قبسات إسلامية عن الأمن الأسري

19 أكتوبر 2021 12:14

هوية بريس- د. مصطفى قرطاح

تمهيد:

تدفع المقارنة بين أحوال الأسر، من حيث قدرتها على مواجهة تحدياتها وتدبير أزماتها؛إلى استخلاص ملاحظة أو نتيجة عامة تتلخص في، تفاوت الأسر تفاوتا كبيرا في قدرتها على تجاوز تلك الأزمات وتخطي تلك التحديات، بأقل الخسائر الممكنة. وعلى سبيل المثال فحسب، نجد أسرا تستوعب الفشل الدراسي لأبنائها وتقدم لهم ما يحتاجون من الدعم حتى يتحقق لهم النجاح، بينما نجد أسرا أخرى يلجأ فيها الابن إلى الهروب من البيت أو إلى الانتحار خوفا من مواجهة أسرته بخبر رسوبه. كما نجد أسرا تحتضن بناتها المطلقات وتدعمهن لاستيعاب وضعهن الجديد، فيما نجد أسراً أخرى ترى في طلاق بناتها معرة تستوجب قدرا كبيرا من التستر، وتنحي فيها باللائمة على المطلقات بشكل تلقائي، وترفض احتضانهن من جديد، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات نفسية واجتماعية ومادية على جميع أفراد الأسرة.

يقف المرء على تلك الملاحظةــــ النتيجة من خلال المعاينة الشخصية والتجربة الذاتية، ثم تأخذ طابعا علميا من خلال الاطلاع على البحوث الاجتماعية المخصصة لرصد كيفية تفاعل الأسر مع أزماتها وتحدياتها، سواء انصبت تلك المقارنة على المستوى المجتمع المغربي، أو اتسعت وامتدت لتشمل مجتمعات دول العالم.

و تدلنا هذه المقارنة على تمايز آخر، أكثر عمقا وأشد أثرا، يعيشه أفراد هذين النموذجين الأسريين. حيث يعيش أفراد أحد النموذجين في حالة من الأمان والاطمئنان النفسيين، قوامهما الشعور بالسند والتضامن الأسري، بينما يعيش أفراد النموذج الثاني حالة من الخوف والاضطراب. وبعبارة أخرى يمكن القول إن النموذج الأسري الأول يوفر لأفراده حالة من الأمن الأسري، بينما يفتقده النموذج الثاني ويحرم أفراده منه.

ولا شك أن وجود الأمن الأسري أو غيابه ينعكس إيجابا أو سلبا على الأسر ثم على المجتمعات والدول والأمم، الأمر الذي يستلزم من الفاعلين التربويين إيلاءه ما يستحق من الجهد العلمي؛ توضيحا لمفهومه، وبيانا لسبل تحصيله وتمثينه، وعرضا لمزاياه على الأسر والمجتمعات، وتنبيها لمخاطر فقدانه عليهما معا.

ولما كان دين الإسلام قد أحاط الأسرة بعنايته؛ ورصد لها من التوجيهات والأحكام ما يقيم أركانها ويضمن استمرارها وثباتها، ويدرأ عنها كل اختلال واقع أو متوقع، كان من الأولوية العلمية والمنهجية التوجه نحو القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته لاقتباس ما ورد فيهم من الإشارات الربانية والنبوية التي تلفت انتباه المطلع عليهما إلى معاني ودلالات الأمن الأسري؛ مبثوثة في القواعد والأحكام الشرعية، وإلى  تمثلاته في الوضعيات الأسرية التي عرضها القرآن الكريم، أو عاشها النبي صلى الله عليه وسلم في أسرته أو نبه المسلمين عليها. و في هذا السياق تأتي هذه المقالة لتقدم بعضا من تلك الإشارات؛ محاولة توضيح مفهوم الأمن الأسري ثم بيان الأسس التصورية الإسلامية التي يقوم عليها.

  1. الأمن الأسري: من المعنى إلى المصطلح

يدل مصطلح الأسرة على جملة من الأفراد تربط بينهم جملة من العلاقات الإنسانية المتينة تجتمع في علاقتي المصاهرة والنسب. وقد امتن الله تعالى بهاتين العلاقتين على عباده، وجعلهما نعمتين دالتين على قدرته وحكمته من جهة، وعلى رأفته ورحمته بخلقه من جهة أخرى، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } [الفرقان: 54]، حيث تتأسس العلاقتان معا (النسب والمصاهرة) على رابطة الزواج، ثم تتفرع عنها علاقات الأبوة والبنوة والأخوة، ثم إلى العمومة والخؤولة.

