دون إلحاق الضرر بالأهل والآباء والأجداد، لذا فإن المسلم إن لم يكن ممن يستطيع الصبر على الأذى ـ وهذا خير له لينال أجر الصابرين بنص القرآن الكريم ـ ، فعليه أن يرده بالمثل، لا أن يتجاوز الحد، فيصير ممن يفجر عند الخصومة.

وبعد هذا الاستطراد الذي وجدت نفسي مضطرا إليه، فلنعد إلى موضوع المقال الأساس׃

نص الشبهة

قال ابن الأزرق في مقاله المعنون بـ”نكاح المتعة: رحمة أم حرام عند السلف؟”: (لكن الشافعي تردد بشأن ثبوته في كتاب الأم، وصرح ابن معين بضعف كل ما يروى عن سبرة بن معبد في ترجمة حفيده عبد الملك بن الربيع بن سبرة، وانتقد الإمام الدارقطني في “الإلزامات والتتبع” مسلم بن الحجاج على تخريجه لعدم ثبوت صحبة سبرة بن معبد، وأضرب عنه الإمام البخاري فلم يستشهد به في الصحيح رغم أنه تناول موضوع نكاح المتعة هناك، وعلى الرغم من معرفته به إذ رواه في التاريخ الكبير).

تعرفنا في المقالات السابقة على ضعف ووهن هذه الشبه التي اعتمد عليها الأستاذ ابن الأزرق في نسبته القول بتضعيف حديث سبرة ابن معبد الجهني رضي الله عنه في تحريم زواج المتعة تحريما مؤبدا بالنسبة لكل من الإمام مالك والشافعي وابن معين.

وتوقفت بنا القافلة مع الإمامين الجليلين البخاري والدارقطني رحمهما الله، فما هو موقفهما من الحديث المشار إليه أعلاه ؟، هذا ما سنتعرف عليه من خلال المحاور التالية׃

المحور الأول:  تحقيق قول الدارقطني رحمه الله في سبرة بن معبد الجهني رحمه الله

قال “ابن الأزرق”: (وانتقد الإمام الدارقطني في “الإلزامات والتتبع” مسلم بن الحجاج على تخريجه لعدم ثبوت صحبة سبرة بن معبد).

قلت: نعم هو موجود في “الإلزامات والتتبع”، وإن كان الأولى أن يقال: ” هو موجود في “الإلزامات”، وليس في “التتبع”، ليبقى السؤال المشروع طرحه هنا: هل كل ما أورده الدراقطني رحمه الله في كتابه ” الإلزامات والتتبع” يعتبر ضعيفا عنده ؟.

وللجواب على هذا السؤال لابد من أن نعرف أولا أن الكتاب في جزأين منفصلين من حيث الموضوع، وإن كانا قد طبعا في مجلد واحد. فالأول منهما˸هو “الإلزامات” حيث حاول الدارقطني من خلاله إلزام صاحبي الصحيحين بإخراج أحاديث من تتشابه أوصافهم مع الذين رووا عنهم في صحيحيهما، وخص بذلك التابعين كما نص على ذلك في مقدمة كتابه.

وأما المجلد الثاني فهو “التتبع”، ويبدأ من الصفحة 121 من تحقيق الشيخ مقبل رحمه الله، وهو جزء خاص بانتقاد الأحاديث التي خالف فيها الشيخان شرطهما، أو التي فيها علة حسب رأي الإمام الدارقطني.

وعن منهج الدارقطني في كتابه “الإلزامات” يقول السخاوي رحمه الله في ” فتح المغيث بشرح ألفية الحديث ” 1 / 47: « وحينئذ فإلزام الدارقطني لهما في جزء أفرده بالتصنيف بأحاديث رجال من الصحابة رويت عنهم من وجوه صحاح، تركاها مع كونها على شرطهما ـ وكذا قول ابن حبان: ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما – ليس بلازم »اهـ.

