من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (الحلقة الأخيرة)

10 يونيو 2019 17:49
من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (15)

هوية بريس – سفيان أبو زيد

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضالين

تساؤلات متعلقة بهذه الآية:

لماذا لم يقل : صراط الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت عليهم؟ أو صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم؟

الجواب:

في قوله تعالى أنعمت فعل ماض في مقام التجدد والاستمرار لأن النعم متوالية متجددة، والتعبير بالماضي في مقام التجدد يدل على تحقق المتجدد، وكأنه وقع في الزمن الماضي وانتهى أمره، أي صراط الذين تحققت لهم النعمة وأنجزت لهم بهدايتهم وثباتهم على الحق.

فالصالحون من عباد الله هم الذين أتقنوا مهمة تفعيل الانسجام بين القرآن المنظور والقرآن المسطور، فهم صلة الوصل وحلقة الانتظام بين قانون الكون وقانون الشرع فاستحقوا وسام النعمة فكانوا خير قدوة وأفضل أسوة، ووصية الله الواجبة باتباع أثرهم واقتفاء نهجهم، بل كانوا علامة الجودة وعلامة الاستقطاب التي تجذب العباد إلى رب العباد.

معنى آخر: فيه إثبات النعمة إلى المنعم فلو قال (المنعم عليهم) لما كان فيه تصريح بمصدر الإنعام، وذكره مقصود في هذا المقام، ولكنه قال {أنعمت} وهو خطاب موجه لله تعالى لأنه مصدر النعمة الوحيد، فكما أنه غاية العبادة وقبلتها في {إياك نعبد وإياك نستعين} فكذلك هو مصدر النعمة ومشكاتها.

فهؤلاء وحدوا السبب وهو العبادة لأنها سبب النجاة.

ووحدوا سبب السبب وهو الاستعانة .

فكانت النتيجة أن أنعم الله عليهم بالنعمة الأبدية والمطلقة والحصرية عليهم وعلى أمثالهم.[1]

لماذا لم يقل تنعم عليهم؟

الجواب:

اختار الفعل الماضي على المضارع لأمور:

  • ليبين بأن نعمته قد تحققت عليهم النعمة (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)

ولو قال (تنعم عليهم) لأغفل كل من انعم عليهم سابقا من رسل الله والصالحين.

  • ولو قال تنعم عليهم لم يدل في النص على انه سبحانه انعم على احد ولأحتمل أن يكون صراط الأولين غير الآخرين ولا يفيد التواصل بين زمر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. مثال: اذا قلنا أعطني ما أعطيت أمثالي فمعناه أعطني مثل ما أعطيت سابقا، ولو قلنا أعطني ما تعطي أمثالي فهي لا تدل على أنه أعطى أحداً قبلي.
  • ولو قال ” تنعم عليهم ” لكان صراط هؤلاء اقل شأنا من صراط الذين أنعم عليهم فصراط الذين انعم عليهم من أولي العزم من الرسل والأنبياء والصديقين أما الذين تنعم عليهم لا تشمل هؤلاء.
  • الإتيان بالفعل الماضي يدل على انه بمرور الزمن يكثر عدد الذين انعم الله عليهم فمن ينعم عليهم الآن يلتحق بالسابقين من الذين انعم الله عليهم فيشمل كل من سبق وانعم الله عليهم فهم زمرة كبيرة من أولي العزم والرسل وأتباعهم والصديقين وغيرهم وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم، أما الذين تنعم عليهم تختص بوقت دون وقت ويكون عدد المنعم عليهم قليل لذا كان قوله سبحانه أنعمت عليهم أوسع وأشمل واعم من الذين تنعم عليهم.[2]

لماذا لم يقل : غضبت عليهم؟

الجواب:

يعلمنا القرآن هنا الذوق في التخاطب المصبوغ والمفعم بالرحمة والرقي في الحديث، فالله عزوجل نسب النعمة إليه ولم ينسب الغضب إليه رحمة وترغيبا كما قال تعالى { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}

ففي مقام المغفرة والرحمة وصف نفسه بهما، وفي مقام العذاب أضافه إليه فقط وشتان بين الإضافة والصفة، إذ الصفة أبلغ في الدلالة.

هذا الأدب اتصف به نبي الله إبراهيم فجاء حديثه عن الله عزوجل بأرقى أسلوب وأبهى حلة قال تعالى{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)}

رغم أن المرض من الله يقينا ولكن قال {وإذا مرضت} ثم نسب الشفاء إلى الله فقال{فهو يشفين}

كذلك هنا{غير المغضوب} فيها رحمة ونلاحظ أنه في مواطن الغضب لا تغيب شمس الرحمة ولا ينقطع نسيمها.

كما جاء عن أبي هريرة، كما في صحيح البخاري:عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ” إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي “[3]

قال العلماء: إنما أسند نعمته عليهم إليه سبحانه والغضب لما لم يسم فاعله على وجه التأدب كقوله وإذا مرضت فهو يشفين وعليهم أول في موضع نصب على المفعوليةوالثاني في موضع رفع على الفاعلية.

لذلك جاء هنا ذكر الفعل في الإنعام لأنه تحديد الفاعل مقصود، وجاء ذكر الاسم في الغضب لأن الإعراض عن الفاعل مقصود.