تبلغ هذه العلاقات من التشابك و القوة والمتانة ما يجعل من  الأسرة ذرعا حصينة، يتحصن وراءها ويحتمي بها كل المنتمين إليها. وهذا هو المعنى الذي تشير إليه المعاجم اللغوية في مادة أسر. فالأسرة “بالضَّمِّ: الذِّرْعُ الحَصينَةُ، وأُسْرَةُ الرِّجُل: الرَّهْطُ الأَدْنَوْنَ وَعَشِيرَتُه؛ سموا كذلك لأَنَّه يتقوَّى بهم. من فعل أسر، والمصدر: الأَسْر: الشدّ بالقيد[1].

ومن مظاهر احتماء الفرد بأسرته أن  يعتمد عليهم فيما يثقل عليه؛ فيتحملون عنه بعضا من ذلك.  ولهذا المعنى حملت الأسرة مصطلح العائلة أيضا. ف” العائلة اسم فاعل بمعنى مفعول، مشتق من العول وهو ما يثقل، والتَّعْوِيلُ: الاعتماد على الغير فيما يثقل…ومنه: العِيَالُ، الواحد عَيِّلٌ لما فيه من الثّقل، وعَالَهُ: تحمّل ثقل مؤنته.  فالعائلة: من يعولهم الشخص، ويضمهم بيته وينفق عليهم[2].

فإذا كان الفرد في أسرته محميا محصنا، يستطيع الاعتماد عليهم فيما يثقل عليه؛ من أعباء مادية، وضغوطات نفسية، وإكراهات اجتماعية، فإنه سيعيش حالة من الطمأنينة والأمان النفسيين، وهو ما يطلق عليه بالأمن الأسري.

وهكذا يمكن تعريف الأمن الأسري بأنه: حال من السكينة وطمأنينة النفس، يعيش في ظلها  أفراد الأسرة وتطبع العلاقات القائمة بينهم، حيث  يزول بينهم الخوف و يأمن كل فرد منهم أذى الآخر.

ولا يبتعد هذا التعريف عما قدمه الدكتور خالد صلاح حنفي محمود، حيث عرف الأمن الأسري بأنه ” شعور أفراد الأسرة بالأمان والاطمئنان والحماية، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأمان، بما يحقق لهم مكانة ودور فيه[3].

 

لكن لماذا كانت هذه التسمية لهذا المسمى؟

من الخوف إلى الأمن

لعل حال الخوف هو الأكثر دلالة على قيمة الأمن والتحسيس بأهميته وفضله، فوجود الخوف يقوي الشعور بالحاجة إلى الأمن. ومع تعدد أنواع الخوف تعددت بالمقابل أنواع الأمن التي يحتاجها الإنسان، إذ لم يبق مفهوم الأمن مقتصرا على مكافحة الجرائم أو مواجهة العنف المسلح أو حراسة حدود البلدان. فمع الخوف من الجوع بسبب انتشار المجاعات برزت الحاجة إلى تحقيق الأمن الغذائي، وظهر الأمن المائي مع كثرة مواسم الجفاف و تمدد ظاهرة التصحر.  ومع انتشار الأوبئة ظهر الأمن الصحي، وأدى انتشار الجرائم الالكترونية إلى ظهور الأمن المعلوماتي، وهكذا…

ومع ارتفاع نسب التفكك الأسري واشتداد حدة آثاره النفسية والاجتماعية، تأكد لدى الباحثين في التخصصات العلمية المهتمة بالأسرة،  أن من أكثر العوامل تأثيرا في ذلك التفكك وارتفاع حدة آثاره، حالة الخوف التي أصبحت تسود داخل كثير من الأسر. وهو خوف متعدد الأبعاد ومتفاوت الأثر، غير أن أسوأه ذلك الخوف الواقع بين أفراد الأسرة، حيث تستبدل حالة الأمان والثقة بينهم بحالة الخوف والشك، ويتراجع الصدق والوضوح لصالح الكذب والتكتم، وينقلب التضامن والائتلاف اختلافا وتخليا.