فإذا نظرنا إلى كلام الدارقطني الذي أشار إليه “ابن الأزرق” نجد أنه قد أورده في ص: 77، أي في الشق المتعلق بالإلزامات لا بالتتبع، فيكون بالتالي قد ألزم مسلما بتخريج أحاديث رواة لم يرو عنهم إلا راو واحد لصنيعه ذلك في حديث سبرة، فالأمر إذن يتضمن تصحيحا للحديث، وتأكيدا لصحبة سبرة، وتوثيقا للربيع.

وفيما يلي نص كلام الدارقطني من “الإلزامات” ص: 71 حيث قال: « ويلزم إخراج حديث الحسن عن أحمر بن جزء إن كنا لنأوي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) مما يجافي من حديث عباد راشد عن الحسن»، والحديث رواه أحمد برقم 19012 وغيره.

قلت: وأحمر بن جزء صحابي ولم يرو عنه إلا الحسن البصري، وحاله شبيهة بحال سبرة بن معبد الجهني، فهو أيضا صحابي جليل لم يرو عنه إلا ابنه الربيع، فكان على مسلم أن يخرج حديث أحمر بن حزام رضي الله عنه كما فعل مع سبرة حسب رأي الدارقطني رحمه الله.

سبرة بن معبد الجهني وابنه الربيع في كتب “الدارقطني”

إن كل باحث منصف مريد للحق، يجب عليه أن لا ينسب قولا إلى إمام من الأئمة إلا بعد بذل الجهد الذي يعذر صاحبه إن أخطأ، لا أن يسير على درب من يعتقد ثم يستدل، أو يسلك طريق من يتبع الظن دون اليقين، ولو كان “ابن الأزرق” منصفا لتتبع كلام الدارقطني في سبرة بن معبد رضي الله عنه وابنه الربيع، لكنه اقتطف من كلامه ما ظن أنه يؤيد مذهبه، وأعرض عن النصوص التي تدل على خلاف ما اخترعه، وهاكم الدليل والبرهان:

ذكر الدارقطني سبرة بن معبد في كتابه “المؤتلف والمختلف” 1 / 275، فقال:

« سبرة بن معبد الجهني روى عن النبي صلى الله عليه وسلم يكنى أبا ثرية»، وهذا إقرار منه بصحبة سبرة، إذ أنه أثبت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتعقبه بما يرد دعوى الصحبة.

مع العلم أنه كثيرا ـ وليس دائما ـ ما يتعقب أسماء الصحابة المختلف فيهم، حيث ينص على الخلاف الحاصل في صحبتهم كما في الحالات التالية:

1 – السائب بن خباب أبو مسلم صاحب المقصور مختلف في صحبته روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا وضوء إلا من صوت أو سماع، روى عنه صالح بن حيوان 1 / 470

2 – قهيد بن مطرف الغفاري يختلف في صحبته , روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 4 / 1891

3 – حبيب بن خماشة , يختلف في صحبته 2 /  922

4 – ربيعة الجرشي , يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي صحبته نظر 2 /  944

5 – عبد الله بن ربيعة مختلف في صحبته 2 /  1026

6 – أبو عنبة الخولاني , عداده في الشاميين , يختلف في صحبته 3/  1653

تنبيه

لم يعقب الدارقطني رحمه الله في كتابه “المؤتلف والمختلف” على أسماء بعض الرواة المختلف في صحبتهم أيضا، ربما لأنه يرجح صحبتهم أو لأمر آخر يحتاج إلى دراسة، مع العلم أن الربيع بين سبرة رضي الله عنه لا يندرج ضمن الصحابة المختلف فيهم أصلا، بحيث لم يخطر على بال أحد علماء السنة أو الباحثين في علوم الشريعة وفنونها أن يشكك في صحبة سبرة قبل الأستاذ “ابن الأزرق” فيما نعلم .

