مَنهج المحدثين والفقهاء والأصوليين في التصحيح والتضعيف (1)
هوية بريس – د.عبد العزيز خُمسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد، فقد اتفقت كلمة المحدثين على أن الحديث الصحيح لا يكون كذلك إلا إذا لمَّ شروطا خمسة، إذا تخلف أحدها صار الحديث ضعيفا، قال الإمام ابن الصلاحرحمه الله(ت643هـ): “أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا“[1] ثم قال:”فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث”[2].
فإذا كانتهذه الشروط لم يُختلَف حولهابين أهل الحديث، فإن للفقهاءوالأصوليين منهجا وطريقا آخر للتصحيح، يطلق عليه “طريقة الفقهاء”[3] أو “طريقة الأصوليين”.وقد لا يكون معروفا عند الطلاب إلاما ذكره ابن دقيق العيد من عدم اعتبار الشذوذ والعلة في قبول الحديث عند الفقهاء، غير أن الناظر في كتب الفقه والأصول، وبعض التوليف في مصطلح الحديث،يجد الفقهاء لم يكتفوا بإغفال ما ذكره ابن دقيق العيد من شرطي العلة والشذوذ، بل تهاونوا كذلك في أمر اتصال الأسانيد وانقطاعها، وأغفلوا النظر في مباحث أولاها المحدثون عناية خاصة، مثل عدالة الراوي وضبطه.
ومنهم من أجمل القول في وصف منهج الفقهاء في التصحيح إجمالا، فقال العلامة جمال الدين القاسمي(ت1332هـ):”ولمعرفة صحة الحديث من جهة غير السند طرق ومدارك يدريها الفقيه المجتهد كما قرره ابن الحصار”[4].
ومنهم من حكى عن منهج الفقهاء في التصحيح غير ما ذُكِر فهذا أبو الحسن ابن الحصار،وهو من الذين قاموا ببيان هذا المنهج، وفَصَّلوا القول فيه، يقول في “تقريب المدارك على موطأ مالك” مَبيِّنا منهج تصحيح الفقهاء للحديث:”وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول أو آية من كتاب الله تعالى، فيحمله ذلك على قبول الحديث والعمل به واعتقاد صحته، وإذا لم يكن في سندهكذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة”[5].
فهذه النصوص تدل على أن منهج التصحيح عند الفقهاء والأصوليين، له أصوله وقواعده التي تغاير منهج المحدثين، والتي يرجع إليها الفقيه والأصولي في التصحيح. ولو لم يكن بين الطائفتين فرق في المنهج، لكان عبثا من القول التنصيص على تصحيح حديث أو تضعيفه وفق منهج طائفة دون أخرى.
ولهذا كله أنشأت هذه الفصول لدراسة منهجَي المحدثين والفقهاء ومقارنتهما،وبيان وجوه الاتفاق والاختلاف بينهما، نظريا وتطبيقيا، مبينا كل ذلك بذكر حديث أو اثنين مما حكم عليه المحدثون أو الفقهاء والأصوليون بالتصحيح، أو ما يقابل ذلك من تضعيف.
وبين يدي ذلك سأذكر أهم القضايا التي خالف فيها الفقهاء والأصوليون منهج المحدثين، وسأقتصرفيما يتعلقبمسائل المصطلح على ذكر الخلاف بيْن الفريقين في بعض المباحث، وهي:مفهوم المرسل، وزيادة الثقة، وتعارض الوقف والرفع، والوصل والإرسال. فإلى بيان ذلك.
المبحث الأول: مفهوم المرسل.
إذا كان المرسل عند المحدثين هو:”إسقاط التابعي للصحابي”؛ أي قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن المرسل عند الفقهاء والأصوليين يقع على مطلق الانقطاع. وانفرد الإمام البيهقي رحمه الله (458هـ) باصطلاح خاص، فيقول إذا أَسقط التابعي الصحابي أن ذلك “بمعنى المرسل”.
فأهل الحديث جعلوا لكل انقطاع اسما معينا لا يختلط بغيره، لأن الانقطاع درجات؛ فليس من سقط من سنده راو كمن سقط منه راويان أو أكثر، وتظهر قيمة هذا التفصيل عند المحدثين في صفة الانقطاع وموقعها من السند، وهذا له أثره في الحكم على الأحاديث، فليس من سقط من سنده صحابي، وهو المرسل حقيقة عند المحدثين، كمن سقط منه راويان فصاعدا مع الصحابي، بل سقوط التابعي الكبير ليس كسقوط التابعي الصغير.
ولهذا التفصيل أيضا أهمية أخرى حين النظر في الشواهد والمتابعات. فهذه دقة من أهل الحديث، وهي مفتقدة عند الفقهاءوالأصوليين.
والعجيب أن المرسل عند الفقهاء والأصوليين يُطلَقُ على كل انقطاع في الإسناد، فلما تعلق الأمر بإسقاط الصحابي لصحابي آخر جعلوا له اسما مميزا، قال ابن الصلاح رحمه الله:”لم نَعُدَّ في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه بن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحةٍ؛ لأن الصحابة كلَّهم عدولٌ”[6].
فإسقاط الصحابي ليس بعلة توجب القدح في الرواية، وبالتالي صار تمييزهم له في الواقع لا أثر له، لأن سقوط الصحابي لا يضر، فهذا السَّرَخْسِي[7] الأصولي الحنفي رحمه الله يقول:”ولا خلاف بين العلماء في مراسيل الصحابة رضي الله عنهم أنها حجة؛ لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلقا يحمل على أنهم سمعوه منه أو من أمثالهم، وهم كانوا أهل الصدق والعدالة”[8].
المبحث الثاني: زيادة الثقة
يختلف منهج المحدثين عن منهج الفقهاء والأصوليين في هذا المبحث أيضا اختلافا كليا، ذلك أن حكم الزيادة عند أهل الحديث تابعة لحكم السند وما احتف به من القرائن، فيرجحون الزيادة أحيانا لصحة السند بذلك، ويضعفونها أخرى لضعف طريقها عندهم. وسيأتي مزيد بيان في ذلك في المطلب التالي.