وهكذا برزت الحاجة إلى تحقيق الأمن الأسري، و ارتفع مستوى الوعي بوجوب العمل على توفير أسبابه وضمان شروطه؛ باعتباره بيئة صحية للتنشئة الاجتماعية السلمية، وسيلة فعالة للوقاية من آفات التفكك الأسري و شرطا للتخفيف من حدة الأزمات التي قد تصيب الأسر .

وقد ازدادت الحاجة إلى هذا الصنف من الأمن مع ازدياد حدة تشابك مظاهر الحياة إلى درجة التعقيد، يضاف إلى ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي؛ التي غدت تروج لبعض النماذج من الحياة الأسرية الشاذة وتدعو إلى تمثلتها والتطبيع معها. فأصبحت القيم الأسرية؛ المستندة إلى الفطرة الإنسانية السليمة والدين الإسلامي، في احتكاك ومواجهة مباشرة مع قيم مناقضة لها، مثل قيم النزعة الفردية، والإباحية الجنسية، وكثرة الاستهلاك والرغبة الجامحة في الحصول على المال والربح السريع، والبحث عن الشهرة والنجومية من أيسر الطرق…

وإسهاما في الجهود العلمية والتربوية القاصدة لتحصين الأسرة المغربية خاصة والمسلمة عامة، و النظر في سبل حمايتها  أقدم هذه القبسات من كتاب الله وسنة رسوله وسيرته ما يعزز أمننا الأسري ثقافة تربية وسلوكا؟

  1. قبسات من أصول الشريعة الإسلامية عن الأمن الأسري

يكفي الأمن الأسري تأصيلا شرعيا لمفهومه ومقوماته أنه يستند إلى الفطرة الإنسانية التي تفضل الأمن على الخوف، وتؤثر الطمأنينة والسكينة على القلق والاضطراب . فالفطرة الإنسانية مستند قوي أقره الشارع الحكيم في

تشريع جملة من المبادئ والأحكام والقيم الشرعية.  ويزداد هذا التأصيل قوة ومتانة عندما يؤكد الخبراء والفاعلون التربويون أهمية الأمن الأسري في ضمان الاستقرار الأسري و تحقيق رعاية وتنشئة سليمة للأبناء، وتحقيق المودة والرحمة بين الزوجين. إذ لما كانت هذه الأمور مصالح شرعية معتبرة فذلك كاف في الدلالة على أصالة الأمن الأسري وقيمته الشرعية باعتباره وسيلة تفضي إلى تحقيق تلك المصالح العظيمة.

ونجد في كتاب الله تعالى جملة من القواعد والأحكام والمواقف الناظمة للحياة الأسرية التي من شأنها أن تعزز الأمن الأسري، نستعرضها وننظر في دلالاتها وسياقاتها.

  • ــــــ قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ} [البقرة: 187]

تُصور هذه الآية العلاقة الزوجية في صورتها المثالية التي يجب أن تكون عليها، حيث اختار الله تعالى للتعبير عنها صورة اللباس بما تحيل عليه من معان عظيمة نشير إليها في العوارض الآتية:

  • نعمة الستر: وقد ذكَّرنا الله تعالى بهذه النعمة فقال سبحانه: ) يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ( [الأعراف: 26]. فكما أن اللباس من الثوب يستر جسد الإنسان وعورته، فكذلك العلاقة الزوجية هي ستر للزوجين معا، فكل واحد منهما يستر الآخر ” كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار”[4].
  • نعمة التجمل: فكما يضفي اللباس على الإنسان جمالا وزينة، كذلك العلاقات الزوجية تجمل وتزين طرفيها، فيتجمل الرجل بزوجته كما تتجمل المرأة بزوجها، ويخفي كل واحد منهما قبائح الآخر ومساوئه ولا يُظْهِرُ منه إلا الجميل، وإليه أشارت الآية الكريمة: { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] وقوله عليه الصلاة والسلام: ” لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر”[5]. وهكذا فنعمة التجمل تضم نعمتي الستر والزينة معا.
  • نعمة الدفء: وإليها أشار قول الله تعالى {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } [النحل: 5] أي ” سخَّرها لكم، وجعل لكم من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس تدفئون بها”[6]. فاستعارة اللباس لتصوير العلاقة الزوجية يثير في النفس معنى الدفء، ولعل أهم دفء تضفيه تلك العلاقة على طرفيها معا هو الدفء المعنوي، حيث يجد كل طرف لدى الطرف الآخر سندا ودعما معنويا يمكنه من مواجهة ضغوطات الحياة وأزماتها.

