عندما تستدرك تلميذة من زمن الوهن

27 مارس 2017 22:41
إلى أين المسير يا وطني العزيز؟

هوية بريس – محمد بوقنطار

وأنا أبرر لتلاميذ السنة الثالثة من السلك الثانوي الإعدادي موقفي وسبب اختياري ـفي إطار القراءة الحرةـ لقصة من كتاب وحي القلم لصاحبه الأديب الأريب مصطفى صادق الرافعي عنوانها “ذيل القصة وفلسفة المال”، وأن هذا الاختيار قد روعيت فيه جملة من الاعتبارات اللغوية والأدبية والمعاني والحكم المتسامية، بل لقد كان على رأس هذه الاعتبارات مقصود تجريع معشر المتعلمين وهم في هذه السن الحرجة وسط هذه اللجة العفنة التي تتحكم في تحديد ضوابط السير بين جبال أمواجها الوافدات الصقيعية لمدنية الغرب العابثة.

تجريعهم أن المرء إنما يوزن بحجم مبادئه وجملة قيمه وأخلاقه الفاضلة، وأن مناخيل التاريخ لا يدخل محراب أسفارها، ولا يحرز له ذكرا وحفظا بين سطور محطاتها إلا من حاز المفاوز، وتحصلت له بتوفيق من الله ثم مجاهدة ذاتية الأنصبة ذات الوزن الثقيل من رصيد محاسن الأخلاق، التي تواطأ على الإقرار بقوتها وصلاحها الشرع والعقل والطبع والحس، سيما وأن هذه القصة تحكي عن واقعة من التاريخ الإسلامي المشرق، واقعة لها دلالتها ومعانيها الرائقة، خصوصا وأن ملامح فصولها هي أقرب إلى معاني السماء حيث مهوى الأرواح، كما هي أبعد عن تراب الدنيا النجس، ذلك التراب الذي خرج عن براءة الأصل وطهارته يوم فضل المسلم وسمح بل تعلق بالمنفوض من نعال الغرب ومدنيته المستعلية في قهر وغلبة…

وكيف لا تكون معاني القصة من معاني السماء وقد رفض الإمام سعيد بن المسيب تزويج ابنته وقد خطبها منه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان لابنه وولي عهده، بل لم يقف الرفض عند هذه العتبة، ولكنه بلغ مبلغا جعله يزوجها من طالب علم فقير اسمه ابن أبي وداعة، وقد اختار أن يهرول بها في مسعى بيت هذا الطالب الفقير في ليلة زفافها، ولعل للقصة ذيلا وبقية مضمون له عنوانه ومكانه ومناسبة استيعاب سوقه…

فبينا أنا مغرق في شرح تفاصيل هذه الحادثة، مجتهد في تقريب طوباوية أحداثها من ناشئة مستعبدة بالمادة، تكاد تكفر بالقيم والمثل وبتاريخ حضارة أسلافها، مثنيا ومادحا في إنصاف لأبطالها ـ حاكما ومحكوما وعالما أبا وابنة وتاريخا مشرقاـ رابطا هذه الإشراقات بمعنى وتجليات أن تكون صاحب مبدأ في هذا الزمن، يتندر معدنك ويقل بين معادن أكثرية الغثاء والعملة البوار الأكثر رواجا، فتتغرب بهذا المبدأ فقرا وحاجة وغمرا وسط مناخ موبوء يعج بنطائح القدوات الجديدة من مشاهير الغناء والرقص والطبخ والرياضة والعري والسفور والهوس والسفه الحائد عن سوي الفطرة…

قلت فبينا أنا مغرق في… إذ بتلميذة ترفع بنانها مستدركة قبل الإذن بكلام مفاده أن الغرب في هذا الخصوص أكثر منا فضلا وأقوم قيلا وعدلا، وأن سيرته ومعهود خبره يشوبهما التميّز، فهو الأفضل من حيث الجود بالحقوق تحقيقا لا تعليقا، بل تمسكه بالعدل والحرية والمساواة هو مبدأ اطرد وقوعه وتوقيعه كابرا عن كابر.