أما الفقهاء والأصوليون فالحكم بالاطراد بقبول الزيادة كيفما وقعت، بغض النظر عن الإسناد وحكمه، ومن صور ذلك ما نص عليه أبو الحسن الكرخي(340هـ) فإنه“يذهب إلى أن راوي الحديث إذا كان واحدا، ثم اختلف الرواة عنه في زيادة ألفاظه ونقصانها: أن الأصل هو ما رواه الذي ساقه بزيادة، وأن النقصان إنما هو إغفال من بعض الرواة”[9]. ونسبَ إمام الحرمين هذا القول إلى جمهور الفقهاء[10].
وضرب أبو الوليد الباجي رحمه الله(474هـ) مثلا لترجيح زيادة الثقة فقال:“والدليل على ما نقول أنه لو شهد شاهدان لرجل على غريمه بألف دينار وشهد آخران بألف وخمسمائة لأخذ بالزيادة فكذلك الخبر ولأنه لو انفرد بنقل خبر لقبل منه فكذلك إذا انفرد بنقل زيادة في الخبر”[11].
أما أهل الحديث فينظرون في مثل هذاإلى الزيادة التى زاد، فإن كان مثلا من الملازمين للشيخ بطول الصحبة، فهذه قرينة مرجحة لزيادته، أما أن ينفرد عن الشيخ وليس الحال كما وصفتُ فلا، قال الإمام مسلم:”فَأَمَّا مَنْ تَرَاهُ يَعْمِدُ لِمِثْلِ الزُّهْرِي؛ِّ فِي جَلاَلَتِهِ وَكَثْرَةِ أَصْحَابِهِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ لِحَدِيثِهِ وَحَدِيثِ غَيْرِهِ، أَوْ لِمِثْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْسُوطٌ مُشْتَرَكٌ؛ قَدْ نَقَلَ أَصْحَابُهُمَا عَنْهُمَا حَدِيثَهُمَا عَلَى الاِتِّفَاقِ مِنْهُمْ فِي أَكْثَرِهِ، فَيَرْوِي عَنْهُمَا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا الْعَدَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مِمَّا لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَلَيْسَ مِمَّنْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِمَّا عِنْدَهُمْ، فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ حَدِيثِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ النَّاسِ”[12].
وهذا مثال عظيم الشأن، وله نظائر يجب أن يستند إليها في ترجيح منهج المحدثين، وأنه من أعظم المناهج العلمية عند المسلمين، فالأصل هو ما تقدم بيانه،ويشهد لهذا مقلوب المسألة وذلك ما حكاه الإمام ابن القيم رحمه الله عن أبي حفص قوله:”فأما أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال: ما رأيت ابن عمر رفع يديه إلا في افتتاح الصلاة، قال: هذا خطأ نافع وسالم أعلم بحديث ابن عمر وإن كان مجاهدا أقدم فنافع أعلم منه، قال بعض أصحابنا وهذا من أحمد يدل على أصلين: أحدهما أن رواية الأعلم مقدمة على رواية غيره، والثاني أن رواية من يختص بالصحبة أولى من غيره”[13].
ومع ذلك فقد جاء أبو بكر الجصاص رحمه الله(370هـ)ببيان آخر لمنهج قبول الزيادة أو تضعيفها عند بعض المحدثين فقال:”وقوم من أصحاب الحديث يصنفون الرواة، فيجعلونهم طبقات، فإذا روى رجل من أهل الطبقة العليا حديثا قبلوا عليه زيادةَ من هو في طبقته، ولم يقبلوا عليه زيادة من هو دونه.
وكذلك إذا أسند رجل من أهل الطبقة العليا حديثا إلى النبي صلى الله عليهوسلم ووقفه رجل ممن هو دون طبقته كان عندهم مسندا، وإن وقفه من كان من أهل الطبقة العليا على الصحابي، ورفعه من هو في طبقة دونها، كان ذلك عندهم موقوفا، ولم يكن مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يقولون فيما يرسله واحد، ويسنده آخر، على هذا الاعتبار، ولا يعتبرون معارضتها للأصول ودلائلها، وإنما يصححون الروايات بالرجال فحسب.ولم نعلم أحدا من الفقهاء يعتبر في قبول أخبار الآحاد اعتبارهم”[14].
وهذا الذي ذكره أبو بكر رحمه الله، وإن لم يكن على لغة المحدثين، فإنه بيَّن وجها من وجوه الترجيح وصورة من صور منهج المحدثين والفقهاء في التعامل مع هذه المباحث الحديثية، لكن تقسيم المحدثين للرواة إن كان بالمعنى الذي تقدم بيانه فنعم،وإن كان على إطلاقه فلا، فما ينفع صاحب(الطبقة العليا) أن يخالف بغير القرائن المقدمة، وأما قوله أخيرا في المعتبر عند الفريقين فهو يكشف بعدَ ما بينهما من تغاير، وسيأتي ما يبيِّن حقيقة هذا الكلام؛ ومن ذلك أنك لا تكاد تجد اطرادا في منهج الفقهاء والأصوليين في تصحيح الأخبار.
لكن الأقرب إلى الصواب في هذا هو ما بينته من قبل، ومثال ذلك أن العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني قد استند إلى هذا المنهج المذكور في تتبع المنفرد من الرواة فانفصل عن بحثه بتضعيف حديث “من بلغ الثمانين من هذه الأمة، لم يعرض ولم يحاسب وقيل: ادخل الجنة”، فقد تعقب الإمامَ الشوكاني حين قال:”وله طرق كثيرة أوردها ابن حجر بعضها: رجاله رجال الصحيح”[15]، فقال رحمه الله:
“ليس من تلك الروايات ما هو بهذه الصفة، واشبهها رواية ابن الأخشيد… … ثنا أبو طاهر بن عبد الرحمن، ثنا أبو بكر بن المقري، حدثنا أبو عروبة الحراني، حدثنا مخلد بن مالك، حدثنا الصنعاني،-هو حفص بن ميسرة- به. يعني عن زيد بن أسلم، عن أنس، فذكره مرفوعا…”.
