فضل العشر الأواخر في رمضان

25 يونيو 2016 19:34
فضل العشر الأواخر في رمضان

ذ. جواد أمزون

هوية بريس – السبت 25 يونيو 2016

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، وبعد: فتتوالى نعم الله تعالى على عباده، فيغمرهم بعفوه، ويمن عليهم بمناسبات الخير والرحمات بفضله، وقد حثنا ديننا الحنيف إلى اغتنام تلكم المواسم بالمسارعة إلى أعمال البر والصلاح التي تدخل العبد الجنان، قال تعالى: “سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” (الحديد:21). يتفضل ربنا على عباده بنفحات الخيرات ومواسم الطاعات، فيغتنم الصّالحون نفائسها، ويتدارك الأوّابون أواخرها.

وإن أعظم هذه المواسم العشر الأواخر من رمضان، إنها بساتين الجنان قد تزينت إنها نفحات الرحمن قد تنزّلت فحري بالغافل أن يعاجل، وجدير بالمقصر أن يشمر. وإنها والله لنعمة كبرى أن تفضل الله علينا، ومد في أعمارنا، حتى بلغنا هذه العشر المباركة، وإن من تمام شكر هذه النعمة أن نغتنمها بالأعمال الصالحة.

إن العشر الأواخر هي أفضل أيام شهر رمضان ولياليه أفضل ليالي العام كله، وقد فاضل بعض العلماء بينها وبين العشر الأوائل من ذي الحجة، وخلاصة كلامهم ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله حين سئل عن: “عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَأَجَابَ: أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ: وَإِذَا تَأَمَّلَ الْفَاضِلُ اللَّبِيبُ هَذَا الْجَوَابَ وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَفِيهَا: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَأَمَّا لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ فَهِيَ لَيَالِي الْإِحْيَاءِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحْيِيهَا كُلَّهَا، وَفِيهَا لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا التَّفْصِيلِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُدْلِيَ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ” (مجموع فتاوى ابن تيمية (ج6/ص100)).

إن شهر الصوم قد قوّضت خيامه وتصرمت لياليه وأيامه، فالسعيد كل السعادة من ربح وفاز وتدارك ما فاته من العمل الصالح في هذه الأيام العظام، وإذا كان قد ذهب من هذا الشهر أكثره، فقد بقي فيه أجَلّه وأخيره، لقد بقي فيه العشر الأواخر التي هي زبدته وثمرته، وموضع الذؤابة منه.

 لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظّم هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهادًا حتى لا يكاد يقدر عليه، يفعل ذلك وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، فما أحرانا نحن المذنبين المفرّطين أن نقتدي به فنعرف لهذه الأيام فضلها، ونجتهد فيها؛ لعل الله أن يدركنا برحمته، ويسعفنا بنفحة من نفحاته.

ونجمل فضائل هذه الأيام والليالي فيما يلي:

أولا: إحياء الليل وطول القيام: روى الإمام مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره”، وفي الصحيحين عنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمَّر وشدَّ المئزر”، وعنها -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: “كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَه” (صحيح البخاري (1880))، وشد مئزره: أي اعتزل النساء، ويحتمل أن يراد به الجد في العبادة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشرة أيام من رمضان يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه فقد كان صلى الله عليه وسلم يطرق الباب على فاطمة وعلي رضي الله عنهما قائلاً «ألا تصليان..» رواه البخاري وأحمد في المسند. وكان صلى الله عليه وسلم يتجه إلى حجرات نساءه آمرًا فيقول: «أيقظوا صواحب الحجر فربَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة» أخرجه البخاري في صحيحه ومالك في موطئه.

هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم يجتهد في ليالي العشر فيحي ليله بالصلاة وطول القيام، وعلى نهجه سار الصحابة والسلف الصالحون قال تعالى: “كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ” [الذاريات:17،18].وقال تعالى: “تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [السجدة:16،17]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل» (رواه مسلم والترمذي والنسائي).

فما بال أقوام تمر بهم هذه الليالي المباركة، وهم عنها في غفلة معرضون، فيمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم، فيسهرون الليل كله أو معظمه في لهو ولعب في متابعة المسلسلات والمسرحيات وما لا نفع فيه أو تمر عليهم وهم غارقون في النوم، والله إنه الحرمان العظيم، والخسارة الفادحة، فما المحروم إلا من حرم الخير.

