هل الإنسان في عالم اليوم حر بالفعل؟

02 أبريل 2020 00:12
تفاعلا مع ما جاء في تدخل رئيس حركة التوحيد والإصلاح.. ملاحظات بسيطة ذات دلالات كبيرة

هوية بريس -د. ادريس أوهنا*

لننطلق في معالجة هذا الموضوع من أسئلة بسيطة، لكنها دالة ومعبرة:

هل الأكل الذي نأكله، واللباس الذي نلبسه، والهواء الذي نتنفسه، والعادات التي نمارسها، والأغاني التي نستمع إليها، والأفلام التي نشاهدها، وغير ذلك من أفكارنا وأذواقنا وأفعالنا، هي بالفعل من اختيارنا، وبمحض حريتنا وإرادتنا؟؟

أم أننا مجرد قطع في رقعة الشطرنج، يحركنا المتلاعبون بعقولنا وأذواقنا وهويتنا كما يشاؤون؟؟ طغاة العالم المتجبرون، المنمطون لقواعد السلوك الإنساني، وللأحكام المعيارية التي توجه السلوك الإنساني في جميع مجتمعات العالم لخدمة مصالحهم الاقتصادية،وإدامة هيمنتهم وغطرستهم، وعلى رأس هذه القوى المتغطرسة المستكبرة: أمريكا.

إن عملية تنميط القيم على أساس الفردانية والمادية واللذة والاستهلاك([1])… لا تكاد تخطئها العين، مع العلم أن هذا التنميط للقيم لا يحدث بمحض الصدفة، كما يقول د.أحمد العبادي،     ” و إنما هو محاولة جادة، و استراتيجية محكمة وراءها رموز مؤثرون (فنانون،رياضيون ،إعلاميون، سينمائيون…) مشهورون يسهل التماهي بهم، وعلماء وخبراء في مختلف ميادين المعرفة و خاصة العلوم الإنسانية، و مؤسسات إعلامية كبيرة، و مراكز و شركات سينمائية مختلفة لها متخصصون استراتيجيون في مختلف أصناف العلوم الإنسانية، يعملون لتوجيه هذا التنميط وفق أساليب و تقنيات و مقاربات بيداغوجية و منهجية، تستهدف الإنسان في كل مراحل العمر: ( الطفولة، الشباب، المراهقة، الكهولة والشيخوخة). ومما زاد في تأثير هذا المد التنميطي وعزز من فاعليته وقدراته،التطورالهائل في وسائل الاتصال و التواصل، و قدرتها  على الاستقطاب نظرا لهندسة برامجها التفاعلية، و سهولة استخدامها من لدن مستخدميها (Accessibilité) “([2])

و أما عن الآلية التي توظف في هذا التنميط فهي آلية بسيطة جدا، لكنها فعالة وخطيرة للغاية، و هي آلية التكرار للمشاهدة، أو لسماع ما يعلن ويبث، إلى أن يصير مألوفا، والإلف يذهب الإحساس،ويضعف القدرة على الممانعة والمقاومة، يقول د.محمد العبادي:  ” فقد يقبل الفرد و يقتنع برأي أو فكرة ما ، كان في السابق رافضا لها لأنها منافية لقيمه، لكن عملية التكرار قولا أو مشاهدة، تقلل لديه نسبة الرفض، إلى أن يضحي مستضمرا لقيم كان موقفه منها سلبيا من قبل.”[3]

ونتيجة التطبيع النفسي والسلوكي مع القيم الدخيلة، نقع فريسة  ما اصطلح عليه د.عبد الوهاب المسيري بالعلمنة الشاملة للسلوك، وساق له أمثلة كثيرة في اللباس والطعام والجنس والعمل، وأوقات الفراغ والسياحة والرياضة وغيرها. و هكذا في جميع مناحي الحياة، يتم غزونا بمعايير وقيم دخيلة علينا، ونتيجة لهذه العلمانية الشاملة والعولمة الكاسحة أصبحنا – في الغالب الأعم-  أمام مجتمع مبرمج، وإنسان موجه ذي البعد الواحد([4])، وهو البعد المادي الطبيعي، فهو من جهة إنسان اقتصادي،لا غاية له إلا تحقيق الربح والمنفعة المادية، ومن جهة أخرى إنسان جسدي غرائزي، لا هم له إلا البحث عن اللذة الحسية؛إنه بكلمة واحدة الإنسان الصناعي الذي أريد له أن يحل محل الإنسان الطبيعي، أو قل إنه الإنسان المستعبد الذي أريد له أن يحل محل الإنسان الحر: يقول د.المسيري:

” والإنسان ذو البعد الواحد نتاج المجتمع الحديث، مجتمع ذي بعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية ، شعاره بسيط جدا هو التقدم العلمي والصناعي والمادي، وتعظيم الإنتاجية المادية، وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك.               وتهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج كمية ورياضية. وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه، وترشده وتنمطه وتشيئه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها.”([5])

فمن أجل التقدم المادي، وتنمية المصالح الاقتصادية وحمايتها، ومن أجل التحكم في موازين القوى، وفرض السيطرة والهيمنة، يتم النزوع نحو الذكاء الاصطناعي، مع تكريس توظيف العقل التقني، الذي يطرح السؤال الإجرائي: كيف؟ ولا يبالي بالسؤال الغائي: لماذا؟ المهم هو تعظيم الإنتاجية المادية، ولو على حساب الخراب الروحي والأخلاقيوالأمن الإنساني والسلام العالمي. ويصبح في هذه الحالة كل شيء مباح ومستباح: الحروب العسكرية بأسلحة مدمرة وممنوعة، الحروب البيولوجية عن طريق الفيروسات والمواد الكيماوية، اللقاحات والأدوية، الحصار الاقتصادي، الابتزاز، التهديد، إلخ

وأصبح من الممكن كما يقول د. المسيري” إغواء الإنسان الفرد وإيهامه بأن مايرغب فيه هو قرار حر نابع من داخله،ولكنه في الحقيقة، أسير مئات الإعلانات التي ولدت الرغبة التي قال لها ذاتية “([6])، بينما هو في حقيقة الأمر مسخر لخدمة مصالح المتحكمين من طغاة العالم ومجرميه، مصاصي دماء المستضعفين.