ثم قال رحمه الله، وهنا محل الشاهد: “هو(يعني: زيد بن أسلم) متفرد به عن حفص…، وأحاديث حفص ابن ميسرة[16]. المعروفة مجموعة في نسخة معروفة كانت عند جماعة، لم يدرك مسلم منهم إلا سويد بن سعيد، فاحتاج إلى روايته عنه مع ما فيه من الكلام، ولما عوتب في روايته عنه في الصحيح قال: فمن أين كنت آتي بنسخة حفص ابن ميسرة[17]. ومن الواضح أن هذا الخبر لم يكن فيها وإلا لاشتهر وانتشر، ومع ذلك فحفص فيه كلام … وزيد بن أسلم ربما دلس. وأنس رضي الله عنه كان بالبصرة وبها أصحابه الملازمون له المكثرون عنه، فكيف يفوتهم هذا الخبر ويتفرد به زيد بن أسلم المدني، ثم كيف يفوت أصحاب زيد الملازمون له المكثرين عنه ويتفرد به عنه هذا الصنعاني[18]وهكذا فيما بعد كما علم مما مر، مع أن هذا الخبر مرغوب فيه كما يعلم من كثرة الروايات الواهية له، فأما ما قيل إن ابن وهب رواه عن حفص فهذا شيء انفرد به بكر بن سهل الدمياطي عنعبد الله بن محمد بن رمح عن ابن وهب، ابن وهب إمام جليل، له أصحاب كثير منهم من وصف بأن لديه حديث كله، وهما ابن أخيه أحمد بن عبد الرحمن وحرملة، ولا ذكر لهذا الخبر عندهما ولا عند أحدهما ولا عند غيرهما من مشاهير أصحاب ابن وهب، ولابن وهب مؤلفات عدة رواها عنه الناس وليس هذا فيها، وأماعبد الله بن محمد بن رمح فمقل جدا له ترجمة في تهذيب التهذيب، لم يذكر فيها راويا عنه إلا ثلاثة… والتحقيق أن هذا الرجل مجهول الحال ومثله لا يلتفت إلى ما تفرد به،ولاسيما عن ابن وهب، فكيف إذا انفرد عنه بكر بن سهل…”[19].
المبحث الثالث: تعارض الوقف والرفع، والوصل والإرسال.
إذ تعارض الوقف والرفع أو الوصل والإرسال، فالحكم عند الفقهاء والأصوليين في كل ذلك لمن روى الحديث مرفوعا أو موصولا، وليس يقدح في صحة الحديث أيضا إن كان الراوي هو نفسه من روى الحديث على الوجهين، قال الخطيب رحمه الله:”اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفا لجواز أن يكون الصحابي يسند الحديث مرة ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وأله وسلم، ويذكره مرة أخرى على سبيل الفتوى ولا يرفعه، فحفظ الحديث عنه على الوجهين جميعا وقد كان سفيان بن عيينة يفعل هذا كثيرا في حديثه فيرويه تارة مسندا مرفوعا ويقفه مرة أخرى قصداوتعمدا[20]“[21]، وقال الحافظ ابن حجر:“ليست هذه العلة بقادحة عند المحققين”[22].
فإذا روى الثـقات حديثا مرسلا وبعضهم متصلا فقد اختلف المحدثون والفقهاء في حكمه هل هو موصول أم مرسل. مثاله: ما روى أبو داود وغيره عن يونس وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”لا نكاح إلا بولي”[23].
فحكى الخطيب البغدادي عن“أكثر أصحاب الحديث أن الحكم في هذا وما كان بسبيله للمرسل. وقال بعضهم إن كان عدد الذين أرسلوه أكثر من الذين وصلوه فالحكم لهم، وقال بعضهم إن كان من أرسله أحفظ من الذي وصله فالحكم للمرسل ولا يقدح ذلك في عدالة الذي وصله… ومنهم من قال الحكم للمسند إذا كان ثابت العدالة ضابطا للرواية فيجب قبول خبره ويلزم العمل به وإن خالفه غيره، وسواء كان المخالف له واحدا أو جماعة. وهذا القول هو الصحيح عندنا لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له ولعله أيضا مسند عند الذين رووه مرسلا أو عند بعضهم إلا أنهم أرسلوه لغرض أو نسيان والناسي لا يقضى[24] له على الذاكر، وكذلك حال راوي الخبر إذا أرسله مرة ووصله أخرى لا يضعف ذلك إيصاله[25] لأنه قد ينسي فيرسله ثم يذكر بعده فيسنده أو يفعل الأمرين معا عن قصد منه لغرض له فيه”[26].
وقال رحمه الله في موطن آخر:”وقد كان سفيان بن عيينة يفعل هذا كثيرا في حديثه فيرويه تارة مسندا مرفوعا وقفه مرة أخرى قصدا واعتمادا، وإنما لم يكن هذا مؤثرا في الحديث ضعفا مع ما بيناه لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى والأخذ بالمرفوع أولى لأنه أزيد كما ذكرنا في الحديث الذي يروي موصولا ومقطوعا…أن ذلك مقبول والعمل به لازم”[27].
وصار الخطيب رحمه الله في هذا على منهج الفقهاء والأصوليين، أما حكايته عن بعض المحدثين أن الحكم للأكثر، فإنه يشاركهم بعض الأصوليين كالإمام فخر الدين وأتباعه[28]. بل هذا مذهب الفقهاء والأصوليين إذ الحكم عندهم في هذا للزيادة كيفما كان نوعها.
ورأيت ابن حبان في ديـباجة صحيحه[29] يقيم التعارض بين رفع الخبر من طرف محدث وفقيه فقال رحمه الله:”فإذا رفع مُحَدِّثٌ خبرا، وكان الغالب عليه الفقهُ لم أقبل رَفْعَهُ إلا من كتابه، لأنه لا يعلم المسنَد من المرسَل، ولا الموقوفَ من المنقطع، وإنما همَّـتُه إحكامُ المتن فقط” ثم قال:”هذا هو الاحتياط في قبول الزيادات في الألفاظ”[30].
قال الخطيب:”ومنهم من قال:(الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا؛ فيقبل خبره وإن خالفه غيره سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة) قال الخطيب:(هذا القول هو الصحيح).
