فن افتعال التهمة بين الافتراء والاجتراء

18 ديسمبر 2016 21:20
بين الكلب والحمار وفرعون وعصيد

هوية بريس – محمد بوقنطار

تقاسمت اللغة العربية مع الدين الإسلامي مسؤولية الاتهام المباشر عن كل ما تعيشه الأمة من ترد وتخلف، وتراجع وتصلف، وهناك المئات من المشاهد التمثيلية التي تقمصها ولعب أدوارها بحرفية واحتراف المناوئون والمتربصون والخصوم من الداخل والخارج، لإلصاق هذه التهمة الثقيلة بِهما في غير عدل ولا سوية، مرتبين بعد هذا التقمص خرجات مترادفة ومتلازمة.

 فمن صائل قائل بتدمير قواعد لغة الضاد، متهكما بتشديدها وتنوينها وصرفها ونحوها، ومن مدافع وداع إلى إحلال اللهجة العامية المحلية مكان الفصحى، مشيرا في تبرير اعتسافه إلى الفصام النكد بين لغة الكتابة ومعهود لغة الكلام وما بينهما من فروق…

 ولسنا هنا في حاجة إلى التفصيل مع الأساليب والوسائل والضلالات والانحرافات التي سيقت بين يدي هذا التخرص والاتهام، وإنما الشأن كل الشأن في التذكير بحقيقة أن هذه اللغة بقيت صامدة حائزة متحوزة لقوتها ومتانتها وتماسكها، وقد ذهبت تلك الأصوات النشاز وصيحاتها في واد سحيق، وربما لم يكن هذا مستغربا ولا حاملا على التعجب ولا مرجوح الاحتمال متى ما كان الاعتقاد في تميّزها وخصوصيتها وصلابتها ومقاومتها للشوائب والعاديات قدحا، هو اعتقاد من جنس ما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة عند كلامه على معهود لسان الأميين: “اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب…”.

ولما كانت العربية من شعائر الدين نال هذا الأخير حظه الوافر من وزن ذاك الاتهام، ذلك أن أولئك المناوئين المتربصين في حقد وشديد بغض، ما فتئوا يسلقون بألسنتهم الأشحة الحداد عرى هذا الدين، ويلصقون به كل مثلبة ونقيصة سلوك، فيرمونه تارة بالإرهاب والتطرف وتصديره ومسِّ الإنسانية بنصبه وعذابه، وتارة أخرى بالجمود والجاهلية التي تحجّر على العقول وتَحُول دون إطلاق القوة الإبداعية الكامنة في رحم الحرية داخل كل إنسان حر حداثي، وهو التحجير الذي تُروى تهمته ولا تُطوى إلا بإرجاع كل مشاكل الأمة وأزماتها إلى أفيونية هذا الدين، الذي أبقانا بعيدين كل البعد عن كل ما وصل إليه جنس الرجل الأبيض من رقي وتقدم واقتحام لعقبة الثورة الصناعية والتكنولوجية التي أوصلته إلى المريخ ومنزلة العرجون القديم…

ولعل السامع والواقف على تفاصيل هذا الاتهام يخيّل إليه أن اللغة العربية لم تزل ولا تزال تعربد في الإدارات والمعاهد والمدارس والجامعات، وتحتكر ترجمة الأدب والفنون والعلوم، فلا تكاد تزاحمها في هذا السطو والاستيعاب شائبة لغة ثانية ولا لهجة عامية محلية، بينما الواقع الذي ليس له دافع أن مشروع التعريب كاد أن يدخل الحالمين بتطبيق جريمته غياهب السجون، وأن أماني ترسيخ الولاء وتكريس مزيّة الانتماء لهذا اللسان العربي المبين، هي أماني قد ترهل حبلها وخِيط كفنها وحُفر قبرها…

واسمع إلى الأديب الأريب الرافعي رحمه الله تعالى وهو يصوّر أسباب هذا الذل وتلك المهانة رابطا إيّاه وإيّاها في ربط مباشر بهذه التبعية العمياء المنيبة والمخبتة للغرب وثقافته ولغته المفروضة علينا بالنار والحديد: “ما ذلت لغة شعب إلا ذل ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة ويركبهم بها ويشعرهم عظمته فيها ويستلحقهم من ناحيتها فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها فأمرهم من بعدها لأمره تبع…”.

ولعله عين الموقف ومثيله مع هذا الدين العظيم نفسه، فقد يخيّل لمصدِّق ومصادِق على صك الاتهام أن أحكام هذا الدين تؤطر القضاء وتصول في أروقة محاكمه، وتحكم الاقتصاد والسياسة والتشريع، وأن العلماء ورثة الأنبياء يضرب لفتاويهم واجتهاداتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر تعظيم سلام واستشراف قبول، وتُساق بين أيديهم وأيدي أوامرهم القوة العمومية لتنفيذها.

