من الإنسان.. إلى ما بعد الإنسان قراءات في “الترونسيومانيسم” ح2

26 يونيو 2017 22:22
جوقة بني علمان وحيحة "الزنا".. انضمام "حزب التقدم الاشتراكية" إلى جوقة المطالبين بإباحة الزنا

ذ. طارق الحمودي – هوية بريس

 كنت نبهت في أول المقال السابق وآخره إلى دخول قضية الترانسيومانيسم إلى قائمة اهتمامات أكاديمية المملكة المغربية، وهو أمر لا يعدو أن يكون انشغالا أكاديميا وعلميا بالموضوع، لكن إدراجه في صورة محاضرة في مقر البرلمان الأوروبي يوحي بأن للأمر بعدا سياسيا واقتصاديا قد يكشف عن محله من صناعة القرار السياسي أو العكس، وهو ما ظهر جليا في محاضرة “هيرفي جوفان” يوم 31 يناير 2017 حيث كان القصد وضع السياسيين الأوروبيين بالبرلمان الأوروبي في الصورة الفاتنة.

ينبغي إذن النظر إلى القضية من زوايا مختلفة، بل قل بأبعادها المتداخلة، ويهمني هنا بعدها الفكري والعقدي، فهو الأشد خطورة والأكثر عمقا، ويرجع هذا إلى وجود ملامح ومعالم واضحة للفكر الإلحادي بأصوله القديمة الوثنية والباطنية، ولعل أول تلك الملامح قضية محاولات الإنسان دائما الوقوف على سر الخلود الذي وسوس به إبليس لآدم وزوجه، وهو قوله تعالى في سورة الأعراف: ‹‹فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ››. ودون ذلك إطالة الأعمار، حيث يأمل أنصار (الإنسان الأعلى) أو ما يصطلحون على وصفه (H+) إلى أن يصل عمر الإنسان نحو 1000 سنة! أما الخلد فمحال لقوله تعالى: ‹‹وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ››.

وأما الملمح الثاني فأشار إليه إبليس نفسه كما في قوله تعالى: ‹‹وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا››، فتغيير خلق الله تعالى يؤول عندهم إلى التغيير على مستوى الجينات سعيا منهم إلى صناعة كائن إنساني في أكمل صورة لزعمهم أن الإنسان لا يزال كائنا ناقص التكوين، ولا يقصدون الحالات المرضية، بل أصل البنية، والله تعالى يقول: ‹‹لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ››، ولذلك لم يتردد بعض الباحثين الأمريكيين في المجال الطبي إلى التصريح بأن بنية العين يشوبها نقص في بنيتها، وعلى هذا المدعو عدنان إبراهيم.

تقوم فكرة تغيير خلق الله تعالى عند أنصار “ما بعد الإنسان” إلى إدخال تعديلات على الجينات وإضافة غيرها لتصحيح العيوب البنيوية في الجنس البشري الذي بادروا إلى تطويره عوض انتظار آلية التطوير الداروينية البائسة، ويقوم العزم عندهم على تجاوز الحاجة إلى المعاشرات الزوجية القاصدة إنجاب الأطفال بتعويض ذلك بالتلقيح الاصطناعي والتدخل في نموه وتشكله، واصطفاء أجود الصفات لتجاوز الفروقات البيولوجية بعد أن تمكنت باحثتان فرنسية وأمريكية من اختراع أداة كيميائية لـ”قص ولصق” قطع من شريط الأحماض الأمينية في الكروموزومات.

وهو نوع من الشيوعية في صورتها الطبيعية، ولست أقصد الجانب الطبي العلاجي، فهذا أمر مرغوب فيه إن كان في الحدود الأخلاقية والدينية، وهي على ما ذكرته أخت الفكرة النازية الداعية إلى إلغاء كل احتمالات الحالات المريضة في الجنس الإنساني والإبقاء على أفضل الأنواع بالانتخاب العلمي بدعوى وجود النقص في أصل البنية.

هناك دول اليوم رائدة في مجال الاختراعات المساعدة على تطوير الكفاءات الإنسانية سعيا إلى صناعة الإنسان الأعلى وهي أمريكا والصين وسويسرا.. وإسرائيل! كما يقول “لوك فيري”، وسيكون من المثير أن يعلم القارئ أن من أكبر الممولين لكل هذا..غوغل..!

يبدو عند بادي الرأي أن الربط بين هذه القضية وقضية المستعمرات خارج الأرض في الكواكب المجاورة ضرب من المزاح، لكنه عند التحقيق أمر حقيقي، ووجه ذلك أنه على فرضية إطالة الأعمار أكثر مما عليه الآن حيث وصلت الحالة بالمعمرين إلى حالة “متعبون من الحياة fatigué de la vie” وسببها حالة نفسية تدفع الناس إلى ممارسة الانتحار الموجه في بعض الدول مثل سويسرا ستؤدي إلى اكتظاظ الأرض بل إلى انفجار سكاني مع قلة الموارد وفساد البيئة، وبالتالي سيكون اختيار استعمار كواكب أخرى حاجة وضرورة حتمية، وبهذا يفهم إصرار الوكالات الفضائية ومراكز الأبحاث على تمويل أبحاث الفضاء المتعلقة بالسكن خارج الأرض بدءا من سنة 2025 على المريخ، وثم محاكاة لمثل هذه المستعمرات اليوم على أمل إعداد الإنسان المنتظر لغزو الكواكب واستعمارها.

من فرانكنشتاين، مرورا بنيتشه والنازية ثم سوبرمان والأبطال الخارقون إلى الاستنساخ البشري “Le clonage” على طريقة سلسلة فيلم “حرب النجوم”، يمر العالم اليوم بواحدة من أصعب مراحله التاريخية، كل هذا والعالم الإسلامي يعيش مشاكل تعد انعكاسات لأمثال هذه القضايا التي ينبغي اليوم أن تكون جزءا من الدراسات الاستغرابية على أمل أن نفهم العقل الغربي جيدا، ولكي نستطيع التخلص من تسلطه وآفاته.

وها قد تَعَرَّف الفكر المغربي الأكاديمي العالي على هذه الإشكالية الفكرية، فلم لا تصير قضية عامة، فقد آن الأوان لإعادة النظر في طريقة رؤيتنا للإنسان الغربي المتسفل الذي يصح فيه قوله تعالى ‹‹كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى›› والله المستعان.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M