من تجلّيات حرصهم على تثقيفنا

20 مارس 2017 21:06
إلى أين المسير يا وطني العزيز؟

هوية بريس – ذ. محمد بوقنطار

وصلتني على غير انتظار مني ولا سبق توقع رسالة على هاتفي النقال كما وصلت لغيري، تعرض علي كما تعرض على غيري ممن يقاسمونني سكنى هذا البلد الطيب الآمن من خوف المطعم من جوع عرضها الآتي بيانه، فقد لا أخالف المعقول قبل البيان إذا جزمت أن هذا الإرسال ولازم عرضه كان أفقي التركيز، مستوعب الصلب والنسمة من النسيج الشعبي، صادقه وكاذبه، صديقه وزنديقه، غنيّه وفقيره، موحده وملحده، طائعه وعاصيه، مؤمنه وكافره…

وقد كان مضمون هذه الرسالة الهاتفية وعرضها التحضيضي، هو لفت الانتباه القبلي والتسابقي بإحاطتي بل بإحاطتنا علما بالتخفيضات الكريمة التي سطرتها جمعية مغرب الثقافات بخصوص العروض المبرمجة لهذه السنة والخاصة طبعا بأكبر تجل وتمثل وتمثيل ثقافي في المغرب، ونعني به كما لم يعد خافيا على الأصم والأكمه والأبكم “مهرجان موازين للإيقاعات العالمية”.

وربما لم نكن في حاجة إلى الالتفات إعرابا أو تصريحا عن جهة الإرسال، إذ هي الراعي الأكبر والممول الأول لهذا السِفر الثقافي، والذي تجاوز صداه وسلطان استقطابه ومحاضن كرمه، كما تجاوزت أرقامه المالية الضخمة والتي يعود جزء كبير منها إلى الراعي والحاضن الرئيسي حدود المملكة، ولعله عين المرسل العارض ونعني به شركة اتصالات المغرب، هذه الشركة التي فاقت وتجاوزت أرباحها كل التوقعات، بل أعطاها ومنحها فائض الأرباح المسوغات والتبريرات التي ما فتئت ترفعها في وجه المعترضين على إنفاقها كما تعترض على مجالات اعتسافها وأودية صرفها ، مجالات الإنفاق بسخاء وكرم حاتمي على مشاريع استرذال المجتمع والميل به كل الميل، بل وإغراق أهله في مستنقع الابتذال العفن وغبار الذل النتن، في مقابل إغراق فئة الراقصين والراقصات وجوقة المغنين والمغنيات الشواذ منهم والمخنثين والمخنثات في ماخور أرقام أرصدة فائض الأرباح وحجمه الكبير المتغول…

كما لسنا في حاجة إلى التذكير بكون هذا السخاء والإغداق إنما يقع في بلد كان ولا يزال يؤشر على بداياته السنوية بجمع الأطفال والحرائر والكهول والشيوخ في طقس سمفوني تتقدمه ناشئة القرآن حافية الأقدام، يشكل صفها الأول وترابطها بالأيدي البريئة، والأفمام الصادقة عربون قربان، وضمان تضرع وكفالة استمطار وإنابة استسقاء متى ما ضنت السماء بقطرة مائها وساق الرب الغيمة إلى حيث يشاء فلا يكاد يخرج حب أرضنا وكلؤها إلا نكدا.

 حتى إذا استجاب الله وانفرج الكرب، تلبست البلاد والعباد بثوب الجحود والكفران، بل بالصدود والطغيان، وانطلق المترفون إلى الصفوف الأمامية، وهم الذين كانوا في ذيل مسيرة الاستمطار وصلاتها ، يرمون أقلامهم أيّهم يكفل مشاريع الرقص والغناء، ويقيم لها السرادق ويستضيف لها أعيان الفن المصنفة تصنيفا يستنزف المال العام، ويؤسس لقواعد الغبن والحسرة في دواخل ووجدان من يقطعون الوديان من أجل الوصول إلى مدرسة في أعلى قمم الجبال، أو في أعمق الفجاج بين الأعلام، أو يموتون من وخز الصقيع القاتل والثلج المحاصر، وما أكثر المعطوفات…

كم هم هؤلاء المثقفون الجدد ورعاة الثقافة الجديدة حريصون على تثقيفنا، بل إيصال وصلاتها إلينا بتخفيضات عالية الجرعة عظيمة الزهد؟

كم هم هؤلاء الرعاة الجدد للثقافة ببلادنا حريصون كل الحرص على الاهتمام بتلبية حاجات ومأمولات شبابنا؟

كم هم هؤلاء الرعاة الجدد للثقافة ببلادنا حريصون على تحيين عروض ثقافتهم المبتذلة بتزامن مدخول مع مواعيد الامتحان الشاقة المكلفة؟

كم هم هؤلاء الرعاة الجدد للمشهد الثقافي ببلادنا حريصون على شكر الله بطريقتهم الجاحدة والفاقدة لملمح الشكر وواجب الحمد؟

كم هم هؤلاء الرعاة الجدد للثقافة ببلادنا كرماء مع رواد الثقافة من الراقصين والذاعرين الذين يشترطون في صك الأداء أن يكون بالعملات الأجنبية الصعبة؟

كم هم هؤلاء الرعاة الجدد للثقافة ببلادنا حريصون على التهام أخلاقنا وتجريعنا استضمار الوقوف إجلالا لجلافتهم الخالية من المروءة والأدب والحياء؟

كم هم هؤلاء الساهرون على تربية وتعليم ناشئة الوطن مهتمون بتنفيس كرب الحياة المدرسية والجامعية ورفع ضنكها الصلد بوصلات متحينة طافحة بكل مخل صافق وهازئ ساخر؟