هذا فيما يخص سبرة، أما ابنه الربيع فقد ذكره الدارقطني رحمه الله في كتابه الموسوم ب :”ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته عن الثقات عند البخاري ومسلم ” 2 / 80، وهو كتاب يعنى بجرد أسماء ثقات التابعين ومن بعدهم عند الإمامين البخاري ومسلم.

 إذا تقرر ذلك، فكيف يصح إذن أن ُينسب إليه ما نسبه “ابن الأزرق” ؟، لا لشيء إلا لعدم إحاطته بمناهج المصنفين ومقاصدهم من التأليف، كما رأينا هنا، وكما سيتبن أكثر في المحور القادم.

المحور الثاني:  تحقيق قول البخاري رحمه الله في سبرة بن معبد الجهني رحمه الله

1 – رأي الإمام البخاري في حديث سبرة رضي الله عنه

قال “ابن الأزرق” في الجزء الأول من مقالاته حول الموضوع: (وأضرب عنه الإمام البخاري فلم يستشهد به في الصحيح رغم أنه تناول موضوع نكاح المتعة هناك، وعلى الرغم من معرفته به إذ رواه في التاريخ الكبير) اهـ. ج

وقال في كتابه “زواج المتعة”، ص˸ 139 ـ بعد أن ساق كلاما يدل على أن البخاري رحمه الله كان يعرف حديث الباب ـ˸ (لماذا لم يحتج البخاري بحديث سبرة بن معبد رغم الحاجة إليه، وهو أقوى أدلة المحرمين ؟. ألا يدل إعراضه عنه إعلالا للحديث؟) اهـ.

قلت: طبعا لا يدل على ذلك قطعا كما سنبين بعد قليل.

ويبقى السؤال الذي ينبغي أن نطرحه هنا هو: هل وضع الإمام البخاري في صحيحه كل ما صح لديه من أحاديث ؟.

الجواب الذي يعرفه كل من يشتغل بعلم الحديث الشريف هو: قطعا لا.

لكن لنترك شرف الجواب على هذه الشبهة بقلم أحد الباحثين المغاربة المشتغلين بهذا العلم الشريف، حيث كتب ردا على من ضعف أحد الأحاديث المشهورة بكون الإمام البخاري لم يروه في صحيحه، حيث إن خصمه هناك استدل  بنفس حجة “ابن الأزرق” التي نقلتها عنه قبل بضعة أسطر أعلاه، فقال عن حديث الخلافة˸ ( هذا حديث عظيم، ولم يذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما! ففي صحته نظر ) اهـ .

فرد عليه ذلك الباحث على طريقة المحدثين الراسخين قائلا˸

( هذه العبارة وما في معناها، كثيرا ما يرددها من يفتقد الحجة، أو يصرعه برهان محاوره!

وقد لجأ إليها الدكتور، فشكك في صحة حديث الخلافة لعدم وروده في الصحيحين.

وجوابا على ذلك نقول: ــ المتكلم هنا هو ذلك الباحث المشار إليه قبل قليل ـ

أولا: إذا توفرت شروط الصحة في حديث ما، كان حديثا صحيحا، يجب العمل به، كان في الصحيحين أو في غيرهما

ثانيا: البخاري ومسلم لم يقصدا تخريج كل الأحاديث الصحيحة، ولا أعظمها وأشهرها، فإذا لم نجد فيهما حديثا ما، لم يجز التشكيك فيه، فإن آلاف الأحاديث العظيمة، في العقائد والعبادات والأخلاق لا وجود لها في الصحيحين.

فإذا رددنا كل حديث عظيم لعدم وروده فيهما، هدمنا الدين من أساسه. والدكتور يدرك هذه الحقيقة، لكنها لم تكفه كما يبدو!، ومن لا يسلّم بالشمس فلا جدال معه …

وهكذا، إذا نظرت في كتب السنة، وجدت فيها أحاديث صحاحا، وفيها المتواتر، وتحمل المعاني والبشائر العظيمة، ولم يخرجها الشيخان، فهل نشك فيها ونردها؟) اهـ.

