على ضفاف الأزرق

25 ديسمبر 2017 15:48
فيسبوك تعلن أنها حذفت 5,4 مليار حساب مزيف هذا العام

هوية بريس – لطيفة أسير

مواقع التواصل

صــارت مواقع التواصل الاجتماعي فضاء لمن لا فضاء له، يصافحها المرءُ صباح مساء، يَبُثُّها أشجانه ومسراته، يعاتب فيها افتراضًا من عجز عن معاتبتهم واقعًا، يُسيل دمعًا من وراء الشاشات رسمته حروف نازفة. يحلق في فضاء الأمنيات مذبذبًا بين الوهم و”الحقيقة”، يربط علاقات هنا وهناك، يسعد ببعضها لصفاء سريرة أهلها، ويُجرح من أخرى سكن الخُبث قلوبها.

يَمٌّ متلاطمُ الأمواج، يُغريك.. يدغدغ مشاعرك.. يسيل لعابك من زخرف الكلام، لكن إن لم تكن ماهرا في فن ملاعبة أمواجه، ستتوه حتما وتضيع هويتك وتمقت اليوم الذي وطئت فيه هذا اليم.

ذو حدّين

خبَّب ذاك الفضاء الأزرقُ المشاعرَ، وأفسد الأذواق، وأكثر من الضغائن، وحاد عن الحق أهله، وتاهت في دروبه ربّات الخدور، واستعذبت القلوب الموجوعة دقات قلبه النابضة بالفراغ، وتطلّعت إلى سمائه عيون الحيارى باحثة عن أملٍ مفقود، فألفت نفسها تخبط فيه خبط عشواء.

كم أهدر من أوقات، وكم هتك من أستار، وكم فرّق من جماعات، وقديما قلتُ ” ما يزال المرء في فسحة من أمره ما لم يلِجْ عالم النت “..لكنه في نفس الآن مجال خصب لنشر المعرفة وتلاقح الأفكار وسمو الأرواح. لهذا متى أحسنا التفاعل معه، سيصبح أداة بأيدينا نتحكم فيه، لا أداة بقلوبنا يوجهنا حيثما شاء!

الرقباء

وأنت تكتب.. هناك من يقتفي أثرك في صمت، يتابعُ همسك وخطو حرفك وابتساماتك وحركاتك وسكناتك.. حتى يُخيّل إليك أنّه يعدّ عليك أنفاسك وبصمات إعجابك، باحثا عن جديد تشم رائحته بين ثنايا حروفك، قد يكون ذلك اهتماما بشخصك أو بحرفك ورغبة في الاطمئنان عليك، وذاك أجملهم روحا وله كل التحايا..

وقد تكون بغيته التنقيب في صفحتك عن مادة للتهكم والسخرية يملأ بها صفحته، ويسمر بها مع صحبه، فما أن تقع عينه على مادة ساخرة، أو عيب يوجب التعزير، حتى يقيم لك جلسة محاكمة على صفحته، ويجلدك أمام الملأ بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأرباب هذه الصفحات التي تقتات على زلات الناس فلا ترى غير مساوئهم، ولا تبصر إلا هفواتهم غاضة الطرف عن حسناتهم، قد جانبوا الصواب في الإنصاف، وحادوا عن نهج السلف في التوجيه والتقويم.

يقول ابن حزم: ((مَن أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه)).

ومن أجمل ما صادفت في الإنصاف في الحكم على الناس، ومراعاة اختلاف الطبائع وتنوع الأدوار في الحياة، ما رد به الإمام مالك على عبد الله العمري العابد حين دعاه لترك مخالطة الناس والتفرغ للعبادة، فأجابه بقوله :

(إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشْر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر).

حسابات الفايس

بعض الحسابات في ذاك الفضاء أنشأها أصحابها للفائدة سواء الدينية أو الثقافية أو حتى لنشر الفكاهة أو تتبع الأخبار في شتى المجالات، فأنت لا تعدم فائدة وأنت تتنقل بين صفحاتها.