ولأننا أمة فقد أصحابها وَقْدَ الذاكرة ومطلوب يقظتها المتجددة في صحة وسلامة، كدت أنسى بعد دوران الحول ذكرى هذا الوباء والمرض العضال، والذي كنت ولا أزال أعد أيام قدومه كما مروره الثقيل الطويل عدّا، لولا أن الرسالة ومضمون عرضها مارس عليّ أزه وأسمعني ركزه، وفرض علي استذكاره المقيت، وربما لم يكن خفوت وَقْد الذاكرة هو المسؤول الوحيد الحامل على السلو والنسيان، فلعل ما درجنا على تصديقه وتسويغ دعاويه ومزاعمه، من جنس ما كان يلي ويتذيل نهاية كل دورة من المهرجان المذكور، والذي مفاده توقيعات وعود وترادف توعدات تستشرف قطع دابر هذه الفتنة، واستئصال شأفتها، ومحاسبة منظميها، ولكنها وللأسف الشديد إجمالات ووعود بقيت تعيش في كنف مأمولنا بغير عنوان ولا سبيل تعليق يردفه امتياز تحقيق، ظلت هكذا حتى دار الحول دورته لنكتشف أن مشروع الثقافة دائب الحركة، وأن فصولا أخرى من الارتداد الخلقي وإشاعة المنكر والفحشاء باسم الثقافة والتربية الحداثية، قد أزفت أزفتها تبغي ردم المعين الذي يمد الأجساد بمادة الحياة ونور توجيهها، فما أسرع هلكتنا…

وليس هذا الحرص وحيد المصدر، يخوض تطبيق برنامجه وينفذ خططه بمفرده، وينافح عن توجهه معزولا عن عوامل أخرى، بل الواقع يشهد ويقرر أن هذا الحرص ومنه هذا الإرسال والعرض هو حلقة في سلسلة قديمة متجددة الأشكال ومتكاملة الأدوار، ولذلك كان من القصور في الفهم الاعتقاد بأن هذا الأمر هو وليد اللحظة، منقطع الاتصال، وِتر ساذج التواجد والعودة، ارتجالي الفعل والسلوك، ذلك أن عملية الانتشال والاستلاب المتداولة بالتوالي هي عملية تمارسها جهات متباينة العين متشاكلة الدور والمقصد، على النحو الذي يقع به تطويحنا من هاوية إلى أخرى حتى تصل العملية بنا إلى مقصود التيه والضلال والفوضى…

 وتقريبا لهذا المعنى، وإخراجا لهذا الحرص والإرسال والعرض من دائرة التجريد، نأخذ على سبيل المثال إعلامنا المرئي البئيس، متسائلين ابتداء عن سر اختفاء الكثير من البرامج الثقافية والعلمية الهادفة من تلفزتنا العربية، تلك البرامج المخلصة لقضايا لها وزنها ووقعها في وجدان المواطن، كما لها الأولوية ضمن أجندة حاجات الوطن وضغث متطلباته، ولنذكر في هذا الصدد برنامج “مشاريع” وهو برنامج تلفزيوني هادف كان يجمع ثلة من رجال الأعمال والمقاولين والمموّلين والقدوات الناجحة من أجل الحديث عن تجاربهم الناجحة ومناقشة المعضلات الإدارية والمالية والسوقية التي تعترض آمال وتطلعات المقاولين الشباب، وإعطاء حلول للعديد من الوضعيات التجارية الشائكة التي يمكنها تهديد المنظومة الاقتصادية والمالية بالمملكة، وقد تفرع عن هذا البرنامج المهم برنامج مسابقة علمية اهتمت بفتح الآفاق في وجه الكثير من الشباب المخترع، والذي كان ولا يزال يحمل في دواخله الكثير من الإبداعات والاختراعات، والتي كان من شأنها أن تجعل للوطن مكانته ومنزلته بين دول العالم المتطورة صناعيا والمتفوقة ماديا، أو حتى التي تعرف نموا وتطورا ملحوضا في هذا الصدد والخصوص.

 ولكن وما أصعب الاستدراك الذي يعقبه لازم الأسف والحسرة، تختفي فجأة ودون سابق إشعار وتتوارى هذه البرامج لتُركن على رفوف النسيان دون مأمول عودة ولا مشتهى رجوع، فقد كان الطلاق بائنا بينونة كبرى، بل وسيُبعد ويقصى أصحابها من المشهد الإعلامي، ليحل محلهم الراقصون والراقصات، والمغنون والمغنيات، والمخرجون والمخرجات، وعارضات الأزياء والعارضون، والطباخون والطباخات، مع فارق في العدد والعدة والغنج بالنسبة للطباخين والعارضين على حساب الطباخات وعارضات الأزياء، فارق له دلالته في مقام الوقوف على جرعة التخنث التي صار يشهدها بل ترزح الأمة بالاستيعاب والاطراد تحت وطأة كابوس ليلها الطويل، ومرضها العضال.

ولربما لم نكن في حاجة إلى الكلام بتفصيل عن حرص وأمانة وإبداع وإخلاص هذه القدوات المصنوعة على المقاس، وعن عملها الدؤوب في تبليغ رسالتها الحضارية، وحرصها بفرط اهتمام على تثقيفنا ثقافة الخاتم الذي أُريد له أن يستر سوأة الحفاة العراة من الجنسين…

نسأل الله أن لا يجعل لهم حظا منا، ولا زيادة مغنم غلول من بلدنا وسائر بلاد المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 [email protected]

آخر اﻷخبار
2 تعليقان

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M