وجاء نص الآية ليؤكد العدل في تبادل الفضل بين الزوجين، إذ لم تنسب الآية لأحدهما الفضل على الآخر وتجرد الآخر منه، بل جعلته متبادلا بينهما بالعدل والإنصاف، فيعرف كل واحد منهما فضل الآخر عليه، فيكون مدينا بالشكر والعرفان له.

إن هذه المعاني مجتمعة؛ الستر والتجمل والدفء المعنوي والفضل المتبادل، هي من جهة أثر عن الارتباط الوثيق القائم بين الزوجين، و من جهة أخرى هي أسباب لزيادة تمتينه وتوثيقه، كما أنها عوامل  تضفي على الحياة الزوجية خاصة والحياة الأسرية عامة حالا من السكينة والطمأنينة.

  • ـــــ قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23].

فالآية تخبرنا بما قاله آدم وحواء لربهما بعدما عصياه. ووجه الدلالة منها أن كلا من آدم وحواء تحمل مسؤوليته نحو معصيته فاعترف بها، ولم يَنْحُ باللائمة على الآخر  أنه غواه أو غرر به. بل تابا معا إلى الله تعالى، بما يعنيه ذلك من توجه أسري جماعي نحو إصلاح الخطأ بعد ارتكابه.

لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يتلقى آدم وحواء معا تكليف الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] وأن يتعرضا معا لغواية الشيطان: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } [الأعراف: 20 – 22]، وأن يقعا معا في المحظور: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22]، وأن يعملا معا على معالجة آثاره واحتوائها: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } [الأعراف: 22] ( وأن يتلقيا معا عتاب الله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) } [الأعراف: 22] وأن يتوجها معا إلى الله تعالى طلبا لمغفرته ورحمته {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) } [الأعراف: 23، 24]

وقد كان من الممكن أن يكون آدم عليه السلام وحيدا في خوض هذه التجربة، فلا يخلق الله تعالى له زوجه حواء إلا بعد أن تنتهي تلك التجربة ويهبط إلى الأرض. ولكن الله تعالى أرادها أن تكون تجربة أسرية زوجية لا فردية؛ ليس وراء ارتكاب الخطأ فيها أي مبررات مادية كالفقر؛ أو ضيق السكن أو كثرة الأولاد أو ما شابه ذلك. وإنما وراءه النفس البشرية وغواية الشيطان فحسب.  الأمر الذي يشير إلى أن الأصل في معالجة الأخطاء هو محاسبة النفس {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وليس البحث عن المبررات والأعذار الخارجية، أو إلقاء اللوم على الآخرين من داخل الأسرة أو من خارجها .

وستظل هذه التجربة ماثلة أمام قراء القرآن الكريم، تدعوهم للاعتبار، وتحث كل زوجين أو أبوين على مواجهة أخطائهما الزوجية والأسرية بِنَفَسِ تقاسم المسؤولية نحوها، والعمل الجماعي على إصلاحها. وإن جانبا من الدفء الأسري  والسكينة والمودة بين الزوجين لا يظهران إلا عند التعرض للأزمات،  والتعامل الحكيم معها، واشتراك أفراد الأسرة في مواجهتها واحتواء آثارها كما تبين من خلال هذه القصة.

  • موقف خديجة رضي الله عنها من زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي:

توثق كتب الحديث والسير والتاريخ هذا الموقف، وخلاصته أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما كان وحيدا بغار حراء  ” جاءه المَلَكُ فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، قال: ” فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم} [العلق: 2] ” فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: « لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”[7].

يتضح من خلال هذا المشهد شدة الخوف التي تملكت النبي صلى الله عليه وسلم، وشدة الحيرة التي انتابته عند التحقق مما جرى له وتفسيره ، فلم يجد من مأوى يلجأ إليه إلا بيته. وبعد أن استعاد طمأنينته وذهب عنه الروع أخبر أهله بما جرى له من أحداث، وما أوقعت في نفسه من خوف. ولم يكتم عليه الصلاة والسلام عنها شيئا مما جرى له.

