عبد الفتّاح كيليطو شابّ في السّبعين من عمره

02 أبريل 2016 15:57
عبد الفتّاح كيليطو شابّ في السّبعين من عمره

هوية بريس – ربيع السملالي

السبت 02 أبريل 2016

عبد الفتّاح كيليطو شابّ في السّبعين من عمره.. هكذا رأيته وأنا أسبر أغوار مؤلّفاته الممتعة التي لم أستطع الابتعاد عنها قِيد أنملة، كلّما طالعتُ كتابًا له أجدُ نفسي تطلب المزيد وتتوقُ إلى كلّ جديد، فأذهب للبحث في مكتبات مدينتي عن اسمه الرّائع كما يبحثُ الغريبُ عمّن يشاكله في أرض لا ماء فيها ولا مطرُ.. فمن الصّعب كما قال كيليطو نفسه في كتاب من كتبه: أن تكتشفَ كاتبًا.. وهذا ما حصل لي.. اكتشفتُ الكاتب الذي كانت تحدّثني نفسي عنه مذ انتهيت من سنوات خلَتْ من القراءة لابن تيمية، والجاحظ والمعرّي ومحمود شاكر ونجيب محفوظ.. هذا المبدع القدير جعل عقلي يعيد ترتيب أوراقه في كلّ ما قرأه وظنّ أنّه استوعبه، بل صدّقوني: إنّ بعد قراءتي له اكتشفتُ أنّني لم أكن قارئًا كما ينبغي أن تكون القراءة.. تلك القراءة التي تجعلك تقف متأمّلا عند كلّ سطر، مُتأمّلاً كلّ حرف لتهتديَ في الأخير إلى الرّسالة التي يريد تمريرها الكاتب الذي أنت بين يدي مؤّلَفه.. وقد أكّد لي هذا المعنى الدّكتور كيليطو حين قال عن نفسه: هناك تقريبا عشرون كتابًا من بينها أسرار البلاغة للجُرجاني أقرأها باستمرار وأكتب عنها، لماذا؟ لأنّني أشعرُ بأنّها لا تبوح لي بكلّ أسرارها دُفعةً واحدة، وأنّها ضَنينة بمعناها فلا تجود بقسطٍ منه إلا لمن يواظبُ على الإمعان فيها.

وفي موضع آخر من كتبه يقول بلسان حالي: حينما أقرأ محكيًا، يحدث أن أقول لنفسي أمام مقطع: قد عشت هذا المشهد، وأحسست بهذه العاطفة، ويتكوَّن عندي انطباع بأنَّ ما أقرأه قد كُتبَ لي خصوصًا، بل يحدث أن أقول لنفسي بكلّ سذاجة: (كان بمقدوري أن أكتب هذا الفصل، وهذا الكتاب). وفي حال قصوى، أكاد أحقد على المؤلِّف لأنه قد اختلس شذرة من ذاتي، وسلبني إيّاها!

وهذا ما وقع لي مع كيليطو تمامًا..

وكُتبه رغم صِغر حجمها، فإنّها تحوي بين دِفافِها من العُمق والفائدة ما تضيق به كواهل المجلّدات.. وعناوين كتبه لطيفة وجميلة ووسيمة تدعوك إلى القراءة وتقول لك هيت لك.. ها أنا ذي اقرأني ولن تندم.. وإنّي لأردّدها بيني وبين نفسي حين أكون خاليا كأنشودة الوطن الضّائع فأقول مثلا: لن تتكلّم لغتي، أتكلّم جميع اللّغات لكن بالعربية، من شرفة ابن رشد، أنبئوني بالرّؤيا، الأدب والارتياب، الأدب والغرابة، حصان نيتشه، الغائب.. الحكاية والتّأويل.. وغيرها كثير ليس من شرْط هذه المقالة ذِكرها كلّها..

بعدد قليل من الكتب النّحيفة كما يقول أحد الصّحفيين: صار عبد الفتّاح كيليطو القارئ والكاتب العربيّ الأمهر..

وإذا كان الأدبُ في رأي صاحبنا يُخرجكُ من ذاتِكَ ويجعلك تكتشفُ ذواتًا أخرى، وقراءته تجعلك تكتشف قارات مجهولة.. فكيليطو هذا الجميل يُعدّ قارّة لها من الحضارة ما يُضرب في سبيلها أكبادُ الإبل..

