صلاة الاستسقاء دروس وعبر…

29 نوفمبر 2022 17:44
استسقاء

هوية بريس – محمد بوقنطار

[email protected]

لا جرم أن حياة الاستخلاف البشري في الأرض جاءت مرهونة بحاجتها إلى السماء ففيها رزقنا وما نُوعد، وهو رهن سيبقى قائما ما دامت السماوات والأرض، فمهما بلغ الإنسان من قوة ومن تطوّر وتَوَهُّم استغناء مع لازم بغي وطغيان، ومهما أخذ الإنسان في زخرفة الأرض ثم ظن بعد إشباع بصره وإقناع نظره أنه قادر عليها، فستظل ذمة وجوده ومشيه في مناكبها بأقصى سرعته غارقة في بحر من الفقر والحاجة والعوز إلى خالقه عدد أنفاسه ومبلغ جوعه وعطشه، ويا ليت هذا الدرس وهذه الحقيقة كانت مفهومة لتصير مهضومة للناس في تصديق وتسليم، فليس الإشكال في إجابة الرب فالخزائن عنده لا تنفد لأن المصدر هاهنا مجرد كلمة هو قائلها سبحانه وتعالى: “كن…فيكون”، وإنما الهمّ همّ الدعاء، إذ له قواعد وضوابط تجري في فلك نواميس لا تبديل لها ولا تحويل، يحدّد القرآن واسعها الذي قد لا يطرد لورود الاستثناء في مقام الاستدراج وكيد فتح أبواب كل شيء على معشر المترفين، إذ ما أغنى عنهم فرحهم يومها وقد جاء الأخذ الرباني بغثة فإذا هم آيسون مبلسون، إذ قال الله جلّ جلاله: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ” وقال أيضا: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ”

نعم إن من قواعد الدعاء ولازم الإجابة الإيمان بالله، ذلك الإيمان الذي لا ريب فيه، والذي سيرة عروته في الأرض الصلاح والتقوى، والمشي بين الأنام بالحسنى، ومجافاة ما يُغضب الرب، ومعاداة ما يعرِّض إلى سخطه، والتزام صراطه المستقيم، والعض بالنواجذ على سنة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، والتواصي بالحق، وبالصبر على أضراب الأذى في سبيل ذلك الحق، وشكر نعمه الظاهرة والباطنة باللسان والجنان والأركان، وتحقيق مقام المِنّة بإرجاع الفضل له وحده لا شريك له، واليقين ثم اليقين في أنه المعطي والمانع، ولو تَوَسَّط الجهد بِمَخْلَبِ العمل فإنّها أسباب لا تُضني ولا تُفني، ولا تسمن ولا تغني من جوع…

ولذلك كان الخوف كل الخوف أن تُجاب دعوة الاستصراخ وتضرع الاستسقاء على مداومة إصرار منا واستكثار وإعلان وإدمان ذنب وفاحشة، إذ المنع حينها يكون أزكى من العطاء وأنفع من الإغداق،فبضنك قَدَرَتِهِ ترعوي النفوس وتخشى وتخاف، فتفزع إلى محراب التوبة والإنابة والإخبات، يسوقها إحراق الرهب اللاحق وشوق الرغب السابق إلى مدرج الاستغفار وإتباع الحسنة السيئة في مأمول أن تمحوها.

أما الإغراق في العطايا من الغني المستغني والحال منا معلوم الفرية مفضوح السرية، فذلك استدراج يردفه هلاك نسأل الله العفو والمعافاة، وقد ضرب لنا الله في هذا الخصوص مثلا فقال جلّ جلاله: “وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍۢ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ”.

إنني لا زلت أرفع أكف الضراعة مستمطرا غيث السماء من رافعها على كلفة استحياء، ولا شك أنه استحياء تُزاوِر حُمرته ويضايق إحساسه ـ تحت طائلة ما كسبت أيديهم ـ دواخل زُمرة من كانوا ولا يزالون يحبون دائما أن يكونوا في أوائل الصفوف،يتصدرون منابر السياسة ومجالس وندوات ديدنها الخطابي وسعيها الواعد الدافق الكاذب المدلس الناصب، فتراهم والسير سير استسقاء قد رجعوا إلى الخلف وآثروا الوراء على غير معهود عادة، وتمترسوا بطلبة الكتاتيب القرآنية يمشون في براءة طافحة بين أيديهم الآثمة حفاة قد تدثروا بأسمال يرفعون ألواحهم القرآنية تجاه السماء، ولا شك أنّهم قدّموهم لعلمهم بحقيقة العلاقة الكائنة بين أهل الله وخاصته ومعبودهم الذي لو استقسموا عليه لأبّر قسمهم، ولأرسل عليهم السماء مدرارا، ولو علموا أولئك الذين تخلفوا وترجلوا إلى الوراء خيرا في أبنائهم من مريدي المدارس الأجنبية الفاخرة البنيان، الأنيقة العمران، النقية الإنسان، لاستبدلوا الذي هو عندهم وفي نظرهم الأدنى بالذي هو عندهم في الأصل والفصل خير ونعني بهم أبناءهم ورعيل سخائهم المتميّزة الصفقة العريقة الطبقة…

إنني أعلم أن الكثير من الذين لبوا نداء ولي الأمر حفظه الله فاستبقوا الصفوف ليستسقوا وقد جفت الأرض ونضب الضرع لا يملكون أراضي فلاحية شاسعة، ولا يمتلكون شركات تبيع الماء للناس بثمن غير بخس، ولا هم من مستخدي الشركات الأجنبية المستثمرة في الماء والكهرباء بعقود إدارية أو امتيازية كان السياسيون قد دبروا مرفقها العمومي في غير غيرة ولا صادق انتساب، إن جل أو غالبية الذين لبوا النداء هم من المحنوذين في تنور الأسعار الملتهب، إنما كان سعيهم المبرور مردّه إلى صدق الانتساب إلى الوطن المكلوم، واستجابة لله ولرسوله ولأولي الأمر منا.

فاللهم إن عَظُم الظُلم منا فقد علمنا أن حلمك أعظم، وإن تفحش النقص فكمال عفوك أرحم، وإن تكالب الظلم فعدلك أرحب، وإن تجرأ المُسيء فرحمتك أوسع، وإن تجاوز المخطئ فغفرانك أجدى وأنفع…

فاللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، واللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذاب، واللهم اسقِنا غيثًا مغيثًا، مَريئًا مريعًا، نافعًا غير ضارٍّ، عاجلًا غير آجل… آمين آمين والحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M