من كان مصوّتا فليصوِّت على السيِّء تفاديا لإتراف الأسوء

03 أكتوبر 2016 17:52
بين الكلب والحمار وفرعون وعصيد

هوية بريس – ذ. محمد بوقنطار

ذكرتني مظاهرة الدار البيضاء البئيسة بعربة الوقود لغسان الكنفاني في روايته الرامزة “رجال تحت الشمس”، والتي اختار أن يكون قائدها رجلا خصّيا… في دلالة رمزية لها ما لها في مقام الإشارة إلى أزمة النخبة والقيادة السياسية، التي أحالها الفعل التاريخي على المعاش والتقاعد النسبي لظروفها الصحية التي تحيل على الوصف التاريخي المسمى “الرجل المريض”، إنها عربة الوقود التي مات في جوف خزانها على الحدود الفلسطينية ثلاثة مواطنين، يمثل كل واحد منهم جيلا من الأجيال المتعاقبة في ترادفهما بعد نكبة 1948م، أشخاص آثروا التخلي عن حراسة الأرض والدفاع عن العرض بحثا عن خلاصهم الشخصي وسراب حلمهم الخاص، مات الثلاثة خنقا من دون طرق ولا استهلال صراخ، وبقي السؤال المطروح بدهيا هو: “لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟”.

ولعل إسقاط إجمالات هذه الرواية في جانب رمزية شخوصها له حظه في تسويغ التذكر الأول الذي ربط مظاهرتنا المحلية البئيسة بمحاولة الهروب القاتلة، كما له حظه بالدفع صوب التنبيه على أن رحلة أبطال الرواية نحو طوق النجاة والخلاص، أو ما كان الثلاثة يتوهمونه طوق نجاة هو ليس عند التفصيل يواطئ المنسوب السببي الذي ساق سخائم مظاهرتنا سوق الأنعام تستصرخ الهلاك وتخطب ود الأسوء.

ويشهد لهذا ما وصلنا من صور وتعليقات وحوارات استطاعت أن تخرق على مكونات المظاهرة خلوتها، فيبوح صمتها بفضح أنها لم تكن على نسيج واحد، وإنما كان منها صنف المتبصرين وهو الصنف الذي يحتاج إلى أداة التشبيه إلصاقا بدونية الأنعام، بله الانتصار لها من باب الإنصاف استدراكا بقول الله تعالى “بل هم أضل”، وصنف المجبورين الذين ساقتهم الحاجة والجهل والعوز وسرّعت من سوقهم المزايدات السياسية إلى تقمص دور “الكومبارس” في فيلم درامي بات يعرف الناس مخرجيه كما منتجيه، وصنف عابري السبيل الذين لم يكن من ذنبهم سوى نقل تلفزي حشرهم بالصورة دون الصوت لينفخ في كمّ وعدد المتمردين والمنتفضين ضد مشروع “أخونة الدولة” أو بأصح تعبير “أسلمة الدولة”.

وليس يدري المرء هل كان المجتمع المغربي كافرا، فيحتاج إلى فتوحات تخيّره بين الإسلام أو السيف أو الجزية، وإن كان مبلغنا من العلم أن المغرب بلد إسلامي مسلم تحكم وتؤطر علاقة الحاكم بالمحكوم فيه بيعة شرعية في سلسلة تاريخية يجر بعض حلقاتها بعضا، فيحيل هذا الجر المحمود على عمق الانتساب وأصالة الهوية الإسلامية.

كما ليس يدري المرء نوع العلاقة المحشورة بين حزب العدالة والتنمية ومشروع الأسلمة إن صحت العبارة، وهو الحزب الذي استام المغاربة تجربة وصوله إلى القيادة الحكومية فوجدوه لم يغلق خمارة، ولا أوصد باب علبة ليلية، ولا منع عريا وفرض سترا، ولا استدرك على فوائد بنكية ربوية أفسدت الزرع والضرع، ولا حاسب لصوص المال العام، ولا فتح دورا كانت قبل إغلاقها منارة لحفظ كتاب الله والانتصار لسنة نبي الإسلام.

