سلسلة أنواع القلوب (22) القلب المستبشر (2)

23 أبريل 2016 23:58
سلسلة أنواع القلوب (27) القلب الورع (1)

د. محمد ويلالي

هوية بريس – السبت 23 أبريل 2016

في القسم الأول من أقسام “القلب المستبشر” -ضمن “سلسلة أنواع القلوب” في جزئها الواحد والعشرين-، تحدثنا عما يجب أن يكون عليه المسلم من الاستبشار والتفاؤل، في هذه الحياة المتلاطمة الأمواج، المستصعِبة الاِنتهاج. وعرفنا أن الله – تعالى – قد أعد للمؤمنين الصابرين بُشَرَ الدنيا الآخرة، منها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له، وما يبشر به عند موته، وفي قبره، وعند بعثه، ليتوج بالبشرى العظمى وهي دخول جنة عرضها السماوات والأرض، “يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ“.

وليس ورع المؤمن مرادفا للتعبس وتقطيب الوجه -كما قد يفهمه بعض الناس-، ولا الإحساس باليأس والقنوط بسبب كثرة المعاصي، وتعداد الموبقات، وتعاظم الفساد، إنما الورع الحقيقي بالتفاؤل برحمة الله، واستشعار الجوانب الإيجابية في الحياة، التي لا يمكن التفاعل معها إلا بطلاقة الوجه، وانشراح الصدر. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- مخاطبا أَبا ذَرٍّ -رضي الله عنه-: “لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ” مسلم. ويقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث جابر -رضي الله عنه-: “كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ” صحيح سنن الترمذي. والوجه الطلق، هو الوجه السهل المنبسط المتهلل. قال ابن علان في “دليل الفالحين”: “أي: بوجه ضاحك مستبشر، وذلك لما فيه من إيناس الأخ المؤمن، ودفع الإيحاش عنه، وجبر خاطره، وبذلك يحصل التَّأليف المطلوب بين المؤمنين”.

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ” صحيح سنن الترمذي. أي: فيه ثواب صدقة. وتلك صفة أهل الإيمان والنور يوم القيامة. يقول تعالى: “وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ“. قال ابن عيينة: “والبَشَاشَة مصيدة المودَّة، و البِرُّ شيء هيِّن، وجه طليق، وكلام ليِّن. وفيه رَدٌّ على العالم الذي يصَعِّر خدَّه للناس، كأنَّه معرض عنهم، وعلى العابد الذي يعبِّس وجهه ويقطِّب جبينه، كأنَّه منزَّهٌ عن النَّاس، مستقذِر لهم، أو غضبان عليهم”.

وقال ابن بطَّال: “فيه أنَّ لقاء النَّاس بالتَّبسُّم، وطلاقة الوجه، من أخلاق النُّبوة، وهو مناف للتكبُّر، وجالب للمودَّة”.

ورَكَزَ النبي -صلى الله عليه وسلم- التبشير بالخير في النفوس، فقال لأبي موسى ومعاذ بن جبل: “يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا” متفق عليه.

ويدل على ذلك ما بثه الله تعالى من بشارات الخير، تنتظر المؤمن في الدنيا وفي الآخرة. فمن بشارات الدنيا:

1- أن الأمة الإسلامية خير الأمم، وأكرمها على الله تعالى. فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في قوله تعالى: “[كنتم خير أمة أخرجت للناس] قال: “أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى” صحيح سنن ابن ماجة.

2- وأن النصرة لدين الإسلام، وإن طال الزمان، فالعاقبة للمتقين، ولو ابتلوا في الطريق وامتحنوا. قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا“. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحابته بعدما شكوا له أمرهم وقالوا: “أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: “.. وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ” البخاري. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: “بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالدِّينِ، وَالنَّصْرِ، وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ” صحيح الترغيب.

فالمسلمون وإن دارت بهم الدوائر اليوم، بسبب بعدهم عن الوحيين، وضَعف تمثل توجهاتهما، لا بد سيرجعون يوما إلى دين الله، ويحققون نصرة الله، ثم ينصرهم ويعزهم، فجذوة الإيمان – وإن خفتت – لم تخب، وعاطفة التدين -وإن ضعفت- لم تمح، بل فيهم من سيبقى حصنا منيعا ضد المغرضين، سدا منيعا في وجه المعتدين. قال -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ” متفق عليه.

أما بشارات الآخرة فهي عديدة منها:

1- أفضلية الأمة الإسلامية يوم القيامة، وسبقُها الأمم كلها في دخول الجنة، بَدءا وعددا.

– فعن بريدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أهل الجنة عشرون ومائة صف: ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم” صحيح سنن ابن ماجة.

– وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا رُبُع أهل الجنة“. فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: “والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة“. فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: “والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة. إن مثلكم في الأمم، كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرَّقْمة في ذراع الحمار” متفق عليه.

 – وفي صحيح سنن ابن ماجة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري – رضي الله عنه أيضا – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “يَجِيءُ النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الثَّلاَثَةُ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُدْعَى قَوْمُهُ، فَيُقَالُ: هَلَ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ. فَيُقَالُ: مَنْ شَهِدَ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَتُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، فَيُقَالُ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا بِذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا، فَصَدَّقْنَاهُ. قَالَ: فَذَلِكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)”.

– وقال -صلى الله عليه وسلم- في أهل الكتاب: “هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلاَئِقِ” متفق عليه.

وإنما اصطفى الله تعالى أمتنا لما آل إليها من الكتب السماوية، وآخرها وأشملها القرآن الكريم، إذ أصحاب القرآن هم أهل الله وخاصته. قال تعالى: “ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ“. قال ابن عباس – رضي الله عنهما -:”هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وَرَّثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يُغْفَر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب”.

اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه *** لا تيأسنَّ فإن الصانــــع الله

ومن أعظم بشارات هذه الأمة، أنِ اصطفى الله -عز وجل- لها محمدا -صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا. قال تعالى: “لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ“. قرأ بعضهم: مِنْ أَنفَسِكم – بفتح الفاء -. قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “يعني: من أعظمكم قدرا”.

– وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- “أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ. قَالَ: فَارْفَضَّ عَرَقًا” ص. الترمذي.

ومـما زادني شـرفـاً وتـيـهاً***وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي***وأن صيرت أحمد لي نبيا

– وفي صحيح مسلم من حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم” مسلم.

هذا النبي العظيم هو أملنا – بعد الله  تعالى – في صلاح أحوالنا في الدنيا، وأملنا في شفاعته في الآخرة. حينما يموج الناس يوم القيامة بعضهم في بعض، ويرجون شفاعة الأنبياء، فيمرون على آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، كلهم يقول: “لست لها.. نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري”، حتى إذا أتوا محمدا -صلى الله عليه وسلم- قال: “أنا لها“، فيقال له: سل تعط، فيقول : “أمتي أمتي“، فيؤمر بأن يُخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، وأدنى من ذلك، ثم يؤمر بأن يخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله. والقصة في الصحيحين.

فمن أراد أن يستبشر بشفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له يوم القيامة، فليسر على خطاه، وليهتد بهداه، وليجعله أحب إلى نفسه من والده وولده والناس أجمعين.

بنيتَ لهم من الأخلاق ركنًا***فخانوا الركن فانهدم اضطرابا

وكـان جَـنابهـم فـيها مهـيـبا***ولَـلأخـــلاق أجـدرُ أن تـهـابـا

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M