وأما زوجه خديجة رضي الله عنها فقد كان منها ما كان، وقد بنت موقفها من الحدث على أساسين اثنين:

  • أولهما: سابق معرفتها بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الحسنة وسيرته الاجتماعية العطرة، وكلها صفات ومزايا لا تصدر إلا عن نفس زكية وعقل راجح. لذلك لم تتهمه بالجنون أو الخرف أو الكذب أو ما شابه ذلك.
  • وثانيهما: معرفتها بالله تعالى وبمجازاته الإحسان بالإحسان، فلن يقابل سبحانه وتعالى إحسان عبده بالخزي والمهانة، بل سيجازيه عليه رفعة وتكريما وعلو مكانة.

وعليه، عملت رضي الله تعالى عنها على طمأنته وتهدئة روعه أولا، ثم تصديقه فيما حكى إليها من خبر.

وهكذا يجب أن تكون وظيفة البيت وأهله عند فجاءة النوازل، المسارعة إلى تهدئة النفوس والتخفيف من روعها، وبث السكينة والطمأنينة فيها، قبل البحث في موضوع النازلة وكيفية مواجهتها.

ويتأسس هذا السلوك على إشاعة الصدق، وتعزيز الثقة المتبادلة وحسن الظن بين أفراد الأسرة، واعتماد التواصل الفعال والحوار فيما بينهم.

  • موقف بيت النبوة من حادثة الإفك:

كانت حادثة الإفك من أقسى الأحداث وأشد المحن التي تعرض لها بيت النبوة بكل أفراده.  فقد أصيبت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للطعن في شرفها وطهارة عرضها، وأصيب معها النبي صلى الله عليه وسلم إصابة بليغة، سواء من جهة علاقته بزوجه وثقته بها، أو من جهة نبوته ورسالته والقيم الإسلامية التي يدعو ّإليها، ويقدم الأسوة الحسنة في الالتزام بها. وأصيب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في علاقته بابنته التي رباها في بيته ثم زوجها لصاحبه، أو في علاقته بصهره ونبيه. كما أصيب المسلمون واهتزت ثقتهم في أنفسهم وفي منظومة القيم الإسلامية التي صاروا يلتزمون بها. وأصيب النساء المسلمات بصفة خاصة وبدرجة أشد،  إذ لو تمكن الطعن من عائشة رضي الله عنها لكان الطعن فيما سواها من النساء أسهل وأيسر، ولوجد الشك والارتياب سبيلا ميسرا للتسلل إلى البيوت وتدمير العلاقة الزوجية لأتفه الأسباب وأدى الشبهات.

وهكذا ندرك أن حادثة الإفك كانت زلزالا نفسيا واجتماعيا هزت المجتمع الإسلامي كله بعد أن اهتز لها بيت النبوة أولا. ولكن آل أمره في النهاية خيرا، وصدق فيه قول الله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: 11].

لقد كان خيرا على كل من تضرر منه، بل تجاوز خيره أولئك ليعم نفعه المسلمين جميعا إلى أن تقوم الساعة، إذا ما أخذوا بالتوجيهات القرآنية والمنهج النبوي في مواجهة القذف الطعن الموجه إلى أعراضهم. وعند الرجوع إلى ما قصته أمنا عائشة رضي الله عنها عن تلك الحادثة يتضح جليا دور الأسرة وأهل البيت في مواجهة آثاره، ابتداء من الزوج محمد صلى الله عليه وسلم وانتهاء بالجارية بريرة، مرورا بصهره أبي بكر الصديق وزوجه، ثم بختنه علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد.