وبهذا أصيبت قيمة الحرية الحقيقية في المقتل، حيث صار الإنسان عبدا لهواه وغرائزه المادية([7])، مملوكا للمؤسسات الرأسمالية المسيطرة على الإنتاج والتوزيع، التي تهندسحاجاته المادية كما تشاء، من أجل مصالحها الاقتصادية، ونفوذها العالمي.

ونتيجة لذلك، بدلا من الحديث عن حقوق الإنسان في شموليتها وفي علاقتها بالواجبات، أصبحت الحقوق أساسا هي اللذة الحسية، وبدلا من اقتصاد يهدف إلى سد الحاجات وزيادة الإنتاج بقواعد عادلة، صارت الحاجات تخلق خلقا بوسائل الإعلام والإعلان، وبافتعال حروب، ونشر فيروسات، وتركيع رؤساء دول تارة بالابتزاز وتارة بالإغراء وتارة بالتهديد المبطن أو المعلن، وغيرها من الأساليب الخسيسة اللاأخلاقية، والغاية هي تحقيق أكبرقدر ممكن من الربح المادي، لكنه مصحوب بلا شك بأكبر قدر من التدمير الأخلاقيوالإنساني.

وبدل العلاقات التراحمية سادت العلاقات التعاقدية؛ سواء بين الزوجين، أو بين رب العمل والأجير، أوبين المسؤول الإداري والموظف العادي، وبدل العلاقة الزوجية الفطرية، يتم النزوع المتزايد نحو العلاقة المثلية الشاذة، وبدل الإحساس بالانتماء إلى الجماعة (الأسرة والوطن والإنسانية)، صارت الفردانية هي القيمة السائدة…

بالمجمل، فقد تم إهدار إنسانية الإنسان؛ وسلبه حريته الحقيقية، وإغراق العالم في حمأة التوحش والبهيمية، بتدمير القيم الروحية والجمالية والجماعية والإنسانية، لصالح القيم الفردية والمادية والنزوعات الهيمنية.

وفي سياق ما يجب اتخاذه أمام هذا التوحش المتزايد، والجنون الذي لا حدود له، أسوق  نصا من كتاب ” هويتنا والعولمة ” للدكتور عباس الجراري،يقول فيه:

” وعلى الرغم من أن طبيعة المرحلة التاريخية اليوم مخالفة، وأن القدرات العلمية والإنتاجية متطورة، وأن الوسائل والأهداف بالتالي متغيرة؛ وعلى الرغم من أننا مطالبون ليس برفض التقدم مقابل الحفاظ على وجودنا- كما كنا نقول من قبل – لأن الاندماج يفرض نفسه، فإن الذي علينا ان نفعله هو أن نختار أي نوع من الاندماج سنسلك سبيله. هل هو اندماج نفيد به من آثار التقدم وما ينتجه الآخر، نستهلكه وندور معه كيفما دار؟ أم هو اندماج نشارك فيه بقدراتنا العلمية والاقتصادية والثقافية، مؤهلين للتبادل والتنافس، في نطاق كيانات أو كيان قوي ومتماسك ومشدود بعرى هوية لها مقومات راسخة وإمكانات إبداعية تجديدية.[8]

إن قوة الحق ما لم تحصن بحق القوة، بامتلاك أسبابها من علم وتكنولوجيا وصناعة واختراع واكتفاء ذاتي، وتفوق حضاري، لا يمكن لها أن تجد موطئ قدم في عالم الغد، إلا أن تستعبد أو تباد.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، فاس

([1])على حساب العفة والأمانة والورع والتكافل والتراحم والمحبة والصبر والتقوى والإيثار والإخلاص والاحتساب وغيرها من القيم الأصيلة في ثقافتنا مثلا

([2])منظومة القيم المرجعية في الإسلام، محمد الكتاني، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ط2: 1433ه / 2011م، ص6 .

[3]نفسه، ص7.

([4])بالإنجليزية: one-dimensional man ، وهي عبارة ترد في كتابات هربرت ماركوز أحد مفكري مدرسة فرانكفورت، وعنوان أحد كتبه، وهي تعني: الإنسان البسيط غير المركب.

([5]) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، مصر، الطبعة الرابعة 2013، ج1 / ص144.

)نفسه، ج2 / ص31.[6](

([7])والحال أن الله تعالى لم يضع الشرائع إلا لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا. فحرية الإنسان الحقيقية تتجلى فعلا عندما يمحض عبوديته لله وحده، لا لهواه، ولا لمهندسي هواه.

([8])هويتنا والعولمة، عباس الجراري، مطبعة الأمنية، الرباط، ص34.

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. وفق د. او هنا في تعرية مفهوم الحرية او بالاحرى «سلعة» الحرية. الا اني أسأل الدكتور اوهنا هل
    إن قوة الحق ينبغي أن تحصن بحق القوة ام
    ان الحق ينبغي أن يحصن بقوة الحق (كل قوة تنتصر للحق).

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M