قبسات من حياتي مع شيخي محمد بن الأمين بوخبزة -رحمه الله-

02 فبراير 2020 14:57

هوية بريس – ذ.فؤاد الدكداكي

الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله،وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد ألح علي أخونا المفضال عادل خزرون بكتابة قبسات من علاقاتي مع شيخنا الهمام البحر العلم فضيلة الشيخ أبي اُويس محمد بوخبزة الحسني -رحمه الله- فاعتذرت له، وأرجأت الكتابة مرات تلو الأخرى، وانا أردد في نفسي: من أنا حتى أكتب عن علاقاتي مع الشيخ أبي أويس -رحمه الله-؟ ولكن لحسن ظن أخينا أبي محمد بي أبى إلا أن ازبُر شيئاً من ذلك، واحكي ما هنالك، فيطلع عليه مطلع فتتحرك همته، أو ربما يقف على جوانب خفية من أخلاق شيخنا رحمه الله، فلم أجد بداً من إجابة طلبته، وتلبية رغبته، فأقول: وبالله التوفيق.
ترجع معرفتي بالشيخ -رحمه الله- إلى سنة 1420ه- 1999م حيث التحقت بمعهد الإمام أبي القاسم الشاطبي بتطوان لدراسة علوم الشريعةً، وكان نشاط الشيخ آنذاك يشمل خطبة الجمعة بمسجد العيون: المسجد الذي خطب فيه حوالي 53 سنة إلى أن تم إصدار القرار الجائر بتوقيفه عن أي نشاط ديني إثر توقيعه على فتوى تكفير من يتحالف مع الكفار ضد المسلمين. كانت طريقة الشيخ في الخطابة بسيطة وعميقة، يتناول موضوعا معينا ويستحضر آيات وأحاديث متعلقة بالباب ثم يتناولها بأسلوبه الخاص في وقت وجيز، فكانت تجمع بين العمق العلمي، واقتفاء الهدي النبوي في الخطابة. كما كانت له -رحمه الله- دروس خاصة مع طلبة معهده الشاطبي، ودرس عام بمسجد العيون، وأثناء موسم رمضان كان يخصص حصتين في الأسبوع للدرس العام بمعهد الشاطبي، وكان هذا الدرس يستهويني كثيراً وذلك لبساطة أسلوب الشيخ في توضيح المعاني سواء تناول بالشرح التفسير، أو الحديث، أو السيرة او الفقه… وكانت هذه الدروس تختم بطرح الأسئلة، ويمكن القول: إن أحب لحظة إلي وإلى الحاضرين كانت هي فترة الإجابة على الأسئلة حيث كانت أجوبة الشيخ شافية كافية ممزوجة بخفة ظل شيخنا رحمه الله.
وفي هذه المرحلة بدأت أتعرف على مبادئ العقيدة الصحيحة، ووجوب ا تباع الدليل، وبدأت أسمع عن رموز الدعوة السلفية، وفي مقدمتهم الإمام الألباني رحمه الله، أذكر يوما أن أحد أساتذتنا دخل علينا مهموما فقال لنا بصوت حزين: الألباني رحمه الله. فخيم الحزن على جميع الطلبة الذين كانوا يعرفون هذا الإمام، وعلت الاصوات بالترجيع والدعاء للشيخ الألباني رحمه الله. وكانت هذه فرصة لأتعرف أكثر على الشيخ الألباني رحمه الله من خلال سماع أخباره وقراءة كتبه. حضيت بشرف خاص أثناء درس التفسير مع الشيخ، وذلك أني كنت -في الغالب- أفتح على الشيخ إذا أرتج عليه، أو غاب عنه النص عند الاستدلال، ولا يتم هذا إلا بجلوسي مباشرة أمام الشيخ ، وحضور الذهن اثناء الحصة كلها، ذلك ان الشيخ في أي لحظة يمكن أن يقول: أكمل الأية، ما هو دليل كذا؟ فينبغي ان اكون يقظا فطناً في اي لحظة. وبحكم أن الشيخ لم يكن يدرس الأقسام الأولى فإني كنت أنتهز الفرصة أثناء الفراغ وأحضر دروس الشيخ مع الأقسام المتقدمة، ولما أدركت الأقسام التي يدرسها الشيخ ازدادت بهجتي وعلت همتي فكانت حصص الشيخ حافلة بالعطاء، فكتب الله لي في هذه المرحلة أن درست على الشيخ التفسير ومعظم بلوغ المرام، وبعض الأبواب من صحيح البخاري، والشذرات الذهبية، والموطأ، وفصولا في تاريخ المغرب، ودروسا في الثقافة الإسلامية، علاوة على المثافنة والمناقشة في كل فن. وقد توطدت علاقتي بالشيخ فكنت أحضر معه لقاءات الجمعة، وهي سنة دأب عليها الشيخ منذ زمن؛ حيث يفتح بيته بعد عصر الجمعة للضيوف وطلاب العلم، فكانت مناسبة هامة للأطلاع على مكتبة الشيخ الحافلة، والنهل من معينها، كما أن هذه اللقاءات كانت فرصة للتعرف على الطلبة الوافدين والاستمتاع بالمناقشات العلمية المختلفة خاصة ما يتعلق منها بالثرات الإسلامي. ولا يفوتني هنا أن اسجل كرم الشيخ – رحمه الله- فهو حاتم عصره، لم يكن يبخل على ظيوفه طوال السنوات، بل كان يسهر على خدمتهم و اطعامهم بدون ملل، وكان احيانا يكلف بعض الطلبة المقربين بتجهيز الشاي وتقديم الحلوى عند غياب ربة البيت، ولا تسئل عن تواضع الشيخ وهو يخدم ظيوفه ويمازحهم ويجودعليهم بما يملك من علم ومال وحنان، لم يقف كرم الشيخ على إطعام الطعام فقط، بل تعداه إلى توزيع النقود على الطلبة وشراء الكتب لهم وإهدائهم النسخ المكررة. وقد حضيت بحصتي من هذا النصيب فقد كنت أشتري الكتب بالدَين من المكتبة الأثرية فأفاجأ احيانا بأنه سدد الدَين. ولا شك أن جوده هذا شمل غيري وقد شاهدت شيئا من ذلك مع بعض زملائي. والمقصود أن تعامل الشيخ مع طلابه هي معاملة نادرة لا كلفة فيها أبدا ، بل كان يردد قول بعض الامراء”لم يبق من متع الدنيا إلا رفيق تطرح مؤونة التكلف عنده”. ولما توليت الخطابة في مسجد أبي بكر ببوعنان -تطوان- وكان ذلك سنة 1424-2003. وعلم شيخنا بتكليفي بالخطابة هناك، كان يطلع إلى بوعنان ليصلي معي الجمعة، وكنت كلما انتهيت من الخطبة والصلاة، إلا قمت عنده وقبلت رأسه ثم بدأ يسرد علي الملاحظات إما حديثية أو نحوية، أو لغوية، أو منهجية، وكانت ملاحظاته تزيدني حرصا على عدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى، وكون لدي قاعدة منهجية في عدم الإستدلال بالضعيف، ولازلت أحرص على هاته التوجيهات، وإن صدر مني شيء فهو زلة لسان، وقد دون الشيخ شيئا من هذا في بعض كتبه،ومما ورد في ثناء الشيخ على خطبي قوله:
فـــــؤادي ســود عـينـيـه … أصـابـتـنـي بـوســـواس
خــطــيـب لســـت أنـســـاه…يجــيد الوعــظ لـلـنـــاس