  • أما الزوج، النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عالج الأمر بصبر وتؤدة. إذ إنه عليه الصلاة والسلام لما بلغه ما يتحدث به الناس في حق زوجه عائشة رضي الله عنها لم تتجاوز ردة فعله أن نقصت ملاطفته لها، لكنه ظل يطمئن على حالها فيسأل عنها ويسلم عليها. تقول عائشة رضي الله عنها في ذلك: ّ” فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي، أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّطَفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ؟» ثُمَّ يَنْصَرِفُ”.
  • وأما صهره أبو بكر الصديق وزوجه فقد آويا ابنتهما بعدما لجأت إليهما، وحاولت أمها التهوين عليها من شأن ماقيل في حقها. تقول عائشة رضي الله عنها في ذلك: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْنِي سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ تِيكُمْ» فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوَ لَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟

وحين عمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستشار ة في شأن فراق زوجه عائشة، استشار في ذلك بعض أهل بيته وهم أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب وجاريته بريرة، ممن هم أدرى وأعلم بسيرة عائشة وسريرتها.

  • فَأَمَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا،
  • وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ،
  • ولا يمكن القول بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد هان عليه أمر عائشة رضي الله عنها وفراق النبي e لها، ولكن عليا كان حريصا على مقام النبوة أن لا يمس، وأن لا يجد المنافقون مطعنا يلمزون به سيرة النبي ومقامه. وحيث إن الوحي لم ينزل بعد، ولا يوجد دليل قاطع حاسم على براءة عائشة رضي الله عنها، فقد رأى أن ضرر فراقها أهون من ضرر المساس بالنبي e، ولكنه مع كل ذلك أشار على النبي e بسؤال  جاريته بريرة في شأن سيرة عائشة رضي الله عنها فهي ألصق بها وأدرى بأحوالها فقال: ” وَإِنْ تَسْأَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ” .   وهذا ما فعله النبي e.
  • قَالَتْ عائشة رضي الله عنها : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ، فَقَالَ: «أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟» قَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا، أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.
  • ولم يكتف النبي e بهؤلاء، بل إنه كان يسأل زوجه زينب بنت جحش. والعلة في اختيارها دون غيرها من ازواجه هو ماكان بينها وبين عائشة من شنآن، فلعل ذلك يكون مدعاة لتفصح عما تعلمه مما قد تخفيه عائشة، ولكن هيهات، فقد عصمها الورع عن الافتراء ولم تشهد إلا بما علمت. تقول عائشة رضي الله عنها: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَسْأَلُ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ:  وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ.

لم يكن شأن هذه الاستشارات والسؤالات النبوية إلا كجواب إبراهيم عليه السلام عن سؤال ربه: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]. فقد كان عليه الصلاة والسلام مؤمنا بطهارة زوجه وعفتها، موقنا ببرائتها، ولكنه ظل  يلتمس الطمأنينة التامة على ذلك، فلم يبق أمامه إلا تبرئة الله تعالى لها أو اعترافها بما نسب إليها، وهما دليلان قاطعان إما أن يؤكدا القرائن السابقة أو  يفندانها. لذلك توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة بسؤالها عن الموضوع بشكل صريح مباشر. تقول عائشة رضي الله عنها:    فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ «لَبِثَ» شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» .

المتأمل في كلام النبي عليه الصلاة والسلام يجده يشي بحسن المعالجة التربوية للحدث، فقد قدم البشارة بالتبرئة على الدعوة إلى الاعتراف بالذنب. واستعمل فعل ” أَلَمَّ” الذي يناسب صغائر الذنوب، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]. قال صاحب مختار الصحاح: (ألم) الرجل من (اللمم) وهو صغائر الذنوب … وقيل: (الإلمام) المقاربة من المعصية من غير مواقعة. وقال الأخفش: (اللمم) المتقارب من الذنوب. قلت: قال الأزهري: قال الفراء: إلا اللمم معناه إلا المتقارب من الذنوب الصغيرة[8]. ثم عاد عليه الصلاة والسلام إلى التبشير بالمغفرة عند الاعتراف بالذنب والتوبة منه. كما أنه لم يتحدث عما لحق مقامه من ضرر جراء ما نسب إلى زوجه عائشة، إذ إن ما أصابها قد أصابه كذلك من غير فرق.

لم يكن أما عائشة رضي الله عنها بعدما يئست من حيل البشر إلى أن تتوجه إلى الله تعالى وتستعين بالصبر فقَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الحَدِيثَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ، قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ، قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ الَّذِي يُنْزَلُ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ» فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسِبُوهُ) العَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا.