قلت:– القائل هو ابن الصلاح- وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله”[31] وكذا عزاه أبو الحسن بن القطان لاختيار أكثر الأصوليين واختياره هو أيضا وارتضاه ابن سيد الناس من جهة النظر، لكن إذا استويا، في رتبة الثـقة والعدالة أو تـقاربا”[32].
وقال الحافظ ابن حجر في” التلخيص الحبير”:”إذا اختلف في وصل الحديث وإرساله حكم لمن وصله على طريقة الفقهاء”[33].
ويلحق بهذه الصورة ما يلي:
* أن يكون الراوي الذي وصل الحديث هو نفسه الذي أرسله، قال الحافظ “ليست هذه العلة بقادحة عند المحققين”[34].
* إذا رفع أحدهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه بعضهم على الصحابي. أو نفس الراوي يرفعه في وقت ويوقفه هو نفسه في وقت آخر.
والمثال الأول للحالتين ما أخرجه النسائي في سننه بسنده فقال:”أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَزْدِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ شُعْبَةُ: كَانَ قَتَادَةُ يَرْفَعُهُ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا لاَ يَرْفَعُهُ، قَالَ: وَقْتُ صَلاَةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ، وَوَقْتُ صَلاَةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَنْتَصِفِ اللَّيْلُ، وَوَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ”[35].
والمثال الثاني ما أخرجه الإمام أبو داود في سننه فقال:”حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَاعَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أُمَّ مُبَشِّرٍ قَالَتْ لِلنَّبِيِّصلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: مَا يُتَّهَمُ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَإِنِّي لاَ أَتَّهِمُ بِابْنِي شَيْئًا إِلاَّ الشَّاةَ الْمَسْمُومَةَ الَّتِي أَكَلَ مَعَكَ بِخَيْبَرَ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(وَأَنَا لاَ أَتَّهِمُ بِنَفْسِي إِلاَّ ذَلِكَ، فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي)[36].
قال أبو داود: وربما حدث عبد الرزاق بهذا الحديث مرسلا عن معمر عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما حدث به عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وذكر عبد الرزاق أن معمرا كان يحدثهم بالحديث مرسلا فيكتبونه ويحدثهم مرة فيسنده فيكتبونه، وكل صحيح عندنا، قال عبد الرزاق: فلما قدم ابن المبارك على معمر أسند له معمر أحاديث كان يوقفها”[37].
فالحكم- والكلام لابن الصلاح- على الأصح في كل ذلك لما زاده الثـقة من الوصل والرفع لأنه مثبت وغيره ساكت ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه لأنه علم ما خفي عليه[38].
وكذلك قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ولفظه:”الحديث إذا روي موقوفاومرفوعا برفعه على المذهب الصحيح لأنها زيادة ثقة”[39]. وقال الزركشي وهو يحكي المذاهب في الزيادة من الراوي إذا اتحد المجلس:”الثالث عشر: إن كان ثقة، ولم يشتهر بنقل الزيادات مع الوقائع، وإنما كان ذلك منه على طريقة الشذوذ…وإن اشتهر بكثرة الزيادات مع اتحاد المجلس، وامتناع الامتياز بسماع، فاختلفوا. فمذهب الأصوليين قبول زيادته، ومذهب المحدثين ردها للتهمة، قاله أبو الحسن الأبياري في (شرح البرهان)”[40].
وكلام هؤلاء الأئمة؛ ابن الصلاح والنووي والزركشي على مذهب الفقهاء
والأصوليين، لا على منهج المحدثين، ويؤيد ذلك أن هذا الحكم ليس على إطلاقه كما نبه عليه الإمام ابن دقيق العيد بقوله:”إن من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند، أو واقف ورافع، أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد، فلم نجد هذا في الإطلاق فإن ذلك ليس قانونا مطردا، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول”[41].
وهذاالتنبيه في غاية الأهمية،لأن كتب المصطلح لم تفصح بشكل جيد، إن لم يكن الصواب أنها أهملته، عن صنيع العلماء في تعاملهم مع هذا المبحث، لكن ابن دقيق العيد رحمه الله لم ينفرد بما نبه إليه، ولا يُظَنُّ أنه كان على المتقدمين من أهل الحديث خافيا، فقد نص الحافظ السخاوي على هذا المعنى بالاستقراء في قوله:”فالحق حسب الاستقراء من صنيع متقدمي الفن كابن مهدي والقطان وأحمد والبخاري عدم المراد حكم كلي، بل ذلك دائر مع الترجيح، فتارة يترجّح الوصل، وتارة الإرسال، وتارة يترجح عدد الذوات على الصفات وتارة العكس، ومن راجع أحكامهم الجزئية تبين له ذلك”[42].
وقال أيضا في مبحث الشاذ ما نصه:”ومن هنا يتبيّن أنه لا يحكم في تعارض الوصل والرفع مع الإرسال والوقف بشيء معين،بل إن كان من أرسل، أو وقف من الثقات أرجح قدم، وكذا بالعكس”.
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير من المعاصرين:
“إذا راجعنا أحكام المتقدمين كالبخاري وأبي حاتم وأحمد وغيرهم كالدارقطني، وجدناهم لا يحكمون بحكم عام مطرد بل ينظرون على كل حديث على حدة، تارة يحكمون للإرسال وهكذا في الرفع والوقف تبعا لما ترجحه القرائن”[43].
ثم قال الشيخ الخضير:”وهذا هو مسلك المتأخرين أنفسهم كالذهبي وابن حجر لا تجد لهم أحكاما مطردة في التطبيق وإن اطرد قولهم في التقعيد للتمرين”[44].
وعدم اطراد أحكام المحدثين في الحكم على الأحاديث ليس“نقصا من القواعد أو اضطرابا فيها، بل منتهى الدقة والقوة والصلاحية” كما قال الدكتور زين العابدين بلا فريج[45].