ثم ذكر كلاما علميا رائعا في مجمله إلى أن قال˸ (وبالجملة، فإذا صح الحديث، لزم قبوله، خرجه الشيخان أو غيرهما، هذا ما اتفقت عليه كلمة المسلمين) اهـ.

قلت: يا له من تقعيد علمي رصين، فهذا هو علم الحديث، وهؤلاء هم المشتغلون به، السائرون في دربه، والحائزون على شرف الدخول في أهله وزمرته.

لكن، ألم تشرئب أعناقكم؟، وتتشوف نفوسكم لمعرفة من صاحب هذا الكلام الذي يكتب بماء من ذهب؟ إنه أخونا “محمد ابن الأزرق الأنجري” !، نعم إنه هو !، وذلك في معرض رده على من ضعف حديث الخلافة، في الجزء الرابع من مقاله الموسوم بـ: “حديث الخلافة بميزان المحدثين ج 4”.

فما الذي تبدل بين الأمس واليوم ؟، هل هذا تغير في الاجتهاد ؟، أم هو انتقاء وعناد؟

ولمن أراد بسط المسألة أكثر فليطالع “سنن الترمذي” و “علل الترمذي الكبير” فإنهما العمدة في هذا الباب، حيث يورد فيهما أجوبة البخاري على أحاديث أخرجها في سننه، والتي حكم على كثير منها بالصحة رغم أنه لم يخرجها، وذلك لعدم توفرها على الشروط التي اشترطها رحمه الله في أحاديث جامعه. أو لأسباب أخرى يعرفها المشتغلون بعلم الحديث، وقد جُمعت بعض هذه الأسئلة في بحث مستقل من تأليف يوسف بن محمد الدخيل سماه: “سؤالات الترمذي للبخاري حول أحاديث في جامع الترمذي”.

أضف إلى هذا أن النقل قد استفاض عن الإمام البخاري رحمه الله بعدم استيعاب جامعه لكل الأحاديث الصحيحة، فقد قال الذهبي في السير 10 / 120: « وقد نقل الإسماعيلي عمن حكى عن البخاري قال: لم أخرج في الكتاب إلا صحيحا قال: وما تركت من الصحيح أكثر».

وقال السخاوي في “فتح المغيث بشرح ألفية الحديث”، 1/ 47: «قد صرح كل منهما بعدم الاستيعاب، فقال البخاري فيما رويناه من طريق إبراهيم بن معقل عنه: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح خشية أن يطول الكتاب. وقال مسلم: إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح، ولم أقل إن ما لم أخرجه من الحديث فيه ضعيف

… ولذلك قال الحاكم أبو عبد الله:« ولم يحكما، ولا واحد منهما، أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه …» اهـ.

وقال ابن كثير في “الباعث الحثيث”، ص: 25 :« ثم إن البخاري ومسلما لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده، بل في السنن وغيرها» اهـ.

2– البخاري رحمه الله يصرح بصحة حديث سبرة بن معبد الجهني في نكاح المتعة

عندما أراد الأستاذ “ابن الأزرق” الاستدلال على أن البخاري على دراية تامة بحديث سبرة رضي الله عنه، نقل كلاما للترمذي عقب روايته لحديث سبرة في كتابه العلل برقم 168 قال فيه: (سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: هذا حديث خطأ , والصحيح عن الزهري , عن الربيع بن سبرة , عن أبيه ليس فيه عمر بن عبد العزيز، وإنما أتى هذا الخطأ من جرير بن حازم) اهـ.