 والحقيقة أنني وأنا أستمع لاستدراك التلميذة كنت أحس بدرجة حرارة كلامها، وكذا سخونة وفورة دواخل هذا الكلام ومحاضن انبجاسه العفوي، فقد بدا عليها الكثير من التوتر كما سيطرت على ملامح وجهها الطفولي صلادة وتقطيب الكبار، وهي تمارس حقها أو ما تراه هي حقا لها، يسوغ ويكفل لها الرد والتعبير عن نظرتها إلى هذا الأمر، والفصح عن ما راكمته من قناعات قد تحوّلت في الجوف والنواصي إلى مسلمات تستدعي من حامليها ومتبنيها الدفاع عنها والمدافعة عن حياض رصيدها الفكري والمعرفي إن جازت التسمية وسلم الوصف.

 ولقد كنت أميل في غمرة ذلك الإحساس الأول إلى ركوب محمل التماس العذر لها ولمضمون استدراكها، بالنظر إلى ما كانت ولا تزال تعانيه النخبة والأكثرية من عقدة الغالب، وأنها كمغلوبة ظلت على مرأى ومسمع الناشئة مولعة بتقليد هذا الغالب ودفعه إلى الواجهة للتأسي بمظاهر تفوقه المادي الباهر، وأن هذا المناخ لم يكن سوى البيئة التي تربت ونشأت على منطقها وفلسفتها هذه التلميذة وشواكلها مما كثر أو قل كيفه وكمه، بل هو المناخ الذي استمرأ هذا الجيل وأجيال من سابقيه استطابة وإدمان سماع ضجيج الإطراء والتبريك الذي تجاوز المنابر الإعلامية إلى المنابر الدينية، بما فيها ميراث المنبر النبوي لخطب الجمعة الموغلة في معاني الانبطاح باسم التسامح وجميل الصفح وإدارة الخد الأيمن لصافع الأيسر، وتعارف الذوبان في متسع ورحابة حوجلة ذلك الغالب المتفوق…

ولعل محمل العذر ومجرد التماسه كان له الفضل في نفخ أنفاس المطارحة بالتي أحسن في دواخلي، خصوصا وأن كل المعطيات على أرضية الفصول الدراسية ببلادنا وسائر بلاد المسلمين، تذهب مذهب فرض الأخذ بيد أبناءنا نحو ما نعتقده بيقين أنه حق ونفع محض لهم بل للناس أجمعين، كما تذهب مذهب واجب انتشالهم من سلطة خلايا الاستغراب والاستخراب السالبة لحرية تفكيرهم، والدافعة لهم بعنوة إلى خلق انسلاخ ومأمول تحرر من موروث هويتهم وعلاقتهم بربهم.

 ذلك السلب والدفع الذي ما فتئ يمارس دوره القذر في غفلة من الأسرة والمدرسة والمسجد، بل كان من صميم مهمات هذا الدور القذر وجزء تجلياته على الأرض مواجهة هذه المحاريب وضرب هذه الأركان الثلاثة، ونعني بها أركان الأسرة والمدرسة والمسجد، في محاولة لإقصائها والتحجير على دورها، وتفريغها من شرف ما تضطلع به من دور رائد في تربية الناشئة وزراعة شطء التمكين، الذي من شأنه أن يعيد للأمة خيريتها، ويسبل عليها بساط الهيبة، ويحيطها بهالة الوقار التي عاشت مغمورة في كنفه مرفوعة الرأس به حينا من الدهر غير قصير.

وقد كان من محامل العذر ولازم رد الاستدراك بالتي هي أحسن، لفت انتباه التلميذة إلى ملحظ الإجمال الذي شاب تدخلها، وأن الأمر ربما احتاج منها إلى مزيد تفصيل وتقريب وإقرار بالمثال، وليس هذا بمستنكر عليها بالنظر إلى سنها وطراوة عودها في مقام الإحاطة علما بأدبيات الاستدراك وقواعد تسجيل الانطباع من جهة…

 ومن جهة أخرى كون هذا الإجمال كان ولا يزال يشكل المركوب المفضل لكل من دأب على توجيه سهام الاتهام إلى الأمة، وسلك مسلك التطفيف في إطار مقارنة حاضرها وماضيها مع حاضر وماضي من يعبد النار أو الأشجار والأحجار أو تصاوير الأرواح ومجسمات الصلبان على جدران الكنائس والبيع والأديرة…

والمهم أن لفت الانتباه قد دفع بالتلميذة إلى تفصيل مجملها، ضاربة المثل بما ألفنا سماعه من استشهار مجاني لقيمة الغرب الأخلاقية، خصوصا في ما له تعلق بضبط المواعيد واحترام المواقيت، ولست أدري مصدر هذه المعلومة الهلامية ولا إسناد رواتها، وإن كنت أقر كغيري بأنها عبارة لها وقعها ووزنها في مخزون ذاكرتنا الشعبية، وموروثنا من حديث الشوارع والأزقة الضيقة وأرصفة المقاهي.