ويؤيد صحة ما ذُكر أن علماء الحديث المعاصرين ممن حصلوا الشرط المذكور،كأمثال الشيخ أبي الأشبال أحمد محمد شاكر والشيخ أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني رحمهما الله، فإنهما لما تمكنا في علوم الحديث رواية ودراية سلكا نفس الطريق في الترجيح الذي صار عليهأسلافهم، مما يدل على أن هذا هو الأصل عندهم؛ وهو اعتبار الأسانيد، كما قال الإمام أبو بكر الجصاص.
وقد تَتَبَّعْتُ على سبيل التمثيل منهج الشيخ الألباني رحمه الله، وهو من المعاصرين، في تصحيحه وتضعيفه لمثل هذه الأحاديث من خلال “إرواء الغليل”، وضربت لكل حالة مثلا، وهكذا تجده:
يحكم بصحة الزيادة حينا: كما في حديث “الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين”[46]، فزاد ابن عساكر في آخر الحديث:”فقال رجل تركتنا نتنافس في الأذان؟ فقال: إن من بعدكم زمانا سفلتهم مؤذنوهم”.
قال الشيخ الألباني رحمه الله:”وهي عند البيهقي أيضا، وإسنادها إلى الأعمش صحيح فإنها من رواية أبي حمزة السكري عنه واسمه محمد بن ميمونوهو ثقة محتج به في الصحيحين، ومن طريقه أخرجه البزار كما في التلخيص(ص77) وذكر أن الدرقطني قال:(هذه الزيادة غير محفوظة) وابن عدي جزم بأنها من أفراد أبي حمزة وكذا قال الخليلي وابن عبد البر. قال ابن القطان:(أبو حمزة ثقة، ولا عيب للإسناد إلا ما ذكر من الانقطاع).
وأجاب عنه الشوكاني[47] بما تقدم من التحقيق أن الأعمش سمعه من أبي صالح، فالزيادة صحيحة كأصل الحديث”[48].
ويضعفها أخرى: فحكم بالشذوذ على رواية علي بن مسهر عن عبيد الله عن نافع لفظها:”أن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب…”، ثم حكى قول الإمام مسلم:”ليس في حديث أحد منهم ذكر الأكل والذهب إلا في رواية حديث ابن مسهر”[49].
ثم قال:”فهذه الزيادة شاذة من جهة الرواية، وإن كانت صحيحة في المعنى من حيث الدراية، لأن الأكل والذهب أعظم وأخطر من الشرب والفضة كما هو ظاهر”[50].
وصحح الوصل: كما في حديث صدقة بن خالد عن يزيد بن أبي مريم عن القاسم بن مخيمرة عن عبد الله بن عكيم قال: ثني أشياخ جهينة قالوا:“أتانا كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء”.
وبَيَّن وجه تصحيحه الوصل فقال:”وهذا إسناد صحيح موصول عندي. رجاله كلهم معروفون ثقات من رجال الصحيح وأشياخ جهينة من الصحابة فلا يضر الجهل بأسمائهم كما هو ظاهر… فإعلال الحافظ إياه بالإرسال في التلخيص(ص18) مما لا وجه له في النقد العلمي الصحيح. فإن ابن عكيم وإن لم يسمعه من النبيصلى الله عليه وسلم فقد سمع كتابه المرسل إلى قبيلته باعتراف الحافظ نفسه”[51].
ورجح الإرسال: تبعا لأبي داود والدارقطني كما في حديث “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجدم”[52]، قال أبو داود عقبه:”رواه يونس وعقيل وشعيبوسعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا”[53].
وبيَّن الشيخ الألباني وجهَ الترجيح فقال:”لأن هؤلاء الذين أرسلوه أكثر وأوثق من قرة، وهو ابن عبد الرحمن المعافري المصري، بل إن هذا فيه ضعف من قبل حفظه”[54].
ويصحِّح الرفع: وإن كان يصح الحديث أيضا موقوفا، ومثاله: ما أخرجه البيهقي في “السنن الكبرى” (2/ 285)عن قتادة عن ابن بريدة عن ابن مسعود أنه قال:”أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائما، وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه، وليس بين يديه شيء يستره، ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته، وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه في قوله”. وقال:(يعني البيهقي)”وكذلك رواه الجريري عن ابن بريدة عن ابن مسعود”.
ثم قال الشيخ الألباني:”فهو عنه صحيح موقوفا”[55]، ثم ذكر طرق الحديث المرفوع، وإنما اخترت هذا المثال لاجتماع الموقوف والمرفوع في صعيد واحد،ولو لم يكن الشيخ على طريقة المحدثين، أو لو لم يكن تمكن من علم الحديث رواية كالمتقدمين، لاكتفى بالإشارة إلى صحة الحديث مرفوعا ولم يفصل، كما يفعل الفقهاء والأصوليون، أو غيرهم من المتأخرين.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الفقهاء والأصوليين قد ينفردون ببعض الاصطلاحات التي لا تجد لها عند المحدثين أثرا، وقد تجد بعض الفقهاءوالأصوليين يستعمل أيضا مصطلحات لا تظفر بها عند غيره، ومن أمثال الصنف الأول:
قول الإمام ابن الصلاح:”ثم إنا لم نَعُدَّ في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه بن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحةٍ؛ لأن الصحابة كلَّهم عدولٌ”[56].
وقد تقدم التعليق على كلامه رحمه الله فراجعه.
ومن مُثُـل الصنف الثاني:
أولا: ينقسم الضبط عند أهل الحديث إلى ضبط صدر وضبط كتاب، فأما ضبط الكتاب فسماه الإمام السرخسي(490هـ) بغير ما تجده في كتب مصطلح المحدثين فقال:”اعلم بأن الكتابة نوعان: تذكرة، وإمام. فالتذكرة هو أن ينظر في المكتوب فيتذكر به ما كان مسموعا له… وأما النوع الثاني فهو أن لا يتذكر عند النظر ولكنه يعتمد الخط، وذلك يكون في فصول ثلاثة: رواية الحديث، والقاضي يجد في خريطته سجلا مخطوطا بخطه من غير أن يتذكر الحادثة، والشاهد يرى خطه في الصك ولا يتذكر الحادثة”[57].