وبعض الحسابات همّ أربابها تتبع عورات الآخر الفكرية والحياتية، فيخوض في الأعراض طولا وعرضا، ويسلط عصا العقاب على العباد وكأنه رقيب عليهم.

لكن الذي يثير الحيرة تلك الحسابات الصامتة التي تستشعر أنها تراقب الخلق هنا وهناك وكأنها تتربص بأحد دائرة من الدوائر!!

غثائية

في زمن الغثائية وطّنْ نفسك على مصادفة كل ما هو تافه في الكلام واللباس وكل ألوان الحياة.. القوم في فضاءات التواصل ينبئون عما في عقولهم، وكل إناء بما فيه ينضح، وكل فكر عما فيه يُفصح، فلا تتوقع ممن اعتاد أن يعالج الحياة بسطحية أن يمتع فكرك بما لذّ وطاب من العلوم والآداب، فتلك بضاعة كاسدة لا تجلب إعجابا ولا تثمر حوارات فكاهية تطيل المنشور بشكل يدخل البهجة والسرور.. تشابهت الجدرانُ على القوم وعاد بهم الزمن إلى الأيام الخوالي..

عقليات قذرة

يؤذي قلبي كثيرا سماع تصريحات أولئك المنتسبين للإسلام اسمًا، والمتبرئين من أحكامه ومبادئه منهجا، لا أكاد أستسيغ جرأتهم على الله وعلى رسول الله وهم يناقشون باسم العقلانية أمورا تعد عند من استقام إيمانه من البديهيات، لكنهم يأبون إلا أن يتعالموا ويظهروا بمظهر المفكرين والعباقرة الذين يرفضون التبعية والتقليد ويجتهدون في إنقاذ البشرية من ضياعها. وللأسف أمثال هذه القاذورات ملأت العالم العربي، وفضاءات التواصل سنحت لها الفرصة لتقيؤ هذه الأفكار النتنة.

أمانة النقل

حين يغيبُ عزوُ القول لصاحبه، تغدو الكثير من الصفحات الشخصية نُسخا متشابهة، تضيع معها الملكية الفكرية، ويحضر التوجس والريبة من أمر صاحبها. فحبّذا لو التزم -كل صاحب حساب- بمبدإ إسناد القول لقائله حتى لا نقع في ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: “المتشبّع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور”، وحتى نقتفي أثر السلف الصالح في هذا الباب حيث قال الإمام النووي -رحمه الله- في باب “بستان العارفين” معلقاً على حديث (الدِّين النَّصيحة):

ومن النصيحة: أن تضاف الفائدة التي تُستغرب إلى قائلها، فمن فعل ذلك بورك له في علمه وحاله، ومن أوهم ذلك وأوهم فيما يأخذه من كلام غيره أنه له: فهو جدير أن لا ينتفع بعلمه، ولا يبارك له في حال، ولم يزل أهل العلم والفضل على إضافة الفوائد إلى قائلها.

فوضى الإبداع

فتحت فضاءات التواصل الباب على مصراعيه لأرباب الفكر والأدب، وعشاق الحرف الجميل، وصارت الصفحات تتنافس في نشر الكلام الموزون نثرا وشعرا. ومع كل منشور تجد عشرات بل مئات الإعجابات والتعليقات المنوّهة بذاك الإبداع الذي لن يعدم مشجعا وإن حفّته العلل من كل حدب وصوب، فقد أضحى المديح يُكال لكل متشبّع بما لم يعطَـ وصارت تُقلّد أوسمة الإبداع لمن هبّ ودبّ، وبات مصطلح (إبداع) يطلق على كل جملة مفيدة وغير مفيدة. وهذا ربّما ما جعل الكثيرين يتجرأون على المضي قدُما في درب الكتابة معتقدين سفها أنها أمرٌ هيّن ومركب سهل يستطيع أن يركبه ويبحر فيه كلّ من فكّ أميته الهجائية.

