وفاة العلامة المسند الكبير عبد الرحمن بن عبد الحي الكتاني

06 ديسمبر 2022 21:25

هوية بريس – متابعة

توفي مسند المغرب والمشرق الشيخ عبد الرحمن بن عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله.

وعن وفاته كتب الأستاذ رضوان نافع الرحالي في جدار حسابه على فيسبوك: “إنا لله وإنا إليه راجعون.
توفي شيخنا ومجيزنا مسند المغرب والمشرق الشريف سليل بيت العلم والعلماء عبد الرحمن بن عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله تعالى وغفر له وأسكنه فسيح جناته وأخلف الأمة فيه خيرا”.

كما كتب د. رشيد بنكيران “توفي اليوم العلامة المسند الكبير عبد الرحمن بن عبد الحي الكتاني
فنسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته وأن قبره روضة من رياض الجنة
وأن يرزق آل الكتاني الصبر والسلوان على فراقه وجميع المغاربة”.

أما د.حمزة الكتاني، فكتب هو الآخر “فاجعة؛ بلغني للتو نبأ وفاة شيخنا ومحل عمنا، مسند العصر، وصاحب الوقت، الشريف الجليل، شيخ الرواية في عصرنا وإمامها؛ سيدي عبد الرحمن ابن الحافظ الشيخ عبد الحي ابن جبل السنة والدين الشيخ أبي المكارم عبد الكبير الكتاني الإدريسي الحسني، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجبر كسرنا في مصابه، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لفراقك سيدي عبد الرحمن لمحزونون..”.

ترجمة الشيخ رحمه الله:

بقلم د. حمزة الكتاني:

من شيوخنا: إمام الرواية والإسناد في عصرنا، درة الزمان، ويتيمة الأقران، مسند العصر، ومخجل البحر، من أحيى سنن الرواية بعد اندراسها، وأذعنت له الأكابر على عنعنتها ومراسها، العالم المشارك، والمبارَك المبارِك؛ أبو إدريس عبد الرحمن ابن حافظ عصره، وإمام وقته؛ الشيخ عبد الحي ابن جبل السنة والدين؛ الإمام أبي المكارم عبد الكبير ابن الإمام القطب أبي المفاخر؛ محمد بن عبد الواحد الكتاني الإدريسي الحسني.

ختمت بذكره في هذا الثبت وإن كان محله التقديم؛ لأنه واسطة العقد، ومسك الختام، وبه تتحلى مجالس الرواية والإسناد، وتتعطر دواوين السنة بأريج ما يقرأ في مجالسه، وما يتملى الطلاب من حسن آدابه ومحاسنه.

هذا السيد السند، عليه مدار الرواية في عصرنا، بل لم يتهيأ لأحد في القرون المتأخرة ما تهيأ له من كثرة الآخذين، وإقبال الخاصة والعامة، ومجالس سرد السنة التي يحضرها المئات، بل الآلاف، وأذعن له في الرواية أعلام الوقت، وافتخروا بالأخذ عنه علا شأنهم أو نزل، فات أقرانه في وسع الرواية، وضبطها، وطول مدى الآخذ عنهم، وبعد الزمان بين وفاتهم وحياته، أطال الله مدته، وحفظه بما حفظ به أولياءه الصالحين.

فإننا لم نسمع بمن ختمت عليه الكتب الستة مرات؛ خاصة الصحيحين، و”الموطأ”، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، و”السنن الكبرى” للبيهقي، ومسند الدارمي، وغير ذلك من الأصول التي بعد الزمان بسردها وروايتها، علاوة على ما لا يحصى من الأجزاء الحديثية القديمة والحديثة، وكتب “الشمائل” والسلوك؛ كشمائل الترمذي، و”الشفا” للقاضي عياض، و”عوارف المعارف” للسهروردي، وغير ذلك.
إضافة إلى ما تحمله من المسلسلات بأعمالها، مع تحرير الرواية، وضبطها، وتأكد صدقيتها ووصلها، من أصول هي بخط والده الحافظ، أو بخطه، أو خطوط أصحابها.