ومِنْ تَوَاضُع هذا العظيم أنّه ملأ دنيا المُثَقّفين وشغل اهتماماتهم بقلمه السّاحر وفكره المستنير، وذكائه الوقّاد.. ثمّ يكرّر في كثير من حواراته قوله: (أجدُ تحفّظًا أن أعتبر نفسي كاتبًا)..

يا إلهي فماذا يقول الأدعياء من أمثالي، الذين ما إن تُنشر لهم مقالة في جريدة أو مجلّة سيّارة حتّى ينظروا إلى أنفسهم بزهو وافتخارٍ كما لو كانوا الجاحظ أو الرّافعي أو محمود شاكر..

يسأله أحدُهم: ماذا عن البيت الذي نشأ فيه كيليطو؟

فيقول بكلّ عفوية كعادته:

نعود إلى المنزل الأول بعد غياب طويل، فنجده يختلف تمامًا عن صورته في ذهننا. بيت الذاكرة كبير واسع، بينما هذا الماثل أمامنا متواضع بسيط. ينتابك الحنين لأنّك بعيد عن المنزل الأول، ولولا البعدُ عنه لما كانت له قيمة. ابتعاد البيت عنّا أو ابتعادنا عنه هو بالضّبط ما يمنحه أهمية ويجعلنا نقدّره حقَّ قدره.. .

انظر إلى هذا الجواب الذي يدلّ على فلسفة عميقة لهذا (الكائن الأسطوري) إن جازت لي هذه التّسمية، فلسفة تدعوك إلى الانبهار والاندهاش به وحبّه رغمًا عنك.. وكلُّ أجوبته بهذا العمق..

ويسأله آخر: ماذا تقرأ الآن؟

فيجيب:

القراءة عندي حاليًا هي إعادة القراءة. ولو سألتني عمّا قرأته مثلًا من الإصدارات الأدبية الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، لقلت لك: لا شيء، أو لفكّرت طويلًا قبل أن أعثر على جواب! وإجمالًا فإنَّ الكتابَ المثاليَّ هو الذي تعيد قراءته إلى ما لا نهاية ويصاحبك طيلة عمرك. وأظنّ أنّ لكل قارئ مجموعة كتب قيّمة، تكون عكّاز طريقه في الحياة. ودائما فيما يخص القراءة، عندي منها ضربان: نهارية وليلية. خلال النهار أقرأ بالعربية وفي الليل بالفرنسية، وهذا النظام، رغم صرامته، لا يمكن في نظري أن يُفسر تفسيرًا منطقيًا.

وصفه أحد الكُتّاب في مجلة الدّوحة قائلا: وجه عابس بفم مطبق وعينين متسائلتين تماما خائفتين غالبا. لو قابلته في مترو أو على مقهى عند ناصية شارع مجهول ستحسب أنّك بصدد رجل لا يدري من أمر القراءة شيئا.

قلتُ: أمّا أنا فقراءتي كلّها لكيليطو لا شيء غيره هذه الأيّام صباحا وعند المساء، أتنقّل بين أشجاره الوارفة الظّلال، وبين أحجاره الكريمة التي رغم صلابتها تلين بكثرة التّأمّل والوقوف في رحابه بخشوع القارئ الذي يبحث عن اسم أبيه الهارب في متاهات الدّنيا.. كان لي فضول كبير وتطفّل أكبر حين اكتشفت كيليطو، فبدأت أبحث وأتجسّس عليه من خلال الكلمات التي جادت بها قريحته، ومن خلال كتبه التي يعلوها الغبار في مدينتي المهجورة ثقافيًا.. . وإنّي لقريب الشّبه في هذا من ذلك القارئ الذي قصده بقوله في مُؤَلَّفٍ له:

عندما أكتب فإنّني أفترض قارئًا مدينيًا، فضوليًا، متطفّلًا، يمقت المستنسخات ويرتعب من إعارة كتبه. قارئ متسكّع على الضّفتين، مُتنزّه مُنفردًا، لا يحبُّ العمل في المكتبات العامة، يذرع المدينة متوقّفا أمام ملصقات السينما، أمام واجهات متاجر الكتب ومحلّات المقتنيات القديمة، وحين يكون حاضرًا في مدينة أجنبية، فإنه يلج المكتبات في كلّ يوم. إنّه كذلك قارئ يعتقد أنّ القدماء لم يقولوا كلّ شيء، لكنّه، ولكي يتثبت من ذلك، يعمد إلى دراستهم، وبهذا وحده سيتجنّب “تكرارهم”، كما قال ناقد روسي.