ولا حرر أيضا ملكة العلماء والدعاة من قبضة الوزارة الوصية التي كممت الأفمام وحجّرت على المنابر وجلدت ظهور الخطباء بسوط دليلها دليل الإمام والواعظ والخطيب، ولا طمر حفرة ولا استأصل ذات أنواط تشد إليهما الرحال وتنذر عندهما النذور، وتعق نسك ما أهل به لغير الله في محيطهما، وتتمعّر بين ثرى رغامهما النواصي الكاذبة الخاطئة في نوح مكاء وبوح تصلية… وجدوه عند الامتحان وبلاء الوعود لا يشذ عن جنس ونوع علمانية من يشاركونه مستحلب الحكومة، أو حتى عمّن يؤرخون في الجهة المقابلة لضجيج المعارضة وشغبها المتهارش.

وليس ينكر المرء في حالة الإقرار بحالة الانفكاك الواقعة بين سياسة الحزب وقواعد التأسيس من جهة والحياة الشخصية للمنخرطين فيه المناضلين في صفوفه، وذلك من جهة ما يتمتعون وما يتحلون به من إقامة لشعائر الإسلام ونظافة يد من مال حرام، وهذا محل الاتفاق وملمح شائبة مصلحة لها ثقلها بخصوص التمايز بين من ينبزون ب “تجار الدين”، ومن يوصفون وصف حال ب “تجار الكيف” ورواد صالات البوكر والقمار وقائمة معطوفات الفساد في الأرض والعبث بالجسد والعقل والعرض طويلة الذيل عريضة المنكبين مسترسلة العربدة، أدناها إماطة الأذى عن زراعة الكيف في محاولة لحشر رمزية الجرار في ترسيم وتقنين وشرعنة هذا الاستهلاك القاتل، وأدناها استمراء الشذوذ والانتصار إلى المثلية المقيتة، ولا شك أن إنكار إسلامية الدولة والصلاة بالناس تقية شعبة من شعب النفاق والجحود.

ولنرجع لنقف مع تهمة الاتجار بالدين، وكيف أنها طارت كل مطار وخرجت من أفمام القوم بتحيين غير بريء، وذلك من أجل التنصيص على جنس الجهة ونوعها، التي كانت لها أهلية الكلام بإجمال أو قليل تفصيل في صحيح التهمة من عدمها، وذلك من خلال ما راكمه الواقع ووقّعت عليه التجربة من معرفة حقة بأطراف الصراع والخصومة، وهو التوقيع الذي يذهب مذهب توكيد أن كبيرة المتاجرة بالدين -إن سلمت العبارة- كان ولا يزال أمر حصولها مرهونا بالأوامر التحضيضية للذين احترفوا صنعة الإنكار المستمر على الدين والطعن الجارح في ثوابته، والذين لا يسمحون ببقاء شعيرته فضلا عن قبول شريعته إلا في الظروف العصية، شريطة ألا يُقام لأهله وزن ولا يمنح لهم حق بل يحرمون منه حرمانا.

ولعل المنصف يعرف مَن مِن الناس مصلحته قائمة، بل وجوده لا يكاد ينفك عن أماني إفشال المشروع الإسلامي، وإقصاء أهله، وجعلهم خطرا يجب إنقاذ الحياة منهم، وحصر الضلالة والضعف والوهن في صفهم وطيفهم دون باقي الأطياف والصفوف مع تحيين للتهمة القديمة المتجددة تهمة “إنهم أناس يتطهرون”، ثم بعد ذلك قصر التفوق والتميز حصرا على المشروع الحداثي المنسرب مع نزوات الغرب ومشتهياته وأطماعه التاريخية فينا.