ثانيا: أن الإمام البخاري رحمه الله قال في صحيحه بعد ذكره لحديث استخلاف أبي بكر رضي الله عنه في الصلاة:”تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّوَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم”[58].
فنقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن الكرماني قوله:”الفرق بين رواية الزبيدي وابن أخي الزهري وإسحاق بن يحيى وبين رواية عقيل ومعمر أن الأولى متابعة والثانية مقاولة”[59].
ثم تعقبه صاحب “الفتح” بقوله:”مراده بالمقاولة الإتيان فيها بصيغة قال، وليس في اصطلاح المحدثين صيغة مقاولة”[60].
ثالثا: أضاف الإمام الزركشي قسما آخر إلى أقسام التدليس؛ فإنه قال:”هذا كله(أي ما تقدم) في تدليس الرواة وأما تدليس المتون فهو الذي يسميه المحدثون المدرج، وهو أن يدرج في كلام النبي-صلى الله عليه وسلم- كلام غيره، فيظن السامع أن الجميع من كلام النبي- صلى الله عليه وسلم-“[61].
فتعقبه الدكتور زين العابدين بلا فريج بقوله:”لا أعلم من أقسام التدليس فيما اصطلح عليه علماء هذا الفن تدليس المتن، وإنما التدليس كله متعلقه الإسنادوالرواة فهو في الإسناد والشيوخ والتسوية والعطف والقطع وليس منها ما يتعلق بالمتن”[62].
إن انفراد الأصوليين والفقهاء ببعض المصطلحات والإطلاقات لا عذر لهم فيه، وما ينبغي أن يقبل ذلك منهم، إذ في ذلك تغيير لرسم علم الحديث، وما تم الاصطلاح عليه من المحدثين وهم أهله وخاصته. ولا يقال ذلك من “اختلاف التنوع” و”لا مشاحة في الاصطلاح”، فإن كان لا يجوز للمحدثين أن يغيروا مما اصطلح عليه أهل الفقه وأصوله، فكذلك لا يجوز للفقهاء والأصوليين أن يبدلوا أو يغيروا مما اصطلح عليه أهل الحديث.
ولهذا التبديل أوالتغيير جوانب سلبية تمس تقدم العلوم مسا، فإن في استقراء مصطلحات كل إمام على حدة، واعتباره في البحث والمقارنة والترجيح، ما يقطع على الناظر كل بحث ونظر وعمل.
فأما ما يتعلق بالمباحث المختلف فيها عموما فالملاحظ ما يلي:
أولا: بعض الخلاف الذي يذكره الفقهاء والأصوليون لا اعتبار له والعمل على غيره، ومثال ذلك: قول ابن الصلاح رحمه الله:”إذا كان أصل الشيخ عند القراءة عليه بيد غيره وهو موثوق به، مراع لما يُـقْـرَأُ، أهلٌ لذلك، فإن كان الشيخ يحفظ ما يُـقْـرَأُ عليه فهو كما لو كان أصله بيد نفسه، بل أولى لتعاضد ذِهنَيْ شخصين عليه.وإن كان الشيخ لا يحفظ ما يُقْرَأُ عليه، فهذا مما اختلفوا فيه، فرأى بعض أئمة الأصول أن هذا سماع غير صحيح”[63].
يعني ببعض لأصوليين: الإمام الجويني والقاضي أبي بكر الباقلاني؛والقاضي ابن الطيب وإن كان تردد لكن أكثر ميله إلى المنع كما قال القاضي عياض[64]، والمازري في شرح البرهان[65].
ولكن قال الخطيب رحمه الله:”وقال جمهور الفقهاء والكافة من أئمة العلم بالأثر إن القراءة على المحدث بمنزلة السماع منه في الحكم”[66].
أما الحافظ العراقي رحمه الله فنقل عن السِّلفي أنه لم يرفع لهذا الخلاف راية، فقال رحمه الله:”ووهَّن السِّلفي هذا الاختلاف لاتفاق العلماء على العمل بخلافه”، ثم حكى عنه قوله:”هما سيان، على هذا عهدنا علماءنا عن آخرهم. قال ولم تـزل الحفاظ قديما وحديثا يخرجون للشيوخ من الأصول فتصير تلك الفروع بعد المقابلة أصولا وهل كانت الأصول أولا إلا فروعا؟”[67].
ثانيا: يذكر بعض الفقهاء والأصوليين أقوالا يدعون فيها الإجماع مثلاوالصواب أن يفصلوا، كمن يقول بالإجماع في مسألة خلافية، ومثال ذلك:
قول القاضي أبي الوليد الباجي في مبحث التحمل بالإجازة فيما حكاه عنه القاضي عياض:”(لا خلاف في جواز الرواية بالإجازة مِنْ سَلَفِ هذه الأمة
وخَلَفِها)” قال القاضي:”وادعى فيه الإجماع، ولم يفصل”[68].
وهذا القول منه رده الإمام ابن الصلاح رحمه الله بقوله:”هذا باطل، فقد خالف في جواز الرواية بالإجازة جماعات من أهل الحديث والفقهاء
والأصوليين”[69]. وقد سبق ذكر من خالف في الفصل الثاني. فارجع إليه إن شئت.
لكن من الإنصاف أن أشير إلى أن الإمام ابن الصلاح قال:”ثم إن الذي استقر عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم القول بتجويز الإجازة وإباحة الرواية بها”[70].
ثالثا: قد يختلف الفقهاء والأصوليون في بعض المباحث مثل ما يقع من المحدثين أنفسهم، فجماعة منهم تذهب مذهب بعض المحدثين، وجماعة ترى غير ذلك مع طائفة أخرى من أهل الحديث، ومثال ذلك:
اختلافهم في بعض أقسام المكاتبة؛ وهي أن تتجرد المكاتبة عن الإجازة“فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين والمتأخرين، منهم: أيوب السختياني،
ومنصور، والليث بن سعد، وقاله غير واحد من الشافعيين، وجعلها أبو المظفر السمعاني منهم أقوى من الإجازة، وإليه صار غير واحد من الأصوليين.”[71]، منهم: الرازي[72] صاحب المحصول، والشيخ أبو حامد الإسفرايني والمحاملي[73].
