مشاركة العلماء في تدبير الشأن العام بين التحريم والتجريم

23 سبتمبر 2016 23:50
بعد "بدونة المدن" جاء دور "تمدين البادية"

هوية بريس – ذ. إدريس كرم

يتبارى هذه الأيام بعض المتدخلين في تحريم وتجريم رغبة مشاركة بعض العلماء والدعاة مختلفي التوجهات والاجتهادات في تدبير الشأن العام من خلال الترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة، وكأن علماء المغرب لم يكونوا في قريب الزمن المدبر الأوحد لذلك الشأن، لا لأنهم كانوا إقصائيين ولكن لأن التشريعات والتطبيقات التي كانت سائدة هي التشريعات المستندة للكتاب والسنة وما جرى به العمل بعجره وبجره، وهو المجال الذي كان يتدخل فيه المصلحون الربانيون الذين كانت شؤون الناس من صميم اهتماماتهم وأوكد أعمالهم، ليحيى الناس ويدبروا معاشهم وعلاقاتهم وفق مقتضى صحيح الدين، وهو ما جعل الشعوب تعتنق الإسلام وتدعوا له.

تجديدات السلفيين المغاربة

هيأ رواد الحركة السلفية الوطنية الأرضية لإصلاح وخلق مؤسسات جديدة ملائمة للعصر وآليات التدافع التي فرضها الغزو الاستعماري، لتقويض الهوية الإسلامية والوطنية ومنظوماتهما القيمية بعدما اطلعوا على مخططاتهم العنصرية والإقصائية لتذويبها، وإفناء مرتكزها الذي هو الدين الإسلامي، لما تأكدوا من أن تطبيقات أحكامه هي الحاجز المنيع في وجه تغلغله وهيمنة منظومته القيمية والحضارية.

وتحدثنا الوثائق عن مبادرات العلماء والفقهاء في المطالبة بتدوين القوانين في دستور وفق أحكام الشريعة وتطوير النظم المدنية، والقوانين الاقتصادية والاجتماعية في مطلع القرن العشرين، كما تحدثنا عن منظورهم للبيعة والشروط التي يجب على السلطان تنفيذها مقابل تأييده أو مبايعته، مما جعل السياسي الفرنسي وعضو الجمعية العمومية الفرنسية “جون جوريس” يقول عن سلطان الجهاد مولاي حفيظ في الجمعية العامة السالف ذكرها أثناء مناقشة المسألة المغربية بأن السلطان لا يختلف عن رئيس الجمهورية من حيث الالتزامات والشعبية.

وكان مما اشرط عليه: رفع ضرر معاهدة الجزيرة الخضراء، واسترجاع الأراضي المحتلة، وكف الولاة عن التدخل في القضاء، واستشارة الأمة في توقيع المعاهدات.

وقد قام سلطان الجهاد باستقدام المجدد أبي شعيب الدكالي من الحجاز مثلما فعل سلفه باستقدام العلامة السنوسي من مصر، وكان طلبتهما الطليعة التي قادت التجديد بالمشاركة في التصدي للمخططات الاستعمارية الحضارية التي كانت تزاوج بين الغزو العسكري والحضاري لجعل المغرب أرضا لاتينية مثلما فُعل بعدة بلدان في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.

من أجل ذلك قام الطلبة السلفيون بتأسيس الجمعيات الثقافية والرياضية والسياسية بعد صراع مرير مع المستعمر عانو فيها من اضطهاد السجن والنفي، وأنشأوا الجرائد والمجلات وتحدثوا في الإذاعات وحضروا المؤتمرات الدولية انطلاقا من 1917 في كوبنهاكن حيث طالب العلامة النتيفي بالاعتراف باستقلال المغرب ووحدة ترابه وكذلك فعل الشيخ المكي الناصري في مؤتمر القدس سنة 1931 وما تلى ذلك من مؤتمرات في عصبة الأمم بجنيف والأمم المتحدة بنيويورك وغيرها، وقد حولوا الزوايا والكتاتيب لمدارس حرة عصرية تهتم بما يريد المستعمر طمسه، وتعد الناشئة لتدبير شؤون البلاد بدل أن يبقوا واسطة وقوة عمل يدوية.

