مفتاح التوفيق: الرغبة والرهبة

15 فبراير 2021 11:06
الإجهاض.. حرية شخصية أم ضرورة شرعية؟

هوية بريس – د. محمد ويلالي

قال ـ تعالى ـ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). وردت هذه الآية الكريمة، استجابة لدعوات جملة من المبتلَيْن من الأنبياء، مثل سيدنا أيوب ـ عليه السلام ـ، الذي (نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وسيدنا ذي النون ـ عليه السلام ـ، الذي: (نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، وسيدنا زكرياء ـ عليه السلام ـ، الذي (نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)، فكان سر توفيقهم إلى الاستجابة الفورية، أن كانوا يدعون ربهم رَغَبا ورَهَبا.

والرغبة، والرَّغَبُ في الشيء: الميل إليه، والإرادة له بالحرص عليه.

والرغبة: السؤال والتضرع والابتهال، مع محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.

 والرغبة إلى الله هي: إرادة مرضاته في الوصول إلى المقصود، محبةً له ورجاءً. وقد أَمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه وحده ـ جل وعلا ـ، فقال: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ). وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندعو عند النوم بأن نقول: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ..” متفق عليه.

وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: “أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله ـ عز وجل ـ، وَتُثْنوا عليه بما هو أهلُه، وتَخلِطوا الرغبة بالرهبة، وتَجمَعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله ـ عز وجل ـ أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال ـ تعالى ـ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).

وقرئت: (رُغْباً وَرُهْباً). كما قرئت: (رُغُباً وَرُهُباً).

والرغبة ثمرة الرجاء ونتيجته .والفرق بين الرجاء والرغبة، أن الرجاءَ طمع، والرغبةَ طلب؛ فإن العبد إذا رجا الشيء طلبه، وطمِع في تحقيقه. والراغب سريعٌ في فعل الخيرات لتحقيق ما طمِع فيه. فكلنا نرجو الجنة ونطمع فيها، ولكن قد نتفاوت في الرغبة فيها، التي تقتضي العمل لها، والاجتهاد في دخولها، حتى قالوا: “الرغبة مفتاح الطلب”.

وأما الرهبة، فهي الخوف والخشية، ومن خاف من الشيء، هرب منه. فهي خوف مصحوب بعمل. بل هي إمعان في الفرار من اقتراف ما يضاد التوفيق، ويعود على صاحبه بالخسران والتوبيخ. أي: إن الرهبة أخص من الخوف، فالخوف هربٌ من المكروه، وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه. ولذلك استقر تعريفها شرعا ب: فرار القلب إلى الله ذعرًا وفزعًا، مع عمل ما يرضيه.

فإذا كانت الرغبة هي العمل للحصول على ما يُطمَع فيه، فإن الرهبة هي الهرب من المكروه الذي يُخاف منه. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: “والرغبة من الرجاء، كالهرب من الخوف، فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه، ومن خاف شيئا هرب منه.  والمقصود: أن الراجيَ طالب، والخائفَ هارب”.

فديدن الأنبياء، أنهم كانوا يدعون ربهم رغبا ورهبا. فدعاؤهم ـ كما قال أهل العلم ـ شامل لدعاءِ المسألة (رَغَبا)، ودعاءِ العبادة (رَهَبا).

قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: “أي: يَفزَعون إلينا، فيدعوننا في حال الرخاء، وفي حال الشدة”.

وقال ابن جريج ـ رحمه الله ـ: “ولا ينبغي لأحدهما أن يفارق الآخر (أي: الرَّغَب والرَّهَب)”، كما قال ـ عز وجل ـ: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا).

والمؤمن يسعى إلى الله ـ تعالى ـ بين الخوف الرجاء. قال بعض العلماء: يكون رجاؤه وخوفه سواء، لا يُغَلب هذا على هذا، فقد يحمله الرجاء الزائد على الأمن من مكر الله، فيتواكل ولا يعمل فيهلك، وقد يحمله الخوف الزائد على اليأس من رحمة الله، فيقنَط من الفرج فيهلك.

وقال أكثر أهل العلم: بل يُغَلب جانب الرجاء في حال المرض، ويُغَلب جانب الخوف في حال الصحة؛ فالمريض منكسر ضعيف النفس، يحب لقاء الله، فيرجو رحمته ومغفرته، ويحب لقاءه، وهو يحسن الظن به. وإذا كان في حال الصحة والعافية، كان نشطا، مؤملا طول البقاء، وقد يدعوه ذلك إلى البطر والزيغ، فهنا يغلب جانب الخوف، ليرجع إلى الله، ويَسْلَم من نزغات الشيطان، ورغبات النفس.

حتى إذا أخذت مشاكل الحياة ومعتركها بلب أحدنا، فغفل عن الله ساعة، رجع إلى ربه وأناب، ودعا واستغفر. قال ـ تعالى ـ: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ)، أي: ارجعوا إلى الله ـ تعالى ـ بالقيام بطاعته، واجتناب معصيته. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ (أي: ينشغل بمصالح الناس عن العبادة، ويعتبر ذلك نوع سهو يستوجب الاستغفار)” مسلم.

وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَارْجُ الغِنَـى * وَإِلَى الَّذِي يُعْطِي الرَّغَائِبَ فَارْغَبِ

قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته: جزاك الله خيرا، فعلتَ وفعلتَ.. فاختصر الجواب فقال: “راغبٌ وراهبٌ”. قال ابن الأثير: “راغب في ما عند الله، وراهب من عذابه”.

وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تُبَلَّ لحيتُه، ويقول: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير”.

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى. قال: “فأما طول الأمل، فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى، فيصد عن الحق”.

وكان من دعاء ابن مسعود رضي الله عنه: “خائفا مستجيرا، تائبا مستغفرا، راغبا راهبا”.

وكان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ يطوف بالبيت ودموعه سائلة على لحيته.

وكان الضحاك بن مزاحم ـ رحمه الله ـ إذا أمسى بكى، فيقال له، فيقول: “لا أدري ما صَعَد اليوم من عملي”.

هكذا كان حالهم، وهكذا كان خوفهم ورهبتهم؛ استقامت قلوبهم، فاستقامت جوارحهم، واستعملوها في طاعة الله، فكانوا من الموفقين.

إذا أنْتَ لمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى * وَلاقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَن قد تزَوَّدَا

نَدِمْتَ على ألاَّ تَكُونَ كمِثْلِهِ * وأنكَ لمْ تُرْصِدْ لِمَا كانَ أَرْصَدَا

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M