من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (4)

12 مايو 2019 12:11
من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (19)

هوية بريس – سفيان أبو زيد

التساؤل5: لماذا لم تبتدئ الفاتحة بذكر آخر كالتسبيح أو التكبير أو التهليل؟

الجواب:

قال العلماء: ابتدأت السورة بالحمد لأنه في الحقيقة أنسب ما يبتدأ به؛ فليس في الكلام كلام أصدق ولا أعظم ولا أهم ولا أشمل ولا أنسب في مثل هذا المقام وهو افتتاح كتاب الله، بل وكل كلام ذي بال، من الحمد لله؛ ولذلك أدلة كثيرة؛ منها أن الحمد إذا انفرد عن بقية الأذكار شمل كل معانيها؛ فمثلاً إذا اجتمع التسبيح والتحميد والتوحيد والتكبير فثم تدرج؛ فالتسبيح تنزيه عن النقص وكل ما لا يليق بالله تبارك وتعالى؛ والتحميد إثبات لصفات الكمال المطلق؛ والتوحيد فيه توكيد لتنزيهه عن النقص وإثبات لتفرده بصفات الكمال المطلق بحيث يستحق أن يعبد وحده، بل كل ما سواه يجب أن يخضع له ويعبده لأنه ناقص عن منزلته محتاج إلى تدبيره ومعونته بل هو الذي أوجده؛ والتكبير إقرار من العبد بأنه مهما عظم الله وكبره وأثنى عليه فالله أكبر من ذلك؛ فلا يعلم عظمة الله على الحقيقة إلا هو تبارك وتعالى؛ وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

فإن قيل: السورة لم تفتتح بالتكبير وقد ذكرت أنه أعلى رتبة؟ قلت: العلو المذكور مقيد بالاجتماع مع الأذكار الأخرى كما تقدم؛ وأما عند الانفراد فالتحميد هو الأكمل الأشمل لأن الحمد هو إثبات صفات الكمال المطلق ومنها الوحدانية في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات؛ ومن الكمال المطلق انتفاء النقص وهو معنى التسبيح؛ ومن مقتضى إثبات الكمال المطلق ثبوت صفات عظمة وكمال أكبر مما تدركه عقول البشر، وهو معنى التكبير.

وثم جواب آخر وهو أن القائل (الحمد لله) في هذا الموضع هو الله تبارك وتعالى، وكلمة الحمد لله في كلام الله لا شيء من الكلام المجمل أكبر وأشمل وأعلى منها؛ لأنه تعالى كما أثنى على نفسه، وذلك بخلاف كلمة (الحمد لله) إذا قالها الناس ابتداء من غير تلاوة لما في القرآن.

وعلى كل حال فليس معنى ما تقدم التفضيل المطلق لهذا الذكر أعني (الله أكبر) على الآخر أي (الحمد لله) بل المفاضلة بينهما تتأثر بالمقام والأسباب والأحوال والمقاصد ونحو ذلك.

فائدة:

فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام ، قلت قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أَوْلى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين.

فالمقام هنا مقام حمد، لأن أول نعمة نحمد الله تعالى عليها، هي تنزيل هذا الكتاب، الذي به النجاة والنجاح في الدارين، فلا نعمة أفضل ولا أهم ولا أولى منها، ومن هنا فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكراً بما لمنزِّله تعالى من الصفات الجميلة ، وذلك يذكِّر بوجوب حمده وأن لا يُغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة ، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام ، ثم إن ذلك الاهتمام تأتَّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضاً على ذكر الله تعالى اعتداداً بأهمية الحمد العارضةِ في المقام، وإن ذكر الله أهمَّ في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع ، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقامِ ، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره .[1]

 

[1] – أنظر : [التحرير والتنوير (1/158) /تفسير الفاتحة مثالا على تدبر القرآن(18)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M