متى تستقل الجلابة من احتلال الـ”كوستيم”؟

07 سبتمبر 2020 15:03
متى تستقل الجلابة من احتلال الـ"كوستيم"؟

هوية بريس – ذ.إدريس كرم*

نداء إلى الحكومة

من المعلوم أن الزي واللغة، والمعمار، وأسلوب الطعام، علامات حضارية مميزة للشعوب؛ وتصفح القواميس يحيل الرائي إلى أقوام الأرض وشعوبها، ومعلوم أن تلك المناشط تترجم إلى أعمال إنتاجية، تؤدي إلى صناعات تضمن أقوات، وتنقل خبرات، وتطور إبداعات تكون مصادر رزق، وجلب أموال للبلد من خلال التبادل التجاري، وهو ما كان مزدهرا قبل الغزو الاستعماري لبلادنا في القرن الماضي، حيث حرص على ترويج بضائعه، بتعريض الصناعات الوطنية للإفلاس، وتحويل المقاوم منها إلى مقتنيات متحفية بعيدة عن الحياة، مما يهددها بالانقراض، وهو ما ينطبق على الزي الوطني خاصة، وباقي رموز السيادة الحضارية عامة، مما يجعلنا نرفع النداء، بوجوب المطالبة بالاستقلال الحضاري، خاصة في ظل حكومة منتخبة، ولاؤها للمصوتين، وليس للمحتلين، فهل ستلتفت الحكومة لهذا المطلب المعبر عن استقلال البلد، على الأقل تضامنا مع ملك البلاد، الذي ينفرد بالجهاد على هذه الواجهة، متضامنا مع ممارسات الأمة، وصمودها في وجه الغزو الهوياتي، الذي يقاوم منذ مائة عام؟

عندما يصبح الزي الوطني عبئا على ممثلي الأمة

لاشك أن الجميع يرى يوم افتتاح الدورة التشريعية في أكتوبر كل عام كيف يتسابق السادة البرلمانيون في طي سلاهيمهم وإخفاء طرابيشهم وكأنهم يتخلصون من هم ثقيل وواجب كريه، كما يذكرون اليوم الذي رفض فيه فريق نيابي ارتداء اللباس الوطني في افتتاح البرلمان فمنعوا بأمر من الملك الحسن الثاني رحمه الله من دخول القاعة معتبرا إياهم غير ممثلين لمن انتخبهم، وبغض النظر عن أسباب ذلك السلوك، فإن ما يهمنا منه هو الجانب الحضاري.
إن حديثنا عن الزي والمعمار، وأسلوب الحياة ونمط التربية هي حضارة وهوية جاء الغزاة ليغيروها بإحلال حضارتهم مكانها لضمان استيلائهم على الأرض والناس، يقول أغيستين بيرنارد: “إذا كانت الحضارة الرومانية بادت في شمال إفريقيا، فلأنها بقيت محنطة في الصحراء والمغرب البربري، الحضارة الفرنسية ستندثر بدورها إذا لم يعمم السلام من سرت إلى المحيط، كما ساد من قبل من المتوسط إلى السودان، الغزو الذي نريده ليس شرابا لفتح الشهية، نريده من يوم لآخر، بعد أو قرب، بل حرب ترجيح سلطتنا بالمغرب، باعتباره هاجس أمننا” (إفريقيا الفرنسية 1909 ص:10).
إما “ادمون دوتي” فيقول في موضوع بعنوان: “نظرة عن المغرب وإسلام المغاربة” قدمه في ندوة نظمتها مدرسة اللغات الشرقية بباريس في ماي 1909م: “أريد أن أبحث معكم الأسباب المحددة لتعصب المغاربة، الذي يطرح مزيدا من الحسد لكل تأثير لحضارتنا ببلادهم.. ولا يمكن أن نفهم تلك الأحاسيس التي يطرحها الشعب المغربي، إذا لم نبحث ذلك في أصوله، ليس فقط في المعتقدات الدينية الإسلامية، بل أيضا في المعتقدات العتيقة، الثاوية في روح الشعب، المتمثلة في الفلكلور والآثار” (ص:129 إفريقيا الفرنسية 1909).
ترى هل سنرى من حكومتنا اهتماما بما اهتم به الغزاة، من أجل توطين حضارتهم، ونمط عيشهم بالحديد والنار، والمدرسة والمستوصف، وشراء الذمم؟
وعليه يكون استقلال المغرب جغرافيا أو اقتصاديا ليس إلا جزءا من كل، ذلك أن الاستقلال الحضاري هو الأهم، باعتبار أن الحضارة هي التي تعطي الشخصية الوطنية، والهوية الثقافية، التي انتبه الدستور الجديد لها، فحددها، مما يستوجب ترجمتها في تطبيقات على المستوى الرسمي، على الأقل أسوة بعاهل البلاد، في التزامه بالزي الوطني، والمنزع الديني، والبيان اللغوي، حتى لا يزعم الأدعياء بالقول بأن ذلك شكل من أشكال الفلكلور.
فلا معنى أن يحدد الدستور اللغات الوطنية، ونجد الإدارة المناط بها خدمة أصحابها، يستنكف العاملون بها استعمالها، أو يستعملونها باستخفاف، أو يتفكهون بعدم الإلمام بها، أو غير ذلك من الأعذار المسوغة لإدارة دواليب الدولة بلغة المستعمر، في تحد سافر لدماء الشهداء، ونكاية بالمواطنين الأحياء الذين يتحملون عجرهم وبجرهم، محققين مقولة: “اجنان ليهودي، الماكلا فيه، واللعنة عليه”، فلا أقل من أن نفعل ما فعل الغزاة بنا لتثبيت اللحمة بين مكونات شعبنا وجعل الإدارة بحق إدارة مغربية وليس أجنبية بحماية مغربية.