قال ابن جزي: المغضوب عليهم هم اليهود والضالين النصارى قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل ذلك عام في كل مغضوب عليه وكل ضال.

قال ابن جزي والاول أرجح لأربعة أوجه

أولا – روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وجلالة قائله وذكر (ولا) في قوله (ولا الضالين) دليل على تغاير الطائفتين.

ثانيا – أن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن كقوله فباؤا بغضب

ثالثا – والضلال صفة النصارى لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى ابن مريم عليه السلام

رابعا – ولقول الله فيه  قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

رغم ما رجحه الامام ابن جزي وغيره من أن المقصود بالمغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى، إلا أنه لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أمر من الأهمية بمكان، أن القرآن في غالب أحيانه يحرص على الصفة والمبدأ دون التعريج إلى التشخيص، لأن كتاب الله تعالى خطاب عالمي كلي والتشخيص جزئي فردي ، وبالتالي فلا تناسب بين الأمرين، فالقرآن يخرج بك من دائرة الشخص ويحررك من قيده لتستفيد المعنى وتعيش معه دون ارتباط بتشكيله وتشكله.

ولو كان المقصود هنا اليهود والنصارى عينا لذكرهم باللفظ كما ذكرهم في مواطن أخرى، ولكنه ذكر صفتي الغضب والضلال حتى تبقيا كإشارة الإنذار على جنبات الصراط المستقيم.

ومن هنا نفهم بأن المقصود بالضلال هنا هو التيه وعدم الاهتداء إلى ذلك الصراط المستقيم أساسا.

والغضب هو معرفته حق المعرفة مع استدباره واستنكاف طريقه.

إذن فالأمر بين كفيتي العلم والعمل:

فمن علم وعمل فقد اهتدى.

ومن علم ولم يعمل فقد استحق غضب الله تعالى.

ومن عمل بدون علم فقد ضل عن الهدى.

وأصل العلم الإخلاص وأصل العمل الصواب والمتابعة.

وشريعة الله تعالى مبنية على قاعدة عظيمة وهي جلب المصالح ودرأ المفاسد في كل تقاسيمها من قسم العقيدة إلى أدنى شعبها.

وكل مصلحة ظاهرة لم يعتبرها الشرع وإن ظهرت فائدتها فهي مصلحة ملغية كما قال تعالى{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}

فعكس المنافع هو المضار، ولكنه لم يقل فيهما مضار كثيرة، وإنما عبر عن المضار بالإثم لأن الإثم والضرر متحدان، فالإثم لا يكون إلا فيما فيه ضرر، والضرر لا يكون إلا فيما فيه إثم.

فجاء هذا المنهج وهذا الصراط المستقيم ليبين لنا المصلحة الحقيقية ويحذرنا من المفسدة الحقيقية.[4]

لِماذ قُدم المغضوب عليهم على الضالين ؟

قال الإمام ابن القيم:

أحدها : أنهم متقدمون عليهم بالزمان .

الثاني : أنهم كانوا هم الذين يلون النبي من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة ، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ، ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى ، كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور.

الثالث : أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة ، فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم ، فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم ، وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم .

الرابع : وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام ، والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله ، فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الإزدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين ، فقولك : ” الناس منعَمٌ عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم ” ، أحسن من قولك : مُنْعَمٌ عليه وضالٌّ .[5]

فائدة :

قال ابن جزي : هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله فكانها نسخة مختصرة منه فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدمة الأولى تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والدار الآخرة في قوله مالك يوم الدين والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي في قوله إياك نعبد والشريعة كلها في قوله الصراط المستقيم والأنبياء وغيرهم في قوله الذين أنعمت عليهم وذكر طوائف الكفار في قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها وقولك آمين اسم فعل معناه اللهم استجب وقيل هو من أسماء الله ويجوز فيه مد الهمزة وقصرها أو لا يجوز تشديد الميم وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسر واختلفوا إذا جهر[6]

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

 

[1] – أنظر [ حاشية الشهاب على البيضاوي (1/143) (1/146) / الاتقان في علوم القرآن (2/231)  تفسير الرازي (1/222) / / صفوة التفاسير (1/10) / فتح البيان (1/52) / نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد لأبي العباس البسيلي التونسي (المتوفي 830 هـ) (2/62) / التسهيل (1/66) ] ]

[2] – أنظر لمسات بيانية (ص:63) / الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم جمع وإعداد : علي بن نايف الشحود (ص/220) / تفسير الرازي (1/222) / حاشية الشهاب( 1/146) / صفوة التفاسير (1/10) / فتح البيان (1/52) / نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد لأبي العباس البسيلي التونسي (المتوفي 830 هـ) (2/62) / التسهيل (1/66) ]

[3] – صحيح البخاري (6/2700/ 6986)

[4] – ملخص من المراجع الآتية:

تفسير الرازي (1/222) / حاشية الشهاب( 1/146) / صفوة التفاسير (1/10) / فتح البيان (1/52) / نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد لأبي العباس البسيلي التونسي (المتوفي 830 هـ) (2/62) / التسهيل (1/66) ]

[5] – بدائع الفوائد (2/33)

[6] – التسهيل (1/66)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M