قناديل قرآنية.. فاتحة الكتاب وأم الكتاب

24 ديسمبر 2018 17:56
قناديل قرآنية.. فاتحة الكتاب وأم الكتاب

هوية بريس – دة. صفية الودغيري

إنَّه لما كانت المعاني ذات مبانٍ لها أسماء وصفات، وكانت المعاني كما قال العز بن عبد السلام جواهِرا، وكانت الألفاظ أصدافها، وكانت الحِكَم معادنا والقلوب أهدافها، وجَب على من فتحت اليقظة عين بصيرته، وجَلَّت الموعظة مرآة سريرته، أن يتَّبِع من أجَلِّ الكلام معانيه، ومن الحِكَم ما يبلغ به أمانيه، ولا يقنع من المعدِن بدون كنزِه، ولا من اللَّفظ إلا بفهم رمزه..
وإنِّي رأيت فيما أراني وبصَّرني به الله، أن أقف وقفة تدبر مع فاتحة الكتاب، وأتناول بعضا من لطائفها، وأنتفع من أحسن جوامع أسمائها، وما ذاك إلا لعِزِّ محلِّها، مما يحتار كثيرٌ عن حلِّ أسرارها، وإن قصرت همته عن ذاك وجب عليه أن لا يقصر في تتبُّع الأخبار المشهورة في ذكر فضائلها، وما جاء في الآثار المأثورة عن جميل صفاتها وتعدد أسمائها، مما يغني عن ذكرها وتكرارها في هذا المحلِّ المقصود بإدراك غايات أخرى، فقد اختلفت ثمارها وتنوعت أزهارها أمام من يروم من أهل الفضل والعلم أن يحظى بشرف منزلتها، وأن يجني ما شاء من طيباتها، ويقطف ما لذ وطاب من خيراتها، ويتنعَّم قدر ما شاء من فضائلها..
وقد بلغني من اطلاعي على مجموعة طيبة من التفاسيرما بلغني من عِظَم فوائدها، وعلو شأنها وقدرها، ما يدعو للتدبر في آياتها، وتتبُّع الأقوال الصادرة في شأنها، ولكنني أحببت أن أوثر نفسي والقارئ ببعض لطائفها اختصارا، وأكتفي برشف قطرات عذبة من معين رحيقها، وأشرح ما انشرح له صدري، وسنح له انفتاح قريحتي ومالت إليه ذائقتي، وبلغ إليه مبلغ علمي ومرتقى إدراكي، القاصر عن جمع كل ما حوته أصدافها..
فكانت لي وقفة أطلت فيها المكوث أمام تسميتها بـفاتحة الكتاب، وقد علمت فيما علمت أن حلُّ رموز الأسماء هي مفاتيح لما أُغْلِق من كنوز معانيها، وهذه التسمية لوحدها تستحق النظر والتأمل لسبر أغوارها، لأنها تشير إلى المقام الأشرف والغاية الأسمى للبدء بتلاوتها، وتكرار قراءتها في الصلوات المفروضة وغير المفروضة، وما ثبت وصحَّ من التحصُّن بحصنها وحرزها، والتَّرقية والاستشفاء بها..
ولأن النتائج الطيبة تلي ما قبلها من البدايات الطيبة، والتي لا تظهر إلا بالنظر في المقدمات، كما أن مسك الختام والنهايات يلي مسك التقديم والابتداء، فمن استقامت معرفته لفاتحة الكتاب، استقامت معرفته لما يليها من السور والآيات، ومن صدق في إقباله عليها بكلِّه، وخصَّها بالقراءة المتأنية تدبرا في معانيها، وعلما ومعرفة بمكنونها، وتفسيرا وشرحا لآياتها، وتفقَّه في مبانيها ومضامينها، واستشعر ما يوحيه كل حرف من حروف آيها، وخشعت حواسه رهبة ورغبة عند قيامه بها في كل صلاة، وبعد كل تكبير تعبُّدا بتلاوتها وتكرارها..
ومن صدق في كل ذاك، وكان هذا حاله معها وإيثاره لها، أطلعه الله على ما خفِي من حقائقها، فمن بني أساسه على تقوى الله ورضوانه، ثبت على العلم والعمل به، وكان حصاده من ثمر زرعه، وصدق في حقه وحاله قول الحق سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)..) سورة العنكبوت .
وهذا جزاء المجاهدة بالعلم والعمل بما يعلم من فاتحة الكتاب، وما وُفِّق إليه من الفقه بما يليها من السور والآيات، فالجزاء الحسن والثواب الأوفى من جنس القول الحسن والعمل الطيب والصالح، والهداية إنما هي مواهب الجليل يؤتيها من اصطفاهم من عباده، ومن اختارهم من الصادقين المخلصين ..