ولأن الأستاذ لم يكن ينظر إلى كلام البخاري إلا بعين واحدة، غرضها البحث عن أي مستند يبين أن الإمام رحمه الله كان يعرف حديث سبرة، الشيء الذي يدل على أنه ضعيف عنده ـ حسب نظرية ابن الأزرق ـ ، لم ينتبه إلى أنه يصحح حديث الباب بصريح العبارة، حين قال: ( والصحيح عن الزهري , عن الربيع بن سبرة , عن أبيه ليس فيه عمر بن عبد العزيز …) اهـ، فيكون البخاري رحمه الله حكم على الطريق التي أوردها الترمذي بالخطأ لا على أصل الحديث الذي صح عنده.

3 – هل الربيع بين سبرة مجهول عند البخاري ؟

اعتمد “ابن  الأزرق” على عدم تعقيب الإمام البخاري على ترجمة الربيع بالتوثيق أو التجريح في كتابه “التاريخ الكبير” فظن أنه مجهول عنده ؟!

وهذا نص كلام الأستاذ من كتاب “زواج المتعة” ص˸140، قال˸ ( وأزيدك علة أخرى دفعت الإمام البخاري للإعراض عن حديث سبرة، وهي جهالة حال الربيع بن سبرة عنده، فقد ترجمه في التاريخ الكبير 3 / 273 / 930 فقال˸ ربيع بن سبرة بن معبد الجهني، سمع أباه … هـ.

قلت˸ ـ الكلام هنا “لابن الأزرق” ـ البخاري لم يذكر ما يفيد توثيق الربيع بن سبرة أو تجريحه. فهو غير معروف عنده …) انتهى كلام ابن الأزرق.

الجواب على هذه الشبهة نورده في النقاط التالية˸

1 ـ ليس من منهج الإمام البخاري في تاريخه تعقب الرواة المترجم لهم بالجرح والتعديل، بل يكتفي بذكر نسبهم ومن روى عنهم ورووا عنه، وأحيانا يذكر بعض أحاديثهم، وقل أن تجد في كتاب التاريخ توثيقا أو تعديلا لراو ما، وبالتالي فان السمة الغالبة للبخاري في التراجم هو السكوت عن حال أصحابها من حيث الجرح والتعديل عدا بعض الرواة، والذين قاربوا الألفي رجل، وهو ما يعادل أقل من سدس عدد رواة التاريخ. ( انظر بحث بعنوان تاريخ البخاري :دراسة عادل عبد الشكور الزرقي ).

وعن هذا المنهج يقول ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 3/267 « وقد بينت مراد البخاري˸ أن يذكر كل راوي، وليس مراده أنه ضعيف، أو غير ضعيف. وإنما يريد كثرة الأسامي ليذكر كل ما روى عنه شيئا كثيرا أو قليلا وإن كان حرفا ».

2 – لقد سكت الإمام البخاري في تاريخه عن أئمة عظام كالشافعي والإمام أحمد وغيرهما، فهل نعد هؤلاء من المجهولين عنده ؟!

 3 ـ أن هذه الشبهة مردودة بتصحيح الإمام لحديثه كما بينت قبل قليل تعليقا على كلامه في علل الترمذي.

4 ـ لم يستقرئ الأستاذ منهج الإمام البخاري في كتابه التاريخ حتى يلقي هذا الحكم الذي يستفاد منه أن كل من لم يعقب على ترجمته بجرح أو تعديل هو مجهول عنده، والواقع يخالف هذا، إذ أن البخاري روى في صحيحه أحاديث لرجال لم يذكر فيهم جرحا ولا تعديلا في “تاريخه”، ومن الأمثلة على ذلك :

أ ـ  أَحْمَد بْن بَشِير، أَبو بكر مَولَى آل عَمرو بْن حُرَيث، المخزومي، القُرَشِيّ، الكُوفيّ: ترجمه في التاريخ الكبير 2 / 1 برقم: 1477 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقد روى له في صحيحه حديث رقم: 5779

ب ـ حفص بن عبد الله، أبو عمرو، السلمي، النيسابوري: التاريخ 2 / 361: 2753.