 ولذلك لم أكن أطمع في مزيد تفصيل من التلميذة ولا طلب عزو وإسناد لكلامها، وإنما اكتفيت بفتح باب التحدي في قالب تربوي مفاده اقتراحي على نسيج الفصل كله ـ ذكوره وإناثه ـ الإتيان بنموذج غربي يحاكي في تجربته ومستوى ضبطه وسقف انضباطه تجربة المؤذن وحجم تحريه الضبط والالتزام المسؤول بالمواعيد الخمسة لرفع الإعلام بدخول وقت الصلاة صيفا وشتاء، ليلا ونهارا، وظهرا ومساء، وبردا  وقرا وحرا واختيارا لا إكراها…

ولك أن تستفهم، بل يجب أن تستفهم: ماذا فعل التلاميذ في مقابل هذا التحدي؟

والإجابة المبتسرة الحقة: لا شيء، صمت ووجوم رهيب وهمسات هنا وهناك…

صمت ووجوم ينم على أن ذلك الاستدراك إنما مبعثه عصبية تشربتها فطر هذه الأجيال دون مقاومة منها تصارع ولا عقيدة واعية لها تدافع، وذاك ولا شك سر هذا التردي الذي نعيشه ونحيا فصول مسرحيته على كل الواجهات وشتى المستويات، وذاك هو سر هذا السطو الذي تجاوز هدم الدور والحيطان إلى استعباد العقول واستغفال الضمائر منذ وقت مبكر.

 ولو تتبعت أحوالنا لوجدت أن هذا الاستدراك إنما هو من جهة دلالته يشكل حلقة من مجموع حلقات متصلة، تدين لمنظوم وناظم عقدها بتقريب مآرب الاستخراب، واستباحة الإنسان المسلم في أرضه وعرضه، وجملة المقاصد الكبرى التي جاء الدين لحفظها، وليس هذا الكلام يحمّل المسؤولية لأحد من هؤلاء الحدثاء، وإنما المقصود قراءة هذا الاستدراك في سياق يضع أصبع الاتهام ويوجهه دون مواربة إلى من لا يستحيون من رمينا بأوزارهم، وملء آفاقنا بالمظالم، وزحم محيطنا بالكسور العابثة، والأرقام المحلية المتحولة، والمنتصرة باسم الإصلاح والتحديث لكل أشكال الفوضى والاعوجاج والهمجية، وتلك سيرة من ماتت في دواخلهم معالم الغيرة على البلاد والعباد، بل وجفت في تجاويف أفئدتهم عرى وخِلال عز وشرف الانتساب إلى هذه الأمة الموصولة بالله، ومن هنا كان اصطفافهم جهارا إلى جهة العدو المتربص شأنا لا محيص عنه، بله لا محيص على ذهابهم وذهاب جهودهم أدراج الرياح.

لكنه ذهاب له دواعي وقبلها مسببات ومستلزمات، أهمها صرف الجهد في مأمول النزول والتسفل من على قمم الحصون الحالمة في خيال، والتي كان من تداعياتها المباشرة انسلاخنا وتخلينا عن فضائل مشروع وجودنا، وقعودنا مقعد الغلو والإفراط في التماس الأعذار لمن طبعت القسوة والتكالب والتهارش طبيعة معاملتهم لنا، بل ما فتئوا ينظرون إلينا وكأننا ننتمي إلى جنس الحيوان لا إلى جنس الإنسان، ولربما أقاموا الدنيا وأقعدوها على موت كلب أو إصابة ضبع، أو قطع فرع من شجرة، بينما الواقع يشهد بالصوت والصورة والرائحة أنهم يتقربون إلى مصلوبهم وثالث ثلاثتهم بركام من جثثنا ضارب في الطول والعرض.

ولا أسف أن تُطوى مأساتنا ولا تُروى، بل يصير ويُعد صمتنا بل تصديتنا لهذه الفواجع فضيلة، يحكم لنا متى ما تبنينا طرحها وأتقنا أسلوبها بالتحضر والحداثة، وبداية التحرك في صوب تحقيق الامتيازات التي جاء ذكرها في استدراك تلميذتنا ومعها جمهرة من جيلها جيل القنطرة…

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M