ومن أعجب ما هو كائن أن يدّعي المدّعون، ويرمي الرامون بالمسؤولية على كل تخلف وملمح نقيصة أو فساد وإفساد في الأرض على عاتق هذا الدين العظيم ولسانه العربي المبين، وهم من هم؟؟؟

هم الذين أفسدوا العقيدة وسوي المعتقد، وحاربوا كل فضيلة وتصدوا لمكارم الأخلاق، بل حجّروا على أفمام العلماء والدعاة والخطباء والمصلحين، فحاصروا المنابر والمحاريب والصحف والمجلات ذات النفس الإسلامي، وصادروا الكتب وأحرقوها، واتهموا في غير إنصاف مقررات التربية الإسلامية بالمساهمة في ركز النَفَس الإرهابي في نفوس الناشئة، وأفسدوا اللغة وكسّروا وعاءها، وصارت في وجدان شباب الأمة معيارا للبداوة وعلامة على الغباوة، وصدوا الناس عنها بدعوى أن المستقبل للغات الحية الوافدة من بلاد الصقيع، وزاحموها حد الطرد والمحاصرة، واستبدلوا خيرها بالذي هو أدنى، وساقوا الناس من غيرها إلى أي وجهة، حتى إن المرء ليستطيع أن يكسب رهان المضاربة على نجاح اللغة الهندية القبلية، إن فتحت الحكومة الهندية بمنطق مركانتيلي أو استعماري مدارساً لها بالعواصم العربية.

وكانت حجتهم ومسوّغ اقتراحاتهم في كل خرجة، وكرّ اعتداء على جناب هذه اللغة العظيمة، زعمهم وربطهم بين ما تحقق للرجل الأبيض من تفوّق مادي باهر مبهر، وقدرة مواكبة لغته واستيعابها لمستجدات العصر واستيفاء حاجات ما بلغه من ذلك التقدم السالف ذكره، والذي للإشارة بلغه اليهود بلغتهم وبلغه الكوريون واليابانيون والصينيون والروس بلغاتهم المحلية…

بينما عُلِّق ورُبط تخلف العرب وترديهم بمجرد الحلم أو حتى احتمال تجربة تعريب مقرراتهم العلمية، والتي وُئدت في المهد قبل استكمال استهلالها الأول…

فيا ليت شعري من ينبري ليُفهمنا سبب هذا الاستثناء، ويسوِّغ لنا هذا الشذوذ والاستثناء؟؟؟

ولا جرم أن الإقرار بوجود خلل قد أوصلنا إلى ما نعيشه من مأساة واستيطان درك لا يليق بأمة الوسط، هو إقرار لا ينكره منا أحد، بل قد وقع عليه الاتفاق والإجماع في غير صور تَجوُّزِه، وإنما المختلف فيه وعليه واقع في دائرة تعاطي الكثير من المحللين والمفككين لعناصر وأسباب هذه المأساة، من جهة حقيقة مجانبة الكثير منهم إن لم نقل كلّهم لجرعات التجرد والإنصاف، بله الإخلاص إلى قضية الأوطان والإيمان الحقيقي بواجب سلك المقاربة العلاجية لتلك المأساة…

ولا شك أيضا أن إغفال الكثير من الظواهر السلبية والمظاهر الفاسدة في دائرة تقييم علاقة الأسباب بمسبباتها، ووزن حظوظ التأثير وقدر المشاركة الفعلية في مشروع الهدم، وتوصيل مجتمعاتنا الإسلامية لما وصلت إليه من اختلالات، وتوقف نبض حياة، وكف بئيس عن خطوات الأمام المرشدة على مدرج الرقي وسلم التحضر، هو إغفال يطبعه العمد وتحكمه النيات الفاسدة، بدليل أنك تجد من يُرجع اليوم هذا التخلف والتقهقر إلى الدين كقيمة أخلاقية ولغته كقيمة ثانوية، تجده هو الذي يلهث بجسده وروحه وكل جوارحه من أجل إقامة مهرجانات السفه من رقص وغناء وعبث وعري وسفور تتبرأ من تجلياته الجاهلية الأولى، بل ويساهم من دخل وريع شركته وشركائه في إقامة السرادق وحسن ضيافة أهلها وروادها من القدوات المصنوعة، بينما تجده هو نفسه يرفع سبابته معترضا على تمرير مشروع حجم ميزانية البحث العلمي، مطالبا بتبخيسها وحذف أصفار يمين رقمها، وإراحة كاهل ميزانية الشعب السعيد من ثقل كابوسها الجاثم على النفوس المتطلعة للتحرر، والراغبة في الأنس والنشاط في بعده الشعبوي وتجلياته التي نربأ بأنفسنا عن التماهي مع تفاصيلها ومأساة صعود أبطالها للرقص “بالتُبان الحضاري” الذي حظيَ في صفاقة طافحة بالاستشهار المباشر له من بعض قنواتنا الوطنية، والسكوت المريب الذي مارسه أهل الحل والعقد من الذين يقومون مقامنا بالصفة وعبر النيابة والتفويض المتوج بالحصانة القانونية…

يتبع..

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M