ولكن وجد من منع ذلك منهم القاضي الماوردي، والسيف الآمدي[74]،والغزالي[75] وذهب ابن القطان إلى انقطاع الرواية بالكتابة[76].
وأما القول الفصل في هذا الخلاف فهو الجواز ذلك أنه هو“المذهب الصحيح بين أهل الحديث وكثيرا ما يوجد في مسانيدهم ومصنفاتهم”[77]، قاله ابن الصلاح، منها أحاديث في صحيح مسلم رويت كتابة فوق العشرة[78]،وقال القاضي عياض:”قد أجاز المشايخ الحديث بذلك عنه متى صح عنده أنه خطه وكتابته… وبهذا قال حذاق الأصوليين، واختاره المُحَامِلِي من أصحاب الشافعي”[79].
تم الحديث، بحمد الله تعالى، عن مفهوم المرسل، وزيادة الثقة، وتعارض الوقف والرفع، والوصل والإرسال، وما يتصل بذلك من الاختلاف بين المحدثين والفقهاء، ونتائجذلك ما يلي:
أولا: عدم شهرة منهج الفقهاء والأصوليين في التصحيح، إلا ما كان من عدم اعتبار الشذوذ والعلة.
ثانيا: بعض الفقهاء والأصوليين أجمل القول حول طرق تصحيح الحديث عندهم، ولم يبين كما فعل بن الحصار.
ثالثا: المرسل عند المحدثين هو إسقاط التابعي للصحابي. أما المرسل عند الفقهاء والأصوليين فيُطلَقُ على كل انقطاع في الإسناد، إلا إسقاط التابعي للصحابي فيسمونه مرسل الصحابي، وتمييزهم له في الواقع لا أثر له؛ فإسقاط الصحابي ليس بعلة توجب القدح في الرواية.
رابعا: أهل الحديث جعلوا لكل انقطاع اسما معينا لا يختلط بغيره، لأن الانقطاع درجات؛ فليس من سقط من سنده راو كمن سقط منه راويان أو أكثر، وتظهر قيمة هذا التفصيل عند المحدثين في صفة الانقطاع وموقعها من السند. أما الفقهاء والأصوليين فيسمون كل انقطاعمرسلا. إلا إسقاط الصحابي لصحابي آخر، فجعلوا له اسما مميزا، وإسقاطه ليس علة توجب القدح في الرواية، كما نص على ذلك ابن الصلاح والسَّرَخْسِي رحمهما اللهتعالى.
رابعا: الزيادة عند أهل الحديث تابعة لحكم السند وما احتف به من القرائن، فيرجحون الزيادة أحيانا لصحة السند بذلك، ويضعفونها أخرى لضعف طريقها عندهم. أما الفقهاء والأصوليون فالحكم بالاطراد بقبول الزيادة كيفما وقعت، بغض النظر عن الإسناد وحكمه.
خامسا: إذ تعارض الوقف والرفع أو الوصل والإرسال، فالحكم عند الفقهاء والأصوليين في كل ذلك لمن روى الحديث مرفوعا أو موصولا، فيصححون الروايات بالرجال فحسب. أما أهل الحديث فالأمر دائر مع الترجيح، فتارة يترجّح الوصل، وتارة الإرسال، كما نص الحافظ السخاوي على هذا المعنى بالاستقراء من صنيع متقدمي الفن، وهكذا صنع المتأخرون، وتبعهم في ذلك المعاصرون.
سادسا: قد ينفرد الفقهاء والأصوليون ببعض الاصطلاحات التي لا تجد لها عند المحدثين أثرا، وقد تجد بعض الفقهاءوالأصوليين يستعمل مصطلحات لا تظفر بها عند غيره.
سابعا: يذكربعض الفقهاء والأصوليين خلافا في بعض المسائل الذي لا اعتبار له والعمل على غيره. وقد يحكون الإجماع على مسألة، والصواب فيها التفصيل.
ثامنا: قد يختلف الفقهاء والأصوليون في بعض المباحث، مثل ما يقع من المحدثين أنفسهم، فجماعة منهم تذهب مذهب بعض المحدثين، وجماعة ترى غير ذلك مع طائفة أخرى من أهل الحديث.
وسيكون الحديث في المقالة التالية عن شرطَي الشذوذ والعلة، وحكمهما عند أهل الحديث من جهة، والفقهاء والأصوليين من جهة أخرى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– علوم الحديث، ص 11- 12.
[2]– نفسه، ص 13.
[3]– الإمام لابن دقيق العيد، 3/ 91؛ والاقتراح، ص 203؛ التلخيص، 3/ 118.3/ 160.
[4]– المسح على الجوربين، ص 38- 39. هكذا حكى رحمه قول ابن الحصار على سبيل الاحتجاج والتأييد، لكنه جزم في موضع آخر بأن الحكم بالتصحيح أو التضعيف، إنما لأهل الفن، يقصد المحدثين، ولفظه:”ونقدُ الآثار من وظيفة حَمَلَةِ الأخبار، إذ لكل مقام مقال، ولكل فن رجال”، قواعد التحديث، ص 183.
فاحفظ مقالة القاسمي، إذ سنعود إليها في سياق الترجيح بين منهجي الفريقين، إن شاء الله.
[5]– النكت للزركشي، 1/ 107.
[6]– علوم الحديث، ص: 56.
[7]– هذا هو الضبط الصحيح، لأنه منسوب إلى سَرْخَس بفتح السين والراء، كما في القاموس المحيط، ص :495.
[8]– أصول السرخسي، 1/ 359.
[9]– الفصول في الأصول للجصاص، 2/ 55.
[10]– التلخيص في أصول الفقه، 2/ 396- 397.
[11]– الإشارات في أصول الفقه المالكي، ص 79.
[14]– الفصول في الأصول للجصاص، 2/ 57- 58.
[15]– الفوائد المجموعة، ص: 430.
