سلسلة أنواع القلوب (28) القلب الوَرِع (2)

22 أغسطس 2019 18:05
سلسلة أنواع القلوب (28) القلب الوَرِع (2)

 هوية بريس – د. محمد ويلالي

دار حديثنا في الجزء السابق ـ ضمن القسم الأول من أقسام القلب الورع ـ عن أهمية الورع في الإسلام، حين يتنزه صاحب هذا القلب عن المحارم والشبهات، وينقبض عن ما يَريب، ويخشى ضرره في الآخرة، بل قد يترفع عن ركوب ما لا بأس به خوفا مما به بأس. وعرفنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الورع خير الدين فقال: “خير دينِكُمُ الورع” صحيح الترغيب. ووصى أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ فقال: “كن ورعا تكن أعبد الناس” صحيح سنن ابن ماجة. وجعل أمارة ما يُتورع عنه أن يحيك في صدرك، وتَكرهَ أن يطلع عليه الناس. وبين أن من تعفف عن شيء ابتغاء وجه الله، عوضه الله خيرا منه. ثم ضربنا أمثلة واقعية لما يحتاج منا إلى تحكيم هذه الصفة الجليلة، تنزيها للقلب عن الدنايا، وحفظا له من الرزايا.

وللورع مجالات كثيرة، تدور في فلكه، وتحاط بسياجه، نذكر منها اليوم ـ إن شاء الله ـ “ورع البطن”.

ويُقصد ب”ورع البطن” التحرز والاحتياط في ما يُدخل الإنسانُ بطنَه من المأكولات والمشروبات، فلا يأكل إلا حلالا، ولا يشرب إلا حلالا، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ” مسلم. قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: “وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأَنَّ أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله”. وفيه أيضا أن آكل الحرام لا يستجاب لدعائه. وقد قيل لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه وكان مستجاب الدعوة ـ: لم تستجاب دعوتك؟ فقال: “ما رفعتُ إلى فمي لُقمةً إلاَّ وأنا عالِمٌ من أين مجيئُها، ومن أين خرجت”. وقال بعض السلف: “لا تستبطئ الإجابةَ وقد سددتَ طُرقَها بالمعاصي”.

نحن نَدْعُو الإله في كُلِّ كَربٍ *** ثُمَّ نَنساهُ عِندَ كَشفِ الكُروبِ

كَيْفَ نَرجُو إجابةً لدُعـــــاءٍ *** قَدْ سَدَدْنا طرِيقَها بالذُّنـــوب

لا تنفع مع أكل الحرام عبادة ولا زهادة، ولو بقيام الليل وصيام النهار، مهما بلغ العمل من الإخلاص والإتقان.

قال حُذيفة المَرْعَشي: “جماع الخير في حرفين:  حِل الكِسرة، وإخلاص العمل لله”.

وقال وهيب بن الورد: “لو قمتَ مقام هذه السارية، لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنَك: حلال أم حرام”.

ويقول ميمون بن مِهران: “لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه، ومطعمه، ومشربه”.

بل إن مطعم الحلال مفتاح للعبادة الصحيحة، والزهادة الخالصة.  قال سهل بن عبد الله: “من نظر في مطعمه، دخل عليه الزهد من غير دعوى”.

وقال يحيى بن معاذ: “الطاعة خزانة من خزائن الله، إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانُهُ لُقَمُ الحلال”.

وهذا مدخل كبير لإبليس، يشوش به على العُباد، ويحبط به عمل الزُّهاد، حين يفتح لهم باب البطن الحرام، فيطمئن حينئذ إلى ضياع عبادتهم، لأنها مجرد تعب ونصب، لن تنفعهم بشيء، ما دامت لم تحجزهم عن الحرام. كمن يغتر بصلاته، فيستسهل أخذ الرشوة، أو يكثر من الصيام، ولا يرى بأسا بالسرقة، أو يوالي بين الحج والعمرة، ويستحل أكل الربا. قال يوسف بن أَسباط: “إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعمَ سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب، فقد كفاكم نفسه”.

وروي عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول: “خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة: أجعل كسبه من غير حِل، إن تزوج تزوج من حرام، وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام”.

فيكون أكل الحرام حاجزا عن قبول الأعمال الصالحة. قال ابن عبّاس ـ رضي اللّه عنهما ـ: “لا يقبل الله صلاة امرئ وفي جوفه حرام حتى يتوب إلى الله ـ تعالى ـ منه”.

وقال الغزالي: “العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام. وإن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها”. وقال ـ أيضا ـ: “العبادة مع أكل الحرام، كالبناء على أمواج البحار”.