ج ـ أحمد بن حُميد، القُرَشِيّ، مولاهم، الكُوفيّ: التاريخ 2 / 2: 1484.

د ـ  بشر بن آدم، البغدادي: التاريخ 2 / 70 : 1721.

هـ ـ توبة بْن كَيسان، أَبو المُوَرِّع، العَنبَريّ: 2 / 155: 2039.

و ـ جعفر بن عمرو بن جعفر بن عمرو بن أمية، الضمري: 2 / 194 : 2186.

4 – خطورة النظر في كتب المتقدمين دون الإحاطة بمناهجهم

إن من أعظم الأخطار التي تحذق بطالب العلم، أن يطالع كتب المتقدمين دون النظر إلى مناهجهم في التأليف، مما يجعل الباحث يستنتج استنتاجات خارج إطار الزمان والمكان، الشيء الذي يجعله يلبس على نفسه وعلى قرائه دون أن يقصد أحيانا.

ولنأخذ كتاب “التاريخ الكبير” للإمام البخاري نموذجا، حيث سنجد أنه لم يؤلفه لصغار طلبة العلم، الغير محيطين بمختلف فنون المتقدمين، وقد أدرك البخاري رحمه الله منذ البداية صعوبة مطالعة كتاب “التاريخ الكبير” على غير المتخصصين، فقد روى الخطيب البغدادي بسنده إلى البخاري أنه قال عن كتابه التاريخ: « قل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب » اهـ، وقوله: « هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت كتاب التاريخ ولا عرفوه » – تاريخ بغداد 2 / 7 – .

وروى عنه أيضا قوله 2 / 8: « أخذ إسحاق بن راهويه كتاب «التاريخ» الذي صنفت فأدخله على عبد الله بن طاهر فقال أيها الأمير ألا أريك سحرا؟ قال فنظر فيه عبد الله بن طاهر فتعجب منه، وقال: لست أفهم تصنيفه».

فإن جاءت قلوب البعض من هذا الكلام منكرة، بدعوى أن فيه حجرا على العقول، فإن فيما حصل للأستاذ ابن الأزرق، وهو المتخصص في علم الحديث، أكبر دليل على صدق ما ذكر البخاري، وابن راهويه، وأطبق على روايته وتقريره جماعة من أصحاب التراجم.

5 – هل شكك الإمام البخاري حقا في صحبة سبرة ؟

نسب “ابن الأزرق” إلى البخاري تشكيكه في صحبة سبرة بن معبد رضي الله عنه اعتمادا على ظنه فقط، حيث قال في ص: 140 من كتابه ” زواج المتعة … “: ( وربما كان الإمام متشككا في صحبة سبرة بن معبد، فإنه أورده في التاريخ الكبير 4 / 187 / 2430 فقال: سبرة بن معبد الجهني، قال مروان بن معاوية: سبرة بن عوسج له صحبة، (نا) الحميدي (نا) حرملة بن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني حدثني عمي عبد الملك بن الربيع عن أبيه عن جده: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم.

وقال لي علي بن إبراهيم حدثنا يعقوب بن محمد (نا) سبرة بن عبد العزيز ابن الربيع بن سبرة عن أبيه عن الربيع عن سبرة وكان يكنى أبا ثرية وهو حجازي عن النبي صلى اله عليه وسلم – مثله ) اهـ.

ثم سرد بعض الأمثلة من كلام الإمام البخاري أراد أن يبين من خلالها أن البخاري يصرح دائما بصحبة من يراه صحابيا .

قلت: لا حاجة لنا بهذه الأمثلة كلها، لأن الإمام رحمه الله قد صرح في “التاريخ الكبير” أيضا بصحبة سبرة!، لكن الأستاذ لم يحسن قراءة كلام البخاري، فوقع في هذا الخطأ الذي كلفه تسويد العديد من الورقات بما لا طائل منه، بل وجعله من القرائن الدالة على عدم صحبة سبرة كما في ص:151 من كتابه.