[16]– هو أبو عمر حفص بن ميسرة الصنعاني، نزيل عسقلان روى عن زيد بن أسلم،والعلاء بن عبد الرحمن، وجماعة وعنه آدم وسعيد بن منصور، وجماعة. حدث عنه الثوري والهيثم بن خارجة وسويد بن سعيد، وثقه أحمد ويحيى بن معين، وقال الأزدي يتكلمون فيه، فتعقبه الذهبي فقال بل احتج به أصحاب الصحاح؛ فلا يلتفت إلى قول الأزدي. وهكذا لم يذكر قول الأزدي في السير، أخرج له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. توفي سنة 181هـ.
ترجمته في: ميزان الاعتدال، 2/ 249؛وسير أعلام النبلاء، 1/ 1526/ 1804؛وتهذيب التهذيب، 2/ 419/ 728..
[17]– ميزان الاعتدال، 2/ 250.
[18]– يعني: حفص بن ميسرة.
[19]– الفوائد المجموعة، ص 430- 432، الهامش: 1.
[20]- في الأصل كلمة غير واضحة.
[22]– التلخيص، 1/ 123.
[23]– سنن أبي داود، كتاب التحريض على النكاح، باب في الولي، رقم 2085.
وصححه الشيخ الألباني.
ونقل الإمام الذهبي رحمه الله في الميزان، 2/ 225 عن أحمد بن أبي يحيى أنه قال:”سمعتُ أحمد بن حنبل يقول حديث أفطر الحاجِمُ. ولا نكاحَ إلا بولي أحاديث يشدُّ بعضُها بعضاً، وأنا أذهب إليها”. كما صححه أيضا في إرواء الغليل، 6/ 235، أرقام 1839/ 1858/ 1860 بألفاظ متقاربة؛ وصحيح الجامع، 2/ 1254/ 7555.
[24]– في الأصل “يقضي” والصواب ما أثبت.
[25]– في الأصل “إيضاله” والصواب ما أثبت.
[26]– الكفاية، ص 450- 451.
[27]– نفسه، ص 457.
[28]– فتح المغيث للسخاوي، 1/ 195.
[29]– فائدة: قال الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة تحقيقه، ص 6:”هذا الكتاب سماه ابن حبان نفسه بـ(المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع، من غير وجود قطْع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها)، وعُرِفَ بين علماء الحديث باسم (التقاسيم والأنواع)، وهكذا لم يذكره العلامة حاجي خليفة في كشف الظنون”1/ 377 إلا”بالتقاسيم والأنواع”، وكذا فعل محمد بن جعفر الكتاني في الرسالة المستطرفة، ص 24. واشتهر على ألسنة الناس باسم(صحيح ابن حبان).
[30]– صحيح ابن حبان، 1/ 120.
[31]– علوم الحديث، ص 71- 72.
[32]– فتح المغيث للعراقي، 1/ 191.
[33]– التلخيص، 3/ 160.
[34]– التلخيص، 1/ 123.
[35]– النسائي، كتاب المواقيت، باب آخر وقت المغرب، رقم 522.
وأخرجه أيضا:
– مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب أوقات الصلوات الخمس، (بعد) رقم 612.
– أبو داود، كتاب الصلاة، باب في المواقيت، رقم 413.
[36]– سنن أبي داود، كتاب الديات، باب فيمن سَقَى رجلا سما أو أطعمه فمات، أيُقاد منه؟،رقم 4513.
وقال الشيخ الألباني تعليقا على هذا الحديث:”صحيح الإسناد”.
[37]– سنن أبي داود، ص 676، قال ذلك بعد ذكره لحديث ابن كعب بن مالك المتقدم.
[38]– انظر علوم الحديث، ص 72.
[39]– شرح صحيح مسلم، 9/ 574.
[40]– البحر المحيط، 2/239.
[41]– النكت للزركشي، 1/ 104، 106.
[42]– فتح المغيث للسخاوي، 1/ 192.
فإن قيل قد يكون السخاوي نقل هذا المعنى من قول ابن دقيق العيد. أقول يكفينا من نقله إثباته باستقراء صنيع أئمة الحديث تنبههم لهذه القضية، وأنها لم تترك عندهم هملا.
[43]– تحقيق الرغبة، ص 13.
[44]– نفسه، ص 13- 14.
[45]– نكت الزركشي، 1/ 106، هامش1.
[46]– الحديث رواه:
– أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، رقم 517.
– الترمذي، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء أنم الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، رقم 207.
[47]– نيل الأوطار، 2/ 39- 40.
[48]– إرواء الغليل، 1/ 233.
[49]– صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال الذهب والفضة…، بعد الرقم 2065.
[50]– نفسه، 1/ 69. وتجد أمثلة آخرى في: 1/ 113. 1/ 225.
[51]– الإرواء، 1/ 78.
[52]– سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الهدي في الكلام، رقم: 4840.
[53]– سنن أبي داود، ص 726.
[54]– الإرواء، 1/ 31.
[55]– نفسه، 1/ 97.
[56]– علوم الحديث، ص: 56.
[57]– أصول السرخسي، 1/ 357- 358 .
[58]– صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، رقم: 682.
[59]– فتح الباري، 2/ 390.
[60]– نفسه.
[61]– النكت، 2/ 113.
[62]– الزركشي وكتابه النكت على مقدمة ابن الصلاح، ص 257.
[63]– علوم الحديث، ص 141.
[64]– الإلماع، ص 33.
[65]– النكت للزركشي، 3/ 487- 488.
[66]– الكفاية، ص 296.
[67]– التقييد والإيضاح، ص 163.
[68]– الإلماع، ص 39.
[69]– علوم الحديث، ص 151- 152.
[70]– نفسه، ص 153.
[71]– نفسه، ص 169.
[72]– النكت للزركشي، 3/ 545؛وتدريب الراوي، 2/ 53.
[73]– النكت للزركشي، 3/ 545.
[74]– الإحكام، 2/ 329.
[75]– المستصفى، 1/ 312.
[76]– انظر: علوم الحديث، ص 173؛والنكت للزركشي، 3/ 545؛وفتح المغيث للعراقي، ص 223.
[77]– انظر علوم الحديث، ص 174.
[78]– ذكر منها رشيد الدين العطار في الغرر، ص 272- 278 ثلاثة أحاديث.
[79]– الإلماع، ص 37.