سبب عداء المغاربة للإدارة

إن معضلة المصداقية المنزوعة عن الإدارة المغربية يرجع أساسها إلى كون المغاربة لا يعتبرونها إدارتهم، لأنها نتاج فكر إقصائي عنصري استئصالي، عامل المغاربة باحتقار وتجاوز، لأن أصحابه كانوا “لا يعتقدون أن هناك وطنية مغربية، إلا بقدر ما يقال بأن هناك وطنية أوربية، إذ ليس هناك بزعمهم شعب مغربي، بل هناك شعوب مغربية على صلة بين مختلف الجهات” (لويس جنتي، في كتاب “بعثة لويس جنتي للمغرب 1908م” ص:65)، فالمغرب في رأيهم “ليس إمبراطورية، بل مجرد تعبير جغرافي” (دفاتر كولنيالية 1889م، هنري ماجير ص:23، وأرنيست فالو في la solution francaise de la question du maroc) هذا الأخير الذي قام بعدة رحلات للمغرب كمراسل صحفي ثم كضابط بين 1903 و1912م.
لكن ما حير الغزاة هو المقاومة الشرسة التي فرضت تحويل الغزو المباشر إلى تهدئة تحت السيادة المغربية، مهما كان الشكل الذي تمت عليه، ولذلك قالوا بأن المغرب الأقصى لم ينقد للحضارة الأوربية بيسر مثل الجزائر وتونس بل بقي حصنا قويا للحضارة الإسلامية، يدافع عنها في باستماتة متفردة” (أرنيست فالو، ص:7، مرجع سابق).
ولذلك عندما نطالب من الحكومة تحرير مظاهر الحضارة المغربية من شوائب الغزو الحضاري الأوربي الاستعماري على المستوى الرسمي فإنما نطلب فقط الملاءمة بين الواقع المعيش من قبل الأمة والانفلات الاستيلابى الممارس من قبل النخبة الحاكمة التي جعلت نفسها أداة حماية للمرفوض شعبيا ووطنيا على مستوى الملبوس والمحسوس، والمفروش والمسكون، والمطعوم والمعلوم من الدين بالضرورة، هذا المحدد الأساس في العلاقات الاجتماعية، والبنيات المعرفية، والمحددات القيمية المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، الذي يعتبر جامع الأمة وموحدها، مما فرض على الغزاة وبرادينهم، الحامين لمصالحهم بعد إنهاء تسلطهم، منذ أزيد من خمسين سنة، العمل على إفراغ ذلك الرباط من محتواه، بالحديث عن مطلق الدين، ومطلق الإيمان، لدرجة جعلوا “ماركس” و”أنجلز” و”روزا” و”ماو” و”مكيافيلي” و”ستيوارت ميل” و”سان سيمون” و”روسو” و”سارتر” و”سيمون دوبفوار”، طلبة أمام الإمام مالك، ومريدين للجنيد، وحملة تسابيح لترديد أوراد المتصوفة، ومتعلقين بأهداب إمارة المؤمنين في بيعة مكشوفة الأهداف، بعدما فشلت أطاريح الصراع، وردمت البؤر الثورية، وانشغل المناضلون بأكل “كعب غزال”، و”لبريوات امعمرين”، وشرب الشاي المعطر بروح الزهر، في محبة للبرجوازية الرثة و”الكومبرادور” مستغلي عمل الفلاحين والكادحين، ناسين بأنهم مطالبون بإعطاء الحساب على ما جروا على البلاد والعباد من بلاء.

