نقد الدين أم نقد الفكر الديني والتدين؟

11 فبراير 2016 22:14
العدالة والتنمية في مواجهة العاصفة (شروط النصر السبعة)

أحمد الشقيري الديني

هوية بريس – الخميس 11 فبراير 2016

لابد أن نميز بين الدين والفكر الديني والتدين.. فهي ثلاثة مجالات مختلفة، الأول يتسم بالقدسية لأن الدين الحق مصدره إلهي، بينما الفكر الديني مصدره بشري، يشمل الفقه والفلسفة الدينية والثقافة التي أنتجها العقل بمرجعية دينية، أما التدين فهو السلوك الذي يتأطر بالمجالين السابقين في علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبالكون من حوله.

بخلاف الدين، فإن الفكر الديني والتدين لا يتسمان بأية قدسية، وبالتالي يتجه النقد لهذين المجالين دون الأول -على الأقل من داخل المرجعية الواحدة- أما إذا اختلفت المرجعيات، فإن النقد يتجه رأسا للدين نفسه، ثم للإنتاج الفكري المنبثق عنه والسلوك الإنساني الذي يتمثله تصورا وقيما وأخلاقا.

لقد عانت البشرية ردحا من الزمن مع من يسحبون القداسة على اجتهاداتهم ويزعمون أنهم يتحدثون باسم السماء أو يحكمون بالحق الإلهي أو يمثلون ظل الله في الأرض.. قال تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).

وقال سبحانه: (أفتطمعون أن يومنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون).

ولهذا لا يستقيم نقد النص الديني من داخل المرجعية الواحدة، بل يتجه النقد لشروحه وتمثلاته أو نقده من خارج المرجعية، وهذا واضح.. وإنما حصل الخلط في هذه المسألة لأن السلطة الزمنية قد تفرض عقوبات على من ينتقد النص الديني أو تكفيره، فلجأ قوم لتبني مرجعية الدولة وهم لا يقيمون لها وزنا، وراحوا يسلطون مبضع النقد على النص الديني نفسه وهم يزعمون أنه إلهي قدسي، فوقعوا في التحريف المنهي عنه.

لكن ما هو الدين؟

عند المسلمين، الدين هو الإسلام لقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقوله سبحانه: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، والإسلام هو كل ما جاء في القرآن وصحيح السنة النبوية، لقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء)، وقوله سبحانه: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).

فلا يجوز أن نتهم القرآن أو صحيح السنة بإنتاج العنف والإرهاب أو مصادرة حق الآخر في الوجود والتعبير، كما فعلت بعض الأقلام مؤخرا وهي تحلل التوجيه الملكي للوزيرين في الشؤون الإسلامية وفي التعليم بإعادة النظر في المقرر الديني.. في حين الذي يفهم من التوجيه الملكي المطالبة بإعادة النظر في اختيار النصوص الدينية وشروحها بما يناسب الفئات العمرية المستهدفة من أجل تكوين أجيال تتسم بالواقعية والنسبية والانفتاح والتعايش مع الآخر في أفق تأسيس المشترك الإنساني الذي يعلي من قيم التسامح والتعاون ونشر المعرفة واحترام الرأي الآخر، وبناء العقلية النقدية المقاصدية التي تتفحص العلل والحكم والمآلات، ولا تقف عند حرفية النص، عقلية تستفيذ من تجارب الآخر وحكمته وعلومه دون شعور بالنقص أو الاستلاب الذي يمسخ الهوية ويوقع في انفصام الشخصية.

النص الديني بريء من الإرهاب

لا يمكن أن نتهم النص الديني بإنتاج العنف والإرهاب، بالرغم من حديث القرآن والسيرة النبوية عن الجهاد والقتال والغزوات والسرايا، لأن هذه إحدى آليات تأسيس الدولة والحفاظ على كيان الجماعة، وهي الآلية التي لا يستغني عنها مجتمع تحددت معالمه وتشكل نسيجه وبنى تصوراته بحدود جغرافية وسلطة مركزية.

إن الفهم الخاطئ لنصوص الجهاد وعدم مراعاة سياقاتها وشروطها وموازين القوى، قاد جماعات تكفيرية خوارجية لإنتاج العنف المذموم وسفك الدماء باسم الإسلام، بالإضافة للنزعة التسلطية والاستعلاء.

إن الحل لمعضلة العنف والإرهاب لا يكمن في إحلال الدرس الفلسفي مكان الدرس الديني لتحقيق الانتقال من الإطلاقية إلى النسبية، كما يقترح البعض اليوم.. لا.. فها هي التجربة الغربية ماثلة أمام أعيننا.

لقد قامت أوروبا بالإصلاح الديني، وعزلت الكنيسة عن الشأن العام، وقادت ثورات فكرية هائلة على يد فلاسفة الأنوار، وأطلقت العنان للعقل والغريزة بعد أن كبلهما اللاهوت لقرون عاشت فيها أوروبا عصور الظلام.

انطلق العقل الغربي من عقاله يكشف أسرار الكون وينظم سننه وقوانينه في معادلات رياضية، سيوظفها فيما بعد لخدمة الإنسان ورفاهيته، وأيضا لتدمير الإنسان واستنزاف الطبيعة وتلويث البيئة وإهلاك الحرث والنسل، وإشعال الحروب واستعباد الشعوب وإرهابها ونهب ثرواتها، وتكديس أسلحة الدمار الشامل، واستعمالها من أجل إخضاع الأمم الضعيفة لجبروته واكتساح قيمها ومعتقداتها وفرض قيمه وأجندته عليها.

الكشوفات الهائلة لأسرار الطبيعة، والإنتاج الفكري الضخم في مجالات العلوم الإنسانية والفلسفة، لم تحقق سعادة الإنسان، ولم تخرجه من الحيرة والقلق، ولم تحل بينه وبين العنف والقتل والدمار.

إن الحربين العالميتين التي ذهب ضحيتها أزيد من 50 مليون قتيل، وضرب هيروشيما وناكازاكي، المدينتين اليابانيتين، بالقنابل الذرية المبيدة للحضارة والإنسان، والاستعمار الغربي لأرض المسلمين، هي من الأعمال الوحشية التي لم تعرف لها البشرية نظيرا في التاريخ.. والجرائم الوحشية التي قام بها جوزيف استالين باسم الماركسية اللينينية، وأدولف هتلر باسم النازية، وبوش باسم الليبرالية، وغيرهم من قادة الهلاك في العصر الحديث، لا علاقة لها بتعاليم المسيح عليه السلام ولا بالشريعة الموسوية، بل أطرتها فلسفات مادية تعلي من شأن العنف والقوة والسيطرة إلى حد التقديس.

إن الوحش “الداعشي” الدموي لم يخرج من ثنايا المصحف والسيرة المحمدية، بل خرج برعاية أمريكية من السجون العراقية والأفغانية، حيث تنتهك الآدمية ويعبث بالأعراض والمعتقدات.. خرج من برميل بارود طائفي، فتيلته نطفة أمريكية وضعت في رحم فارسي، أنتج جنينا مشوها، كبر بسرعة كما تكبر وحوش بعض أفلام الخيال العلمي..

إنه الإمعان في تشويه الشريعة المحمدية كما تم تشويه الشريعة الموسوية وتعاليم المسيح عليه السلام.. وكلها تخرج من مشكاة واحدة، جاءت لإسعاد البشرية وربطها بخالقها سبحانه وحده لا شريك له.

قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M