المحرمون يوالون المستعمر

وقد حورب ذلك التوجه من قبل القوة الاستعمارية وطغمة من الطرقيين والمتطلبة الموالين للاستعمار الذين كانوا يعتبرون الاحتلال قضاء وقدرا يجب قبوله والتأقلم معه في انتظار الفرج، في الوقت الذي كان فيه المستعمر يكبل المجتمع بالقوانين والضوابط التي ستفصله عن ماضيه وهويته.

لكن العلماء والفقهاء وسلطان البلاد لم يُفل لهم رأي بل استمروا في تطوير نهضتهم لغاية أن وقع الصدام ونفي الملك الشرعي فتصدى العلماء للمشاركة في المقاومة وقيادتها إلى أن تحقق الاستقلال.

الدور التخريبي للفرنكفونيين الغلاة ومن والأهم

وإذا كانت المخططات الاستعمارية قد خرجت من الباب فإنها عادت من النافذة على يد الفرنكفونيين الموتورين الذين خلفوا المستعمرين فناصبوا العلماء العداء مخافة عرقلة مخططاتهم في تأبيد التبعية للغرب وعدم تحقيق الاستقلال الحضاري والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، فنوصب التفكير الوطني -الذي وسم بالسلفي- والقيم الإسلامية العداء في المناهج المدرسية والإعلام والعادات الرسمية، مستخدمين في ذلك الإعلام والمدرسة والاقتصاد وطمس التاريخ وتجريم وتبخيس كل ما يمتُّ لما قبل الغزو بصلة، متوجين ذلك بإقصاء العلماء من المجلس الاستشاري ومجلس النواب في الستينيات وما بعدها لتنفرد الحركات البلانكية والنكوصية ذات المنحى الغربي والمشرقي، وذات الأصول المسيحية والتوجهات الماركسية الصهيونية المدافعة عن كل ما هو غربي، والمنصبة في قالب قومي شوفيني دكتاتوري، بالمجتمع المغربي وضوابطه وقيمه ونظامه السياسي ومرجعيته الإسلامية، فكانت الانقلابات المعروفة، والبؤر الموؤودة، والإضرابات المضمرة، والعراقيل المقامة في وجه كل حركة إصلاحية، مما نتج عنه جيل كافر بوطنه وقيمه ومقدراته، عازف عن كل مبادرة بعدما رُسخ فيه الكسب السريع والريع المفضي للرفاهية التي لا تنضبط بضابط، كل ذلك التطرف أدى لغلو ثأري يرفع شعارات ظاهرها الرحمة وباطنها من قبل العذاب.

خطر غياب العلماء عن المؤسسات التشريعية والتدبيرية

لذلك فالذين يجرمون ويحرمون مشاركة العلماء يقودون المجتمع للخطر الذي تعاني منه العديد من المناطق التي اتحدت ضدها المصالح الخارجية والمظالم الداخلية والتغول الاستهلاكي والفراغ العقدي والنماذج السيئة التي ترتبط مع كل رهط لعدم وجود وازع ديني ورادع قيمي وضابط قانوني، والتي لن تكون ملجمة إلا مع وجود العلماء في مؤسسات التشريع والتدبير، فلا يعقل أن يتواجد في تلك المؤسسات التقريرية ممثلي كل الحِنط والمهن وأصحاب المصالح ولا يوجد نواب عن العلماء والموقعين عن رب العالمين لتبيان رأي الشرع في النصوص والقوانين والتطبيقات التي تنظم المجتمع وتكون ناشئته.

لذلك نقول للمحرمين والمجرمين المتحدين مثلما فعل بالأمس إبان انطلاق الغزو الاستعماري للمغرب، لستم أول من عزف هذا الموال الذي لو استُمع إليه وقتها لما قامت دعوة للإصلاح، ولا بقيت مئذنة يردد منها حي على الفلاح، والله يتولى الصالحين.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. موضوع شيق ورائع لكنه مختصر جدا، فحبذا لو تناول الكاتب كل فقرة منه بالمزيد من البيان والمعلومات والأسماء حتى تصير كل فقرة منه مقالا مستقلا وينشر الكل على شكل سلسلة مع إطلاعنا على بعض المصادر المفيدة في هذا الصدد. بالتوفيق إن شاء الله.

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M