مصابيح الصيام (ح1)

10 مايو 2019 17:41

هوية بريس – رشيد الذاكر

إن من أعظم الأشياء التي تجعل الإنسان يغير نظرته إلى نفسه، وإلى الوجود من حوله، فيقوم بعملية إعادة ترتيب الأمور وترتيب الأولويات والأفكار: أن يتيسر له لقاء مع من هو أعلى مستوى منه: من جنس البشر الذي هو واحد منهم، فإنك لتجد الفرد يعيش زمنا من حياته مُهملا لنفسه لا يعطي لها قيمة، ولا يسعى أبدا إلى تحريكها وتغيرها إلى جهة أخرى، يعيش كذلك حتى إذا قدر الله سبحانه وتعالى له أن يلتقي مع أناس هم أرفع مستوى منه، سواء في جانبهم العلمي أو المالي، أو السياسي، فيبدأ الإنسان في إعادة التفكير في طريقة العيش ونمط الحياة، ويوجد لديه شعور داخلي بضرورة إعادة البناء الذي كان عليه من قبل ويسعى للتحسين والتجويد… ولعلك الآن تتذكر اليوم الذي بدأت فيه القرأءة الفعلية الجادة، وشرعت في مطالعة الكتب والتنقيب عن المعلومات والاكثار منها، وفي وضع خطط منهجية في التعامل مع الأفكار والواردات العلمية المكتسبة… أنك ربما التقيت مع أحد المفكرين أو صحبت بعض العلماء، ولبربما بدأت في تغيير وضعك الاقتصادي لأنك التقيت مع من هو أغنى منك مالا، وهكذا الأمور تسير في الحياة، وهذا اللقاء: مع واحد من جنسك ومع ذلك أثر فيك فقمت بتغيير المواقف والقناعات وتجديد المسار…

فكيف بك الحال والمخاطب هنا: رب العزة سبحانه وتعالى مناديا إياك لأجل الدخول في عبادة مفردة في الحياة: وهي عبادة الصيام، وهذا النداء الرباني الجليل والجميل هو مفتتح لقاء العبد في هذه المقام التعبدي في معرفة أحكامه واستكشاف أسراره، وهو نداء صادر من الله سبحانه وتعالى، الذي المُلك ملكه، والعز عزته، والجبروت جبروته، له الملك المطلق، والقدرة المطلقة، والإرادة المطلقة والعلم المطلق والغني المطلق:{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الحشر: 23] يتفضل سبحانه، وعز سلطانة: علينا بهذا النداء الرباني، الذي نستشف من خلاله عظم رحمته تعالى، فيقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فهناك مخاطب أعلى سموا ورفعة ومنزلة، لا يستطيع الإنسان الوصول إليه وإلى مخاطبته، لولا هذا الفتح الرباني الذي جاء من قبل الله تعالى.

فأنت أيها العبد المؤمن في باب الصيام كما في غيره من العبادات الذي بدأك بالنداء هو الله تعالى ليعلمك: أن لك مكانة خاصة في هذا الوجود ينبغي أن تصل إليها، وإن من مفاتيحها التي سوف ترقيك من هذا الوضع الذي أنت عليه إلى إستشراف المكانة التي خلقك الله لأجلها: استشعار هذا النداء الرباني: الذي يحرك القلوب لله ويلهمها الرشد نحو التغيير: تغييرٌ من الارتباط باللذة الفانية والشهوات البهيمية إلى الانطلاق بالقلب والعقل نحو أفق السماء، نحو الاستجابة لله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24] فالاستجابة للطاعة هي: بداية اللقاء مع الله سبحانه الموجب للحياة، وهذه الحياة: هي عين الإدراك الحقيقي للوجود الذي لا تهب رياح التغيير بدونه، والذي من دخله قاده بإذن المولى جل وعلا إلى مبدأ الصلاح الموصل بدوره إلى هذا الوعد القطعي من الله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]
فبداية العمل في الصيام: تحقيق درجة الإيمان بأصوله وقواعدة العلمية والعملية، العقلية والفعلية، ولهذا يستحيل عقلا أن يستفيد الإنسان من الصيام: وهو لم يدخل له من باب الإيمان، والإيمان كما تعلمون له حجج وبراهين: فطرية وعقلية، فمن لم يتحرك نحو الصيام بمنهج الإيمان، فإن صيامه لن يكون من باب الاستجابة لله سبحانه وتعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما من باب العادة والتقاليد، فعندما نصوم عادة وتقليدا للأباء والناس: فقطعا لن نستشعر أي معنى للصيام، لأن الذي يصوم هو البدن بلا قلب ولا عقل، ولذلك عندما تطالعون أحوال المؤميين الأوائل أو الصالحين من أهل هذا الزمان سوف تجد لهم طعما خاصا في تلقي النداء الرباني: (يَاأَيُّهَا الَّذِين أمنوا) يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه” وذلك إدراكا منهم: لحقيقة الاستجابة لله تعالى، وأن الخير كله إنما هو محصور في القيام بأمر الله، لأن المخاطب: هنا هو الله المنزه عن كل نقص يعتري غيره من البشر، الحكيم في أقوله وأفعاله:{ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83].
وأنت تتلقى هذا الخطاب بهذا المستوى الإيماني: في الاستجابة لله في عبادة الصيام ضع يدك على قلبك لتلمس أثر السكينة والطمأنية ولذة الخشوع، والشعور بالأنس بالرب سبحانه، وأنت لازلت هنا، لم تصم بعد بهذا المستوى، فكيف الحال، إذا قمنا بهذه العبادة المفردة التي لايوجد لها مثيل من جهة النوع، ولا من جهة الأجر، والذان بهما استحق الصوم: الإنفراد والتميز والتشريف في أن يكون خاصا لله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:قال الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، » [صحيح البخاري] وهذا وحده يكفي أيه العبد المؤمن لنعيد جميعا مراجعة طريقنا في الصيام، ونصحح نياتنا، ونستقبل هذا الشهر بنفس جديد، ولذة إيمانية مفردة، توجب البحث عن القيام بها على الوجه الصحيح وذلك من خلال معرفة الأحكام والتي منها فرضية الصيام (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) فقبل معرفة الأحكام علينا أن نبدأ بدرجة الإيمان فنصوم إيمانا لله تعالى واستجابة لهذا النداء الرباني: فنصوم بذلك لفظا ومعنى، حقيقة وقصدا إن كنا حقا نريد أن نصوم ولا نكرر مرة أخرى تجارب الجوع والعطش دون لذة إيمانية، فينتهي الشهر ويمر علينا بدون معنى، قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان، إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه» صحيح البخاري.

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M