وهنا تبدو الحاجة ملحة إلى الفصح عن التوجيه الذي يرد نصاب أحقية الاستدراك إلى جهته في غير تطفيف أو فرط تفريط، إذ من الإنصاف الإقرار بأن من يملك تحريك هذا الرمي أو مدافعة تهمته، تهمة الاتجار بالدين وجعله مطية لأغراض شابها الإخلاد إلى الأرض، هم المتدينون أنفسهم، من الذين انسحبت على صفوفهم آثار التهمة فسامهم هذا الانسحاب ألوانا من الحرمان والإقصاء، وحجّر على واسع تحركهم العلمي الدعوي، وحال دون إطلاق الطاقات الخلاقة الكامنة في منهجهم، منهج “إسلام الوحي، دون غيره من “الإسلامات”- إن صح الإطلاق تجوزا- التي شابها الدخن والدخل، وتقاطرت بها المصالح والمنافع والمزايدات التي دفعت جوقة اللادينيين، ومعشر المترفين يتفضلون بالثناء عليها في محافلهم، ويوصون بها وبالتمكين لها، وفرض مناخيلها في العقيدة والسلوك والفقه على العلماء والمربين والوعاظ والخطباء والدعاة، من الذين لا تطوى نفوس المتربصين صفحا على مهادنتهم، والإحساس كما الإخلاص لمسيس دورهم وأهمية وظيفتهم.

ولا شك أن من اعتاد أن يصور للناس أن حقيقة التحضر والتمدن لا تكون إلا بالإلحاد والعري والتسفل في نقيصة الشذوذ، والتمرد على قيد الحلال والحرام، والانغماس في مستنقع الرذائل، والتماهي مع رياح الاستغراب وأنفاس الانقلاب على الفطرة السوية، لا يستغرب منه كل هذا الحقد على مشروع سماوي لطالما سفّه أحلامه وهدّ أركان وثنيته، وأبطل مفعول سحره، وأقام الدليل والحجة والبرهان على ضلالته.

ولا شك أن وجود إعلام بئيس، ومخزن ممالئ منحاز تحت ضغط مصالحه المحلية من جهة وما يواطئ المصالح الإقليمية من جهة أخرى مع امتياز لهذه الأخيرة، يُضاف إلى هذا الوجود وجود جماهير ضاربة في العرض والطول تشكو وتعاني من ضعف الذاكرة ولا تملك أهلية الاختيار، كما أنها تفتقد للأدوات الفعالة القادرة على اجترار صورة مآسي وسقطات إدارة الشأن العام، التي صار مرتكبوها بالأمس القريب يقعقعون ويفرقعون ويبكون بكاء النائحة المستأجرة اليوم منضوين في صفوف المعارضة الرخوة، كل هذا من شأنه أن يشجع هذا الخليط السياسي النكد، بل يعطيه هامش جراءة للمواجهة بوجه صفق صلد، لا يكتفي بجحد الحق ثم يرعوي، ولكنه يتعدى ذلك ليصد عنه ويعترض على وجوده ويعطل سير مسيرته المباركة.

وعلى هذا لن يكون من التحامل في شيء، ولا من الانحياز في شيء إعمالا لفرضية المكافأة، فرضية “هذه بتلك” الانتصار للطرح الذي يرجح كفة السيئ على كفة الأسوء، مع واجب التنبيه على أن منطق الاختيار لن تحكمه قاعدة “الأصلح” فإن هذا لا يستقيم إلا في أضيق الحدود، ومع قرينة وشائبة الصلاح التي لها متعلق بذوات الحزب لا ببرامجه وسياساته، وهي البرامج التي لا تأخذنا في نفسها العلماني وأنفاسها المدنية ذرة شك، مما يعني بالضرورة أن ساحة التصارع ومضمار التسابق ليس محله الدائرة التي تتدافع داخل محيطها المصالح وتتفاضل المنافع بضابط الأكبر فالأدنى، وإنما هي الدائرة التي تتزاحم فيها المفاسد والمضار فيقدم الأخف والأدنى على الأكبر العضال، وهو التقديم الذي بُني عليه الاستصراخ بالسيء الأقل ضررا على الأسوء الأكبر فسادا وإفسادا وهي إشارة تغني عن مطل العبارة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M