وعادة ما كان شيخنا يناديني بفؤادي، بياء النسبة، كان الشيخ -رحمه الله- يزورني بين الفينة والأخرى في بوعنان، فكان يأتي صباحا ثم يظل معي هناك إلى المساء ثم يعود إلى بيته، خلال هاته الزيارات كنت أسرد عليه كتب الأدب والمسامرات كالإمتاع والمؤانسة ﻻبي حيان التوحيدي،والجراب لشيخنا -رحمه الله-. أذكر يوما أنه زارني وكنت حينها مسافرا، فلم يجد إلا بعض الطلاب الذين كنت أدرسهم في مسجد أبي بكر الصديق فاستقبلوه كالعادة ، دخل مكتبتي المتواضعة، فبدأ يطالع، ثم أخذ قلما وكتب في الصفحة الأولى من كتاب “السيرة النبوية الصحيحة” ﻻكرم ضياء العمري، هذه الأبيات التي تدل على تواضع الشيخ ومحبته لطلابه، يقول:

زرت فـــؤادي فـلــم أجـده… ياحسـرتـي مـن اليـم وجـدي
ســألـت عـنه فقـيـل ســافر…فخـــاب سـعيي إليـه وحـدي
ولــم أجـد راحـتي وأنسـي…عــنـد ســـواه فـيـالـوعـــــدي
عسـاك يـا دكـدكـي تريـنـي…مـن سحـر عينـيك بـعـد صـد.

وللشيخ أبيات أخرى من هذا القبيل.
وبعد: فهذه نبذة يسيرة عن علاقتي مع الشيخ، ولم تنقطع زيارتي له إلى أن توفاه الله، ومن عجائب القدر أن آخر زيارة لشيخي في بيته إصطحبت معي زوجتيَّ وأولادي وكان الشيخ معافى سليما وودعته ولم يخطر ببالي أنها آخر مرة سيكلمني فيها الشيخ، فقد عدته لما كان في غرفة الإنعاش وأخبرتني الممرضة التي كانت ملازمة له أنه يسمعني ويفهمني ولكن لا يستطيع أن يجيب ولا أن يتحرك فذكرت له اسمي ودعوت معه وخرجت وقد غمرني إحساس بأن الشيخ سيفارقنا إلى دار البقاء.
وفي صبيحة يوم الخميس 4 جمادى الثانية 1441هـ لبى نداء ربه ووقع الخبر على الجميع كالصاعقة فإنا لله وإنا إليه راجعون.
دخلت عليه يوم الجمعه صباحا رفقة الشيخ أبي شعبة زغير المراكشي والشيخ عادل خزرون وقبلناه بين عينيه ودعونا معه وخرجنا والألم يعصر أفئدتنا ولكن نقول: (لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل). رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجعله مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
آمين آمين آمين.
كتبه: فؤاد الدكداكي في ليلة الأحد 7 جمادى الثانية 1441هـ.

آخر اﻷخبار
3 تعليقات
  1. و الله العظيم أبكتني قراءة هذه السطور . اللهم ارحم شيخنا بوخبزة رحمة واسعة و احشره مع النبيئين و الصديقين و الشهذاء و الصالحين .

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M