فإن أدب السلوك يبدأ من هذه المجالس القرآنية، والقيام بواجبها يبدأ من لزوم التدبر في شأنها، ووظائف التفسير هذه غاياتها وهذه مقاصدها، تبث هذا البدن قوة ونشاطا غير معهود إلا لدى من تقدم في هذه المجالس وتنافس عليها، وملك الروح بملاك الإحسان، فتحركت مع الجسد، واتَّحدا معا على التعاون والعمل، والاستسلام والخضوع والإذعان، وتسخير الأعضاء والحواس، وإحاطتها بالمراقبة والاحتراز، ومباشرة وظائف السلوك، وغايات العبودية، وما استخلفها الله عليه من حفظ الأمانات والوفاء بالعهود والمواثيق، وتطبيق الأحكام والأوامر، وهذا المعنى خفِيٌّ لا يظهر إلا لمن كان ذا عقل رشيد وذهن حصيف، وقلب ذكي بصير، يرى ما لا يراه غيره ويعي بعقله ما لا يعيه غيره ممن استثقل عليه الفهم والاستيعاب، فرضي من الغنيمة بالإياب ..
والبدء يكون بالنظر في شرح تسمية “فاتحة الكتاب” بالاطلاع على المعلوم في لغة العرب: ففَاتِحَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفَتْحِ وَهُوَ إِزَالَةُ حَاجِزٍ عَنْ مَكَانٍ مَقْصُودٍ وَلِوَجْهٍ فَصِيغَتُهَا تَقْتَضِي أَنَّ مَوْصُوفَهَا شَيْءٌ يُزِيلُ حَاجِزًا، وَلَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ بَلْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى أَوَّلِ الشَّيْءِ تَشْبِيهًا لِلْأَوَّلِ بِالْفَاتِحِ لِأَنَّ الْفَاتِحَ لِلْبَابِ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ.. “التحرير والتنوير” 1/11.
وذلك بادٍ لمن له أدنى ذوق ومعرفة باللغة وأسرارها، وأن استعمال هذه الصِّفة هي ذات أسرار عجيبة، فقد فتح اللَّهُ بها على عبادته الأبواب المغلقة، وأنار بمشارق أنوارها وشموس حقائقها بصيرتهم ، وعَلَّمَهم بما أفاض عليهم من فوائدها ومكنون نفائسها، فتحَقَّقت فيهم حقيقة الاهتداء، وألزمتهم اليقين وصِحَّة الاعتقاد، وأوجبت عليهم التصديق بما هداهم إليه من التنزيل وأَرشدهم إليه..
وفتح الله بها الآذان كي تسمع سَماعَ تَدبُّرٍ وتفَكُّرٍ، وتعي وتعقِل عن الله عزَّ وجل، فتنفك عنها الأقفال الصَّدِئة، وتنفتح أبواب قلوبها المنغلقة، وتنشرح بها صدورها المعتمة، وتفهم بها العقول بيان الحقِّ في محلِّ التصريح به، وتبصر بها الأعين ولا تعمى عن شروق أنوارها، ولا تغفل عن آيات الله والعمل بأدلتها وبراهينها، ولا تتخلَّى عما ينفَعُها وينفع الجوارح والحواس من العمل بها، فتطبِّق نداء الإيمان، وتستقيم على الطريقة المثلى في النية والقصد، وتتحقَّق فيها حقيقة المعرفة، فتلتزم بعد المعرفة بعمل الجوارح، والخضوع للأحكام في العبادات والمعاملات، والأقوال والأفعال..
“فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إِمَّا عُلُومٌ تُقْصَدُ مَعْرِفَتُهَا وَإِمَّا أَحْكَامٌ يُقْصَدُ مِنْهَا الْعَمَلُ بِهَا، فَالْعُلُومُ كَالتَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوءَاتِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ وَالْقِصَصِ، وَالْأَحْكَامُ إِمَّا عَمَلُ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الْعِبَادَاتُ وَالْمُعَامَلَاتُ، وَإِمَّا عَمَلُ الْقُلُوبِ أَيِ الْعُقُولِ وَهُوَ تَهْذِيبُ الْأَخْلَاقِ وَآدَابُ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا مَعَانِي الْفَاتِحَةِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ” التحرير والتنوير” 1/ 134
وهذا المعنى المقصود من فَتْحِها الْكِتَاب، والغاية من أمر اللَّه رسوله أن يجعلها أوَّل ما يُقْرَأ في تلاوتِه، وأنها جُعِلَت أَوَّلَ القرآن لمن يريد أن يقرأه..
وهذا المعنى المقصود كذلك من تخصيص تسميتها “بأمِّ القرآن وَأمِّ الْكِتَاب” قال محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ في باب: “ما جاء في فاتحة الكتاب”: “وسمّيت أمّ الكتاب أنّه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصّلاة” صحيح البخاري:6/17 .