ثانيا: الدعاء: إنه من أجل العبادات التي ينبغي على المسلم استغلالها في هذه الليالي، فهو العبادة العظيمة التي غفل عنها كثير من الناس يقول عليه الصلاةُ والسلام: ((إنّ في اللّيلِ لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مُسلم يسأل اللهَ خيرًا مِن أمرِ الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلَّ ليلة)) رواه مسلم. فادع ربك وأيقن بالإجابة فالرّبّ كريم، وبُثَّ إليهِ شكواك فإنّه الرّحمن الرّحيم، وارفع إليه لأواك فهو السّميع البصير ونسمات آخر الليل مظنّة إجابة الدّعوات، قيل للنبيّ: أيّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوفُ اللّيل الآخِر ودُبر الصّلواتِ المكتوباتِ)) رواه الترمذيّ وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح 1231 وفي صحيح الترغيب والترهيب 1648″. وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليلة الأخيرة فيقول: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله إلى السماء الدنيا ثم تفتح أبواب السماء حتى يطلع الفجر».

فأكثروا من الدعاء في جوف الليل واسكبوا العبرات وتلذذوا بحلاوة المناجاة وانكسروا بين يدي ربكم واخضعوا له واسألوه من خيري الدنيا والآخرة يعطكم ما سألتموه قال تعالى: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” (البقرة: 186).

ثالثا: ليلة القدر: وإن من أعظم فضائل هذه الايام ليلة، ليلة شرّفها الله على غيرها من الليالي، ومنّ على عباده بجزيل خيرها، ليلة أجزل فيها الإفضال والإحسان، ليلة لا تشبه ليالي الدهر، إنها ليلة القدر ليلةُ العتق والمباهاة، ليلة القرب والمناجاة، ليلة نزول القرآن، ليلة الرحمة والغفران، ليلة هي أمّ الليالي، كثيرةُ البركات، عزيزة السّاعات، القليل من العمل فيها كثير، والكثير منه مضاعف، قال تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ” (سورة القدر) إنها ليلة القدر: الليلة المباركة، ليلة القضاء والحكم، وليلة التدبير والأمر، وليلة الشرف والفضل والقدر. تبدأ ليلة القدر من غروب الشمس الى الفجر، ولنا وقفات مع ليلة القدر:

* أولا سبب تسميتها:

الأول: من القدر وهو الشرف والتعظيم، أي أنها ذات شرف لعظم قدرها وجلالة مكانتها عند الله ولما اختصت به من الخصائص والفضائل والأجر العظيم قال تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ” (الدخان:3).

الثاني: أنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام، وهذا من حكمة الله عز وجل وبيان إتقان صنعه وخلقه، قال تعالى: “فيها يفرق كل أمر حكيم” (الدخان:4)، أي تقدّر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة. والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر -والله أعلم- أنها تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ. وقيل أن المعنى أن المقادير تبين في هذه الليلة للملائكة وقيل لأن للعبادة.

الثالث: من القدر والتضييق، قال تعالى: “وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه” (سورة الفجر 16)، أي ضيق عليه رزقه ومعنى ذلك: إخفاؤها عن العلم بتعيينها، وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت ليلة القدر، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة “تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ”، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى” رواه ابن خزيمة وحسن إسناده الألباني.

الرابع: لعظم الثواب والأجر فيها لأن للعبادة فيها قدر عظيم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.

* ثانيا فضلها: وفضل ليلة القدر عظيم قال الله: ” لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ “(سورة القدر3)، وقد حسب بعض العلماء “ألف شهر” فوجدوها ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فيا سعادة المجتهدين فيها، إنها ليلة مباركة وليلة الغفران قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم” (رواه ابن ماج وحسنه الألباني في المشكاة 1964، وفي صحيح الترغيب والترهيب 999) .

وفيها تنزل الملائكة ومعهم الروح الأمين جبريل والملائكة لا تنزل إلا بالخير والمغفرة فيا سعادة المذنبين التائبين، وهذه الليلة سلمت من كل شر وذلك مصداقًا لقوله: }سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ{ [القدر:5] هي سلام من أول يومها إِلى طلوع الفجر، سالمة من كل آفة وشرّ فيا سعادة العابدين المحسنين.