هذا إذا تركه حرامه يتعبد الله على الوجه الصحيح، وإلا فبعيد أن تستقيم عبادته.

أَكْلُ الخَبيثِ بِهِ تعمى القُلوبُ فَلا *** تُحَدِثْ بِها ظُلمَةً تُفضي إلى كَلَلِ

ويعتقد آكل الحرام أن ماله يزيد، ولو تَثَبَّتَ قليلا، لعلم أن ماله منزوع البركة، لا خير فيه. وفي الحديث: “لاَ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ، وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ لِلْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا” صحيح سنن ابن ماجة.

جَمَعَ الحرامَ إلى الحلال لِيُكثــرَهْ

دَخَلَ الحرامُ على الحلال فَبَعثرَهْ

وعدم قبول الأعمال بسبب أكل الحرام نهاية صاحبه إلى العذاب في قبره قبل البعث. وقد سأل الصحابة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصية، فقال لهم: “إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَأْكُلَ إِلاَّ طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ” البخاري.

ويوم القيامة مصيره إلى وبال. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:”يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به. يا كعب بن عجرة، الناس غاديان: فغاد في فَكاك نفسه، فمعتقها، وغاد موبقها” صحيح الترغيب.

وسئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما أكثر ما يدخل النار؟ فقال: “الأجوفان: الفم، والفرج” صحيح سنن ابن ماجة.

وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام” صحيح الترغيب.

وأما نوع عذابه يوم القيامة فشيء فظيع مرعب. فقد ثبت في الصحيح أن آكل الربا يسبح في نهر أحمر، فَيُلقَمُ حجارة من نار، كما ابتلع الحرام الذي جمعه في الدنيا. قال الإمام الذهبي في الكبائر: “هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة، مع لعنة الله له”.

وكان يحيى بن مَعين يُنشد:

المال يذهب حِله وحرامه *** يوما وتبقى في غد آثامُـــه

ليس التقي بمتق لإلهـــه *** حتى يَطيب شرابُه وطعامُه

فكيف ـ بعد هذا ـ نجد أناسا يتخوضون في مال غيرهم بدون وجه حق، ظلما وتحايلا واعتداء؟ يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” البخاري.

هؤلاء لا يشبعون، ولا يقنعون، يحبون التوسع في المطعم والملبس، والظهور باللباس الأنيق، والمركوب الثمين، والمسكن الغالي، يفخرون بذلك على أقرانهم، ويكسرون به قلوب الفقراء والمحتاجين، فيلهثون وراء ذلك، لا يدرون أكسبوا مالهم من حلال أم من حرام. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “سيكونُ رجالٌ من أمَّتي يأكلون ألوانَ الطَّعامِ، ويشرَبون ألوانَ الشَّرابِ، ويلبَسون ألوانَ الثِّيابِ، ويتشدَّقون في الكلامَ، فأولئك شِرارُ أمَّتي” صحيح الجامع.

قال الضحاك بن عثمان ـ وهو من أبناء القرن الثاني الهجري  ـ: “أدركت الناس وهم يتعلمون الورع، وهم اليوم يتعلمون الكلام”. فكيف بالناس اليوم؟

طائفة تتأكل من مداخيل الخمور، حيث بلغت أرباح شركة واحدة عندنا من الخمور قرابة 203 مليون درهم، برقم معاملات يفوق 1.2 مليار درهم.

وطائفة أخرى تتأكل من أموال القمار، الذي بلغ رقم معاملاته عندنا أزيد من 4 ملايير درهم، حيث ينفق المغربي الواحد على الرهان قرابة 120 درهما، مع تسجيل أكثر من 3 ملايين يتعاطون هذه الآفة الخطيرة، مخلفين وراءهم قصصا مؤلمة من الإفلاس، والتهميش، والتشريد.

وطائفة ثالثة بنت مجدها بأموال الرشوة وفساد الصفقات الكبرى، حيث قدرت الخسارة التي يتكبدها المغرب بسبب الفساد في الصفقات العمومية ب 3.6 ملايير درهم خلال سنة 2007، وهو ما يعادل 0.5 من الناتج الداخلي الخام. وقل مثل ذلك في أموال السحر والتنجيم والشعوذة، الماثلة على صفحات بعض جرائدنا، والأموال المجتناة من الكذب، والتزوير، والحلف، والاحتيال، والتطفيف في الكيل والميزان، وكتم العيوب، وتزيين السلعة الناقصة.

أيا من عاش في الدّنيا طويلا *** وأفنى العمر في قيل وقال

وأتعب نفسـه فيما سيفنـــى *** وجَمْعٍ من حرام أو حــلال
هبِ  الدّنيا تقاد إليك عفـوا *** أليس مصير ذلك للزّوال؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M