وجوب ارتداء تقنين اللباس الوطني وإظهار باقي أشكال الحضارة المحاصرة

إننا عندما نطالب من الحكومة الالتزام بارتداء الزي الوطني في اجتماعاتها، وأنشطتها الرسمية، لا نعدوا أن نكون قد طالبنا بحق سلب منا، وسكت عنه من تصدر الأمر ممن كان ولاؤه لغير بلده، وخوفه من عفاريت الغزاة، المراقبين للمارد أن يخرج من القمقم الذي وضع فيه، أما وقد تم بفضل الله ومنه كسر ذلك الطوق، فلم يعد ما يمنع من ارتدائه، بل وتقنين ارتدائه، خاصة في مجالات يفترض أن لا يغيب عنها، كالقضاء والإعلام، والإدارة، فإذا كان قضاة المجلس الأعلى يرتدونه، فلماذا لا يرتديه باقي القضاة، وما دلالة شكل الصليب الموجود في بذلة المحاماة مثلا؟
ولماذا أصبحنا نرى بعد أزيد من خمسين سنة من الاستقلال الإداري، لافتات الصليب ترفع على أبواب الصيدليات وسيارات الإسعاف؟
ولماذا تشنف الإذاعات ومحطات التلفزة، أسماع ناشئتنا بكلمات سوقية، يمجها الذوق، وتخدش الحياء، آناء الليل وأطراف النهار بدعوى تكسير الطابوهات، التي ستؤدي بدورها إلى مكانتهم الاعتبارية، في المجتمع، عندما يولون وجههم نحوه، فهل من مستمع؟ ناهيك عن اللغة الأجنبية التي تتصدر أغلب البرامج؛ دون مراعاة لما جاء به الدستور من تحديد اللغات الوطنية الواجب استعمالها أو الترجمة إليها، والمواطنين الذين يجب احترام أذواقهم وثقافتهم وحرماتهم.
أم ستبقى دار لقمان على حالها؟ وتبقى معالم حضارتنا رهينة الاحتلال بحماية وطنية مزعومة؛ بدعوى العالمية؟
إن الرجوع إلى الحضارة الوطنية سينهض بالعديد من الصناعات، ويوفر مناصب شغل لا تكلف الحكومة شيئا، وتعطي للبلاد التميز المعروفة به، فالعمارة التي كانت راقية في تواضع، لم تكن صادمة مثل التي أدخلها المعمر، حيث تصيب الفقير بالإحباط من خلال هندستها الموجهة إلى الخارج، معلنة عن رفاهية مطعون في شرعيتها، مثلها في ذلك مثل أشكال أخرى من المنتجات، التى لا تحترم الآخر، بل تستفزه، لافتقارها إلى المقومات الروحية والإنسانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث في علم الاجتماع الديني والثقافي، وعضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، وعضو الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وعضو رابطة علماء المغرب.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M