وإذا أردنا أن نحسن قراءة كلام البخاري رحمه الله، فلنعد كتابة نص كلامه الذي أشرنا إليه قبل قليل، لنر بأم أعيننا أنه رحمه الله قد صرح بصحبة سبرة حيث قال: (سبرة بن معبد الجهني، قال مروان بن معاوية: سبرة بن عوسج. له صحبة …. )، فبوضع النقطة ( . ) بعد عوسج، يتبين أن كلام مروان ينتهي هناك، وأن عبارة : ( له صحبة ) للبخاري وليست لمروان، والدليل على ذلك أن البخاري لم ينقل في كتابه كله أي كلام لمروان بن معاوية يثبت به صحبة صحابي كيفما كان، كما أنه كثيرا ما ينقل نسب الرواة عن مروان بن معاوية كما فعل هنا مع سبرة، ومن الأمثلة على ذلك:

1 – عبد الله، البهي، مولى مصعب بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي: ثم قال البخاري: نسبه مروان بن معاوية 5 / 56.

2 – وقال في ترجمة : عبد المؤمن بن أبي شراعة 6 / 116: (قال مروان بن معاوية: حدثنا عبد المؤمن، أبو بلال الأزدي ).

3 – وقال في 6 م 133: (عبد خير بن يزيد، أبو عمارة، الكوفي. كناه مروان بن معاوية ).

4 – وقال عن عثمان بن الحارث 6 / 218: (قال مروان بن معاوية: هو ابن بنت الشعبي الكوفي).

5 – عائذ بن نصيب 7 / 59 : (قال مروان بن معاوية: هو الأسدي.)

قلت: وهناك أمثلة أخرى غير التي ذكرت أعلاه، حيث لا نجد في أي موضع من “التاريخ الكبير” أن البخاري رحمه الله ينقل عن مروان الحكم على راو ما بأنه صحابي.

وبالتالي فإن كلام مروان ينتهي عند حدود تخصصه، وهو نسب سبرة، وليس الحكم عليه بالصحبة.

وهذا الذي وقع للأستاذ “ابن الأزرق” هنا من آفات الأخطاء التي يقع فيها المحققون في وضع أدوات الترقين، وهناك شواهد كثيرة لمثل هذه الأخطاء في كتب التراث المطبوعة، حيث يذهب ضحيتها الكثير من الباحثين، لأنها تؤثر سلبا على فهمهم لمراد المؤلف.

وتجدر هنا الإشارة إلى أن أحد نساخ كتاب التاريخ في المكتبة الشاملة قد تنبه لهذا الخطأ، فوضع النقطة في المكان الذي أشرت إليه، ثم استأنف باقي الكلام على أساس أنه من قول البخاري وليس مروان، وهي النسخة التي أشرف عليها الشيخ محمود محمد خليل.

خاتمة׃

قد تبين من خلال ما ذكرناه في ثنايا هذا البحث، أن الأستاذ ابن الأزرق لم يحالفه الحظ في قراءة كلام الأئمة الذين نسب إليهم القول بتضعيف حديث سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه، كما أثبتنا أن الحديث صحيح مشهور ومعروف عند أئمة الحديث قبل الإمام مسلم رحمه الله، ونكون بالتالي قد أسقطنا أقوى ركيزة اعتمد عليها في توهمه ضعف الحديث. وتبقى كل استنتاجاته، ونظرياته الأخرى، ليست ذات قيمة علمية ما دامت لا تستند على ركن متين.

لكن ومع ذلك، فإننا سنناقش باقي شبهه حول تضعيف الحديث في مقالاتنا القادمة  بإذن الله.

وإلى ذلك الحين ها هو صاحب المقال يحييكم بتحية الإسلام׃ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خريج دار الحديث الحسنية

[email protected]

زواج المتعة: إقامة الدليل على بطلان شبهات “محمد ابن الأزرق” (ح5)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M