لا يمكن في هذا الصدد تجاهل سكوت أبي بكر الصديق وزوجه في هذا الموقف، فهو أمر محمود؛ أملاه من جهة مقام النبي e واهتمامه بالأمر الذي ألم به، ومن جهة أخرى رفقهما بابنتهما المكلومة، ولا حاجة إلى إثابتها غما بغم. فهذا السكوت؛ وإن كان لا يعني التصريح بالتبرئة، فإن أفضل بكثير من توجيه اللوم والعتاب. وكثيرا ما تمنى المرء سكوت أحدهم، إذ إن عتابه ولومه لا يزيد الجرح إلا نكأً.

كما لا يمكن تجاهل موقف المرأة الأنصارية التي قدمت لمواساة عائشة رضي الله عنها، إذ عجزت المرأة عن الإدلاء بأية كلمة، لكنها ّأرسلت مواساتها ومشاعرها مع دموعها.  وقد ذكرت عائشة موقفها هذا مشيدة به قائلة: فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي.

خلاصة القول فإن براءة عائشة قد شهد بها الله تعالى وصارت وحيا يتلى إلى يوم القيامة. ولكن قبل ذلك، وخلال شهر كامل؛ من المعاناة النفسية، والضغوط الاجتماعية، والنظرات الشريرة، والهمسات السامة والريبة القاتلة، برز دور أفراد الأسرة في احتواء الموقف والتخفيف من تداعياته وآثاره، كل أتى بما تيسر له، وذلك بحسن الظن وحسن العبارة، والورع، والصمت، و التشجيع على تجاوز الموقف والترغيب في التوبة والإصلاح.  ولنا أن نتخيل ما الذي كان سيحدث لو وقع ما وقع في بيت آخر، أو في مجتمع آخر، أو في زمان آخر.

ونعود إلى الأمن الأسري لنجدد التأكيد على أنه لا يعني أمان الأسر من المشاكل، إذ لو كان الأمر كذلك لكان أولى به بيت النبوة. ولكنه يعني تآزر أفراد هذه الأسر وتضامنهم في مواجهة تلك المشاكل، حيث يقوي بعضهم بعضا ويحمل بعضهم ما ثقل على الآخر، فيتحقق فعلا مفهوم الأسرة ومعنى العائلة كما تقدم بيانه سابقا، ولعلي قد أطلت في مقام يقتضي الإيجاز فأكتفي بهذا القدر والحمد لله رب العالمين.

 

[1]  ـ انظر: تاج العروس من جواهر القاموس 10/51 محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (المتوفى: 1205هـ) مجموعة من المحققين نشر: دار الهداية. و التوقيف على مهمات التعاريف، ص: 50 لزين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (المتوفى: 1031هـ) الناشر: عالم الكتب 38 عبد الخالق ثروت-القاهرة الطبعة: الأولى، 1410هـ-1990م.

[2]  ـ انظر: معجم لغة الفقهاء ص: 299 تحقيق محمد رواس قلعجي – حامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة: الثانية، 1408 هـ – 1988م والمعجم الوسيط: 2/637 تأليف مجمع اللغة العربية بالقاهرة (إبراهيم مصطفى / أحمد الزيات / حامد عبد القادر / محمد النجار)، دار الدعوة.

 

 

[3]  خالد صلاح حنفي محمود، أستاذ أصول التربية المساعد بجامعة الإسكندرية – مصر. الأمن الأسري العربي في ضوء تحديات العصر الرقمي: دراسة تحليلية، ص: 25 ورقة علمية مقدمة ضمن أشغال المؤتمر الدولي الثالث حول  الأمن الأسري الواقع والتحديات من تنظيم المركز الدولي للاستراتيجيات التربوية والأسرية ICEFS   20 – 22  يوليو 2019 – اسطنبول-تركيا.

 

 

 

[4]  ـ تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (5/ 270)

[5]  ـ صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء.

[6] ـ  جامع البيان في تأويل آي القرآن للإمام الطبري: (17/ 167)

 

[7]  ـ صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[8]  ـ مختار الصحاح (ص: 285) لزين الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الحنفي الرازي (المتوفى: 666هـ) المحقق: يوسف الشيخ محمد الناشر: المكتبة العصرية – الدار النموذجية، بيروت – صيدا الطبعة: الخامسة، 1420هـ / 1999م.

 

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M