بل قد أكون من الذين وصفهم بقوله: بالنّسبة للعديد من القُرّاء في المغرب، ما يزال الأدب هو ما يأتي من الخارج، من جغرافية غريبة وتاريخ بعيد، في بعض الأوساط ليس من النّادر أن تلاحظ تباهيًا باحتقارٍ الكتابات المحليّة.

نعم صدقَ، لكن بعد معرفتي به لم يعد يهمّني لا شرقيّ ولا غربيّ.. وقد آن لمغنيّ الحيّ أن يطربَ ويُعجب.. وصدقَ البحّاثةُ بكر أبو زيد حين قال: (المَغَاربة لهم أنظارٌ ومدارك ليست عندنا نحن المشارقة). ذكر ذلك الأستاذ عبد الله الهدلق في كتابه (ميراث الصّمت والملكوت).

وقد صدق ففي كتب المغاربة علم غزير، وفكر رصين، وأدب جميل.. ولكن مع بالغ الأسف يصدق فيهم قول القائل:

أضاعوني وأَيَّ فتًى أضاعوا.. .. ليومِ كريهةٍ وسِدادِ ثَغْر!

يسأله سائلٌ: إذا دخلنا إلى مكتبتك، ما هي الانطباعات التي نسجّلها لأول وهلة؟

(بوداعته وهدوئه المعهود ابتسم ورحب بي لزيارتها).

كما تعلم، لكلّ مكتبة ترتيب معيّن يختلف من شخص لآخر. في أعلى مكتبتي تجد الكتب التي لا أستعملها إلا نادرًا، وفي الأسفل تلك التي أكرهها فلا أُحب رُؤيتها، وفي الوسط تلك التي أحتاج إليها في كُلّ وقتٍ وحين!

ومن جميل ما يُذكر هنا أنّني لا أعرف عالمًا أو باحثًا عربيا قد تناول كتاب ألف ليلة وليلة، ومقامات الحريري بالدّرس والتّحليل، كما فعل كيليطو، له اهتمام عجيب جدّا بهذين الكتابين، وكلّ كتبه تقريبًا لا تخلو من ذكرهما.

باختصار فاكتشافي لكيليطو كان نعمة.. نعمة كبيرة، واكتشاف كاتب بحجم هذا الرّجل ليسَ بالشّيء الهيّن، ومن قرأ له وعرفَ قدره وثقافته وتحليله الرّائع سيقول لي قصّرت في هذه المقالة، فهو يحتاج إلى مجلّد ضخم، ومن كان جاهلا لا يعرف عن هذا الرّجل شيئا فله أن يعاتبنا ويُسرف في تعنيفنا بسبب ما كتبناه في هذه العُجالة.. وفي الأخير أردّد مع كيليطو: إنّك لا تكتشفُ كلّ يومٍ كاتبًا من حجم مارسيل بروست.. وأنا شأني شأن أيّ قارئ لي موسوعتي الأدبية وكتّابي المُفضّلين الذين اكتشفتهم بطريقة أو بأخرى..

وليسمح لي أن أحذف اسم مارسيل بروست وأضع مكانه (الدّكتور كيليطو).. وللنّاس فيما يعشقون مذاهبُ.. . بعد الاعتراف أّني كالقارئ الذي قال عنه: (داخل كلّ قارئ شهريار غافيًا).. لكنّه استيقظ ولم يعد يرغب في الإغفاء..

فاعذروني ألا يستحق كلّ هذا الاحتفال والحبّ والاهتمام من يقول: رغبتُ في أن أكون كاتبًا منذ عامي الرابع عشر. كنت أجد مُتعة في كتابة مواضيع الإنشاء كيفما كان موضوعها، خصوصًا في السّلك الأول. لكن ما أن يتعلق الأمر بكتابة مقالة أو بحث فإنّ الحظ لا يحالفني، كنت طالبا سيّئًا وكانت علاماتي الدراسية متدنية..

قلت: وهذا ما يُميّز العباقرة..