* ثالثا وقتها: وليلة القدر هي آكدة في العشر الأواخر؛ روى البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي: تخاصما)، فقال: “إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ” وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وفي رواية البخاري «في الوتر من العشر الأواخر من رمضان». أي: في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنها لا تثبت في ليلة واحدة بل تنتقل على الراجح من أقوال العلماء قال شيخ الإسلام: “لَكِنَّ الْوِتْرَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي، فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. وَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى، لِسَابِعَةٍ تَبْقَى، لِخَامِسَةٍ تَبْقَى، لِثَالِثَةٍ تَبْقَى». فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ يَكُونُ ذَلِكَ لَيَالِي الْأَشْفَاعِ. وَتَكُونُ الِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ تَاسِعَةً تَبْقَى، وَلَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَابِعَةً تَبْقَى. وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَهَكَذَا أَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الشَّهْرِ. وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي. كَالتَّارِيخِ الْمَاضِي. وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تَحَرُّوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»” (الفتاوى الكبرى ـ ليلة القدر2/476)، وهي في السبع الأواخر أكثر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ( كما عند البخاري في صحيحه) أن رجالا من أصحاب النبي رأوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي: ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر))( ) وفي رواية لمسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)) وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب أنه قال: (والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها هي ليلة سبع وعشرين) (رواه مسلم). فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ فقال: بالآية التي أخبرنا رسول الله: ((أخبرنا أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها كأنها طسْت حتى ترتفع)) (صححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته 3754).

* رابعا علاماتها: ليلة القدر لها علامات تعرف بها، منها عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((ليلة القدر سمحة، طلقة لا حارة، ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء)) (رواه ابن خزيمة والبزار والطبراني وصححه الألباني). ومنها أن القمر يكون مثل نصف طبق مستدير، كالذي يوضع فيها الطعام ففي صحيح مسلم أن أصحاب الرسول كانوا يتكلمون عن ليلة القدر فقال صلى الله عليه وسلم: “من يذكر حين طلع القمر مثل شق جفنة “. منها كذلك علامة بعد انقضائها: قال صلى الله عليه وسلم: “تطلع شمس صبيحة هذه الليلة لا شعاع لها” )رواه مسلم)، وهناك علامات أخرى لكنها لا تثبت مثل أنه لا تنبح فيها الكلاب، ولا يُرمى فيها بنجم، أو أن ينزل فيها مطر. وقد أخفى الله هذه الليلة في العشر ليجتهد المسلم في العبادة، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة وأخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها، ولا شك أن من اجتهد في العشر كلها فقد أدرك ليلة القدر بلا شك، فاغتنموا هذه الليلة المباركة عباد الله،، وعظموها بالقيام وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار.

* ما يقول من أدركها: فيا أخي الكريم إذا أدركت هذه الليلة فأكثر فيها الدعاء والتضرع إلى رب السماء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟! قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» [رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرطهما وصححه الألباني في المشكاة 2091].

ويستحب في الليالي التي يرجى فيها ليلة القدر الاغتسال والتطيب ولبس الثياب الحسن، فقد روى عن عائشة وعلي وحذيفة بن اليمان أنه رضي الله عنه، «كان يغتسل بين العشاءين كل ليلة» (إسناده ضعيف وبعض رواياته قال فيها ابن عدي إسنادها مقارب) يعني في العشر الأواخر، وقد ورد ذلك عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جميعًا كانوا يفعلون ذلك كأنس بن مالك وتميم الداري وابراهيم النخعي وحماد بن سلمة وثابت البناني وحميد الطويل.

رابعا: آخر ليلة من رمضان: هي ليلة من أعظم الليالي يفغل عنها الناس، ليلة عظيمة يغفر الله فيها لعباده المؤمنين ويعتق فيها رقاب من ارتضى عملهم، وهي ليلة الختم وليلة توزيع الجوائز، وقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أ للية القدر هي؟ قال: لا ولكن العامل انما يوفى أجره عند انقضاء عمله). فاحر ص أخي على اغتنام هذه الليلة المباركة ولا تكن ممن ينهون أعمالهم وقيامهم وصالح أعمالهم بعد ليلة السابع والعشرين !!!

خامسا: الاعتكاف: وإن من آكد السنن في هذه العشر، السنة التي كان يحافظ عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم يتركها حتى مات، سنة الاعتكاف وهو: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله، وهو من السنة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: “وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ “(البقرة: 187) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، واعتكف أزواجه وأصحابه معه وبعده. وفي صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا”. والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله، ويجتهد في تحصيل الثواب والأجر وإدراك ليلة القدر؛ ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والعبادة، ويتجنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا، ولا بأس أن يتحدث قليلاً بحديث مباح مع أهله أو غيرهم.