بصمة الإعجاب

بصمة الإعجاب “ترمومتر” نشاط الصفحة أو خمولها، قد نجانب الصواب إن قلنا أننا لا نعبأ بها، أو أننا لا نبالي بكثرتها أو قلتها، خصوصا إن كان المنشور إبداعا شخصيا تكبّدتَ معاناة إنتاجه.

قد تستشيط غيظا حين تُبصر خزعبلات وقاذورات تلقى هنا وهناك تحظى بآلاف البصمات الداعمة، ووليدك الذي تكبّدت المشاق في إخراجه للوجود لا يحظى بما يستحقه من اهتمام ..وحُقّ لك أن تغضب وأنت ترى هذه القسمة الضيزى التي جعلت هذه البصمة تفقد مصداقيتها وقدسيتها.

ولا تقل لي (أخي / أختي) أنا لا أبحث عن إعجابات، أنا أعمل لله، لا يهمني من شكر ومن كفر.. لأننا جميعا نحمل نفسا بشرية ضعيفة، تحتاج بين الحين والآخر أن تشعر بقيمتها عند الآخر، وإن بلغت ثقتها أبعد مدى.

جرّب أن تنشر منشورات لأيام.. إن لم تجد أدنى تفاعل معها، ستشعر بالإحباط خصوصا إن كانت إبداعات شخصية، وأنت في هذه الحالة بين أمرين، إما تتوقف عن النشر لأن منشوراتك دون المستوى بالنسبة لمتابعيك، أو ستضطر لتغيير طبيعة منشوراتك.

التعليقات

التعليقات الحسنة من أولى النهى تُكسب الكاتب – خصوصا المبتدئ – الغبطة والسرور لا الفخر والغرور، وأعتقد أن هذا ليس عيبا، لأن النفس الإنسانية نزّاعة لمثل هذا، وتلك عاجل بشرى المؤمن، والكاتب الرزين تجعله التعليقات الصادقة أكثر مسؤولية أمام قلمه وأمام قرائه، لكن فعلا المذموم أن تكون هذه التعليقات مدعاة للتعالي والكبر حتى يظن الكاتب أن قلمه لم يُخلق له نِدٌّ ولا شبيه.

الإشعارات

الإشعارات إشارات تبعث الحياة في كل حساب “فايسبوكي”، تُشعرك أن هناك من يهتم لما تنشره، يتابعك ويتفاعل مع فكرك تشجيعا وتوجيها. دافع قوي للمُضي قُدُما في نسج خيوط حسابك الشخصي بملامح يتمنى كل منّا أن تعكس شخصه وتلقي الضوء على ميولاته.

الصبية الدعاة

من أوجه البلاء بهذا الفضاء.. “الصبية الدعاة”.. والله آفة عظيمة (بخرجاتهم) وآرائهم التي يعتقدون أنها من الدين وماهي منه.

أن تضع/ي بجوار اسمك “الداعية” فأنت تعطي للآخر انطباعا أنّك صاحب علم ودين، لذا فأفكارك وآراؤك يأخذها من لا علم له ولا دين على أنها من الدين، وقد لا تكون منه. فالحذر الحذر يا من تسمي نفسك داعية!!

إدمان

من دلالات الإدمان القاهر الذي باتت تشكله هذه الفضاءات الاجتماعية، عجز الكثير من المنتسبين إليها عن الإقلاع عنها، أو تجاهلها لفترة طويلة، أضحت للأسف طقسا يوميا من طقوس حياتنا، إن خرجنا من بابه بأسمائنا الحقيقية نطل من نوافذه بحسابات مستعارة، ولكل منا ما يؤرقه في هذا الفضاء فينحو به شطر الإدبار عنه، أو ما يجذبه فيجعله يشتاق لمعانقته سريعا، لكن المؤكد أنه حين يخامرنا هاجس الرحيل بإلحاح يوشك أن يقع!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M