وهذه تغريدات مختارة من بعض كتبه:

– صوتُ المؤذّنِ لايزال دائمًا يُسمع، مُتحدّيًا الزّمنَ وتَقَلّباتِ التّاريخ.. “حصان نيتشه” (ص:28).

– قُل لي ماذا تقرأ أقل لك كيفَ تكتب.. مسار ص:140.

– تُولدُ المواهبُ أحيانًا من الاطّلاع على سِيَر بعض الكُتّاب.. “مسار” (ص:107 ).

– لابدّ من الاطّلاع على الأدب الغربي لدراسة الأدب العربي.. “مسار” (ص:80).

– اكتشاف كاتب مسألة صعبة جدّا.. “مسار” (ص:81).

– المطلوب من النّاقد أن يُباغت ويُزعج.. “مسار” (ص:25).

– حينما يكون الكتابُ في البدء لا تكون الحياة إلا أدبًا.. “أتكلّم جميع اللغات” (ص:87).

– لقد دخل العربُ إلى الحدَاثة منذ أن نفوا الشّعر عن كتاباتهم.. “أنبئوني بالرّؤيا” (ص:76).

– لكم أدبكم ولي أدبي.. لكم لغتكم ولي لغتي.. “أتكلّم جميع اللّغات لكن باللغة العربية” (ص:17-37).

– الحشو يمتازُ بتفاهته وليس هناك مُسوّغٌ للاهتمام به.. “الأدبُ والغَرَابة” (ص:102)

– كلّ واحدٍ ينال من النّعيم بحسب الأهوال والأخطار التي لقيها.. “الأدب والغرابة” (ص:109).

– للسّرد سُلطة عجيبة لا تُقاوم.. “الأدب والغرابة” (ص:116).

– فالغزو لم يتمّ بالسّلاح فحسب، وإنّما عن طريق الأدب كذلك.. “أتكلّم جميع اللّغات لكن باللغة العربية” (ص:71).

– ليس بإمكان أيّ أحد أن تعتبرَ أقواله نصوصا.. “الأدب والغرابة” (ص:19).

– إنَّ رؤيةَ الشّجرة لا ينبغي أن تذهلنا عن منظر الغابة.. “الأدب والغرابة” (ص:64).

– كم من معانٍ يُقدّمها الكاتب بنبرة جادّة، ولا تمرّ مدّة وجيزة حتّى تبدو خاطئة أو ساذجة مُضحكة.. “الأدب والغَرابة” (ص:86).

– الحياة رُكام من الانطباعات، والإحساسات والأحلام!.. “خصومة الصورة” (ص:22).

– الطّالبُ المتميّزُ هو الذي، مع إلمامه بالبرنامج الدّراسي، يُسَخّرُ جُلَّ ووقته للاطّلاع على أشياء بعيدةٍ عن المُقرّر.. “مسار” (ص:141).

– العالَمُ كتابٌ فلتكونوا قُرّاءَه، أوّلُوه كما تُفسَّرُ الأحلام.. “أتكلّمُ جميعَ اللّغاتِ، لكن بالعربية” (ص:95).

– اكتُبْ باسم أمّكَ التي ولدتكَ.. “أتكلّمُ جميعَ اللّغاتِ، لكن بالعربية” (ص:101).

آخر اﻷخبار
3 تعليقات
  1. هذا كله في كتاب إنسان، فكيف بكتاب رب الإنسان عز وجل (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولوا الألباب) ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) ( لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله).

  2. رأيك فيه معتبر وأنا أثق بآرائك… بقي أن أقرأ له حتى أحكم بنفسي !
    وتذكّر… (ليس بإمكان أيّ أحد أن تعتبرَ أقواله نصوصا.. ) الأدب والغرابة ص 19 ????

    في ظني لو قرأ مقالتك تلك عنه لطار فرحًا واختال زهوًا !
    تحياتي وتقديري

  3. جميل ان نلتفت لأدبائنا وان نقتنع بأن {مطرب الحي قد يطرب } عبد الفتاح كيليطو اديب وناقد حق لك أن تفخر به وتعجب بكتاباته فهو يحفز القارئ لييكون ايجابيا في قراءته بحيث يجعله مشاركا متفاعلا لا متابعا فقط .
    مقال يدل على ان كاتبه قارئ مجيد استطاع التفاعل مع نصوص الكاتب وسبر اغواره فا ستفيد من قراءته وترجمها
    مزيدا من التوفيق

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M