 قال ابن القيم رحمه الله: “ومقصود الاعتكاف وروحُه عكوفُ القلبِ على الله تعالى، وجمعيَّتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذِكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولى عليه بدلها، ويصير الهم كلّه به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدَلاً عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوَحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم ” (زاد المعاد: جـ2صـ87).

ويحرم على المعتكف الجماع ومقدماته؛ لقوله تعالى: “وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ” (البقرة: 187).

ويمنع عن المعتكف الخروج من المسجد إلا لضرورة.

فمن تيسرت له هذه السنة فلا يحرم نفسه هذه السنة المحمدية، والخلوة الربانية، فإنها بلسمٌ للقلوب، ودواءٌ لآفاتها، فإن لم يتيسر له اعتكاف العشر فليعتكف بعض الأيام، فإن لم يتيسر له فليعتكف ليلة، فمن دخل المسجد قبل المغرب وخرج بعد الفجر كتب له اعتكاف ليلة فإن لم يتيسر له الاعتكاف فليتشبه بالمعتكفين، فيكثر المكث في المسجد وقراءة القرآن، ويشهد صلاة القيام ويقطع علاقته بفضول الدنيا، ويؤجل كل ما يمكن تأجيله من الحاجات والمصالح، وليعش في خلوة بربه، ولو كان في بيته ومتجره وعمله.

تلكم بعضا من الفضائل فمن التوفيق والرشاد ونفاذ البصيرة وسداد الرأي أن يغتنم المسلم هذه الأيام الفاضلة والليالي المباركة بالتزود بالصالحات، والمسابقة إلى الخيرات، والمحافظة على العبادات من صلاة وصيام وقيام وتلاوة قرآن، وصدقة وبر وإحسان، وعطف على الفقراء والأيتام، والإكثار من الاستغفار، وإدامة ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، فإن ذكر الله تعالى يزكي النفوس، ويشرح الصدور، ويورث الطمأنينة في القلوب، كما قال تعالى: “أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” [الرعد:28].

الشهر أوشك على الرحيل بما أودع فيه العباد من أفعال، واللّبيب من ختم شهره بتوبةٍ صادقة بالبعد عن المعاصي والآثام، والمفلس من أغرق نفسه في السيّئات ولقي ربّه وهو على العصيان، والتوبة ليست نقصا، بل هي من أفضل الكمالات ومن أحبّ الحسنات إلى الله، وهو الأصل الذي تصلح عليه الأمور، فأكثر من الاستغفار في ختام شهرك يكن تاجا على حسناتك وماحيا لقبيح زلاّتك، وتذكّر أنّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النّهار، ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسيء اللّيل حتّى تطلع الشمس من مغربها، وإيّاك والتّسويف بالتّوبة؛ فإنّ الموت يأتي بغتة. فاتقوا الله تعالى، وجِدّوا في العمل الصالح في هذه الليالي العشر، وودّعوا شهركم هذا بالإحسان وتلاوة القرآن وبذل الصدقات، وقابلوا نعم الله بالشكر له جل وعلا والامتنان، وانهوا النفوس وازجروها عن مقارفة الهوى والآثام، واستدركوا ما فرّطتم في أول شهركم، وتنافسوا في الدرجات العلى والمنازل العالية، فإنما الأعمال بالخواتيم. وأنيبوا إليه، وأخلصوا له، ولازموا التوبة والاستغفار، واشكروا الله الذي هداكم للإيمان وبلّغكم شهر الصيام وأعانكم على صيامه وقيامه، واغتنموا هذه العشر الأواخر بالاجتهاد في العبادة متأسّين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.

 تأهبوا للعشر بالعزم الصادق على الخير، واجعلوا هممكم مصروفة إلى حراستها لا غير؛ فإنها عشر بالبركات الوافرة قد حُفت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفت، فأعدوا لقدومها عُدة، واسألوا الله فيها التوفيق إلى أن تكملوا العدة، والحذر الحذر من التفريط والإهمال، والتكاسل فيها عن صالح الأعمال. قال تعالى: “وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا” (الإسراء:19).

وفقنا الله للعمل الصالح وتقبل الله صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا..

اللهم وفقنا لاغتنام هذه العشر المباركة.. واجعلنا صام وقام غيمانا واحتسابا..

اللهم اجعلنا ممن أدرك ليلة القدر وقامها إيمانا واحتسابا فنال فضلها..

اللهم اجعلنا ممن غفرت لهم ورحمتهم وأعتقت رقابهم من النار.. آمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M