وقال أبو عبيدة في “مجاز القرآن”: “ولسور القرآن أسماء: فمن ذلك أن «الحمد لله» تسمّى «أم الكتاب»، لأنه يبدأ بها فى أول القرآن وتعاد قراءتها، فيقرأ بها فى كل ركعة قبل السورة، ولها اسم آخر يقال لها: فاتحة الكتاب لأنه يفتتح بها فى المصاحف فتكتب قبل القرآن، ويفتتح بقراءتها فى كل ركعة قبل قراءة ما يقرأ به من السور فى كل ركعة” 1/5 ـ6.
وقال محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره ” التحرير والتنوير” 1/ 133: وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أُمَّ الْقُرْآنِ أَنَّ الْأُمَّ يُطْلَقُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ وَمَنْشَئِهِ،
وَقَدْ ذَكَرُوا لِتَسْمِيَةِ الْفَاتِحَةِ أُمَّ الْقُرْآنِ وُجُوهًا ثَلَاثَةً:
أَحُدُهَا: أَنَّهَا مَبْدَؤُهُ وَمُفْتَتَحُهُ فَكَأَنَّهَا أَصْلُهُ وَمَنْشَؤُهُ، يَعْنِي أَنَّ افْتِتَاحَهُ الَّذِي هُوَ وُجُودُ أَوَّلِ أَجزَاء الْقُرْآن قَدْ ظَهَرَ فِيهَا فَجُعِلَتْ كَالْأُمِّ لِلْوَلَدِ فِي أَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَنْشَأُ فَيَكُونُ أُمُّ الْقُرْآنِ تَشْبِيهًا بِالْأُمِّ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْوَلَدِ لِمُشَابَهَتِهَا بِالْمَنْشَأِ مِنْ حَيْثُ ابْتِدَاءِ الظُّهُورِ وَالْوُجُودِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ مُحْتَوَيَاتُهَا عَلَى أَنْوَاعِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ ثَنَاءً جَامِعًا لِوَصْفِهِ بِجَمِيعِ المحامد وتنزيهه عَن جَمِيعِ النَّقَائِصِ، وَلِإِثْبَاتِ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنْ قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ: صِراطَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهَا، فَهَذِهِ هِيَ أَنْوَاعُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَغَيْرُهَا تَكْمِلَاتٌ لَهَا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْقُرْآنِ إِبْلَاغُ مَقَاصِدِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَلَمَّا تَوَقَّفَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْآمِرِ وَأَنَّهُ اللَّهُ الْوَاجِبُ وُجُودُهُ خَالِقُ الْخَلْقِ لَزِمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الصِّفَاتِ، وَلَمَّا تَوَقَّفَ تَمَامُ الِامْتِثَالِ عَلَى الرَّجَاءِ فِي الثَّوَابِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْعِقَابِ لَزِمَ تَحَقُّقُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالْفَاتِحَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى هَاتِهِ الْأَنْوَاعِ..
فَإِنَّ قَوْلَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمِ الدِّينِ حَمْدٌ وَثَنَاءٌ، وَقَوْلَهُ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَى قَوْلِهِ: الْمُسْتَقِيمَ مِنْ نَوْعِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَوْلَهُ: صِراطَ الَّذِينَ إِلَى آخِرِهَا مِنْ نَوْعِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ أَنَّ ذِكْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ والضَّالِّينَ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى نَوْعِ قَصَصِ الْقُرْآنِ ..
الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَشْتَمِلُ مَعَانِيَهَا عَلَى جُمْلَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ مِنَ الْحِكَمِ النَّظَرِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ..
وفي الختام أقول : لابد أن تملك الإرادة حتى لا يحجب عنك العلم والمعرفة بالتفسير، وتجعل الطلب منه سبحانه بالتوفيق، ثم يأتي الطلب بعد ذلك منك بالتصديق والإخلاص في الإقبال عليه، فالكل به وبفضله، والبعض منك إن أنت داومت عليه واستقمت على منهاجه القويم، وقويت ضعفك وضعف بعضك بكلِّك، واستجمعت قوة إيمانك، حينها يكشف لك من فيض عطائه، وترى ذكره لك وحبه لك يسعى نوره بين يديه ومن حولك، وملك يمينك يقربه منك على قدر قربك منه والاقتراب منه بطاعته ولزوم طرق بابه..
وهذه المراتب لن تصل إلى واحدة منها، حتى تلجم نفسك وتحكم جوارحك، وكل مرتبة من مراتبها لا تصلها إلا عن طريق معلوم وسلوك مخصوص، وهي رزق مقسوم، ملاكه التوبة وتمكينه التقوى بتمام شروطها وأداء حقوقها..

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M