وناهيك بشيخ ادخره الله تعالى لزماننا، وهو يروي عن محمد بن عبد الرحمن الديسي المتوفى عام 1339، وأحمد رضا خان البريلوي المتوفى عام 1340، وأحمد بن محمد ابن الخياط الزكاري المتوفى عام 1342، والمهدي الوزاني المتوفى عام 1343، ومحمد بن جعفر الكتاني المتوفى عام 1345…الخ، بحيث بينه وبين بعض شيوخه في السماع الموثق المحقق، بله الرواية الخاصة، أكثر من مائة عام، كل ذلك بالرواية المحققة بخطوط أصحابها، وهذا ما لم يتم إلا لأفراد قلائل في الأمة المحمدية.

زد على ذلك صبره وجلده في مجالس السماع، بحيث قد يقضي كل يومه في مجلس لا ينقطع إلا وسط النهار، ويستمر إلى منتصف الليل، وقد حضرت عنده مجالس تمر بها الساعات الطويلة، وهو صابر محتسب، بشوش، مكرم لضيفانه، سعيد بهم، يضحك ويتأمل، ويتابع من أصله، فيبكي خشوعا تارة، ويفرح تارة، ويدلي بإفادة تارة، وهكذا، فيكون مجلسه مجلس أنس وروحانية، وعلم وفائدة وسماع. كل ذلك وهو يكرم زواره بقرى الضيف الذي لا يبخل فيه بمختلف أنواع الحلوى والشاي والقهوة، وربما استضافهم بالغداء أو العشاء أو الفطور، أو كلها، يسعد بذلك هو وأهل بيته سواء.

وهو على الغاية القصوى من الاستقامة، والزهد، مع عدم التكلف أو التزمت، حاله حال الراسخين، لا يغتاب أحدا، ولا يتحدث لغوا، جل كلامه بالكلام المقطع، والإيماء، مع ما حوته ذاكرته من أخبار وفوائد تاريخية، وفي تراجم الرجال الذين عاصرهم، ومجالس العلم، وغير ذلك، ما لا يوجد عند غيره. حفظه الله تعالى وبارك في أنفاسه.

ولد بمدينة فاس عام 1338 للهجرة، في حجر أبيه شيخ الإسلام، وإمام الرواية في العصور المتأخرة؛ عبد الحي ابن الشيخ أبي المكارم عبد الكبير الكتاني، رضي الله عنهما، فتلقى العلم عن والده الذي لم يكد يترك مجلسا من مجالسه في فاس، وفيما رافقه من غيرها، وكلف به والده من يشرف على تهذيبه وتعليمه، وخصص له من يأخذ عنهم من أعلام جامع القرويين؛ فكان منهم: أبو الشتاء الصنهاجي، وعبد الله العلوي الفضيلي، والحسين العراقي، وأحمد بن محمد العمراني، وعبد الرحمن ابن القرشي الإمامي، وأضرابهم من الأئمة. فلازم مجالس العلم النظامية والحرة.

واستفرغ حياته لخدمة والده، وبالرغم من ذلك فقد تصدر للتدريس بالزاوية الكتانية بفاس، فدرّس كتب الفقه؛ بالرسالة، وخليل، وغير ذلك من العلوم، التي تلقاها عنه الآخذون عنه. ثم ناله ما نال من الابتلاء الواقع طليعة استقلال المغرب، وتكالب الحزبيين على السلطة، ومحاربتهم لمنافسيهم أسوأ المحاربة، حتى امتد الأمر لرأس السلطة نفسها. فصبر واحتسب، وانزوى عن الناس، ولازم خويصة نفسه، وقد أخرج الدنيا من قلبه، وأقبل على شأنه، واختلى بربه.

حتى أراد الله إظهار شمسه، وإعلان مقداره بين الناس وفضله؛ فهرع إليه الناس أفواجا، وتزاحموا على مجالسه حتى ضاقت، ولم يعد يجد وقتا لشؤونه الخاصة بله غيرها، ثم إن أعيان مختلف البلاد أصبحوا يستدعونه، ويجمعون عليه مئات من أهل العلم من الدنيا، فتعقد له المجالس العامرة، مما يعتبر غرة في وجه الدهر، ومفخرة للمغرب بل لأهل العصر.

وممن يروي عنهم عدا من ذكرت: والده حافظ العصر، وعبد الستار الدهلوي الهندي، وشعيب الجليلي، وعبد القادر الشلبي، وعمر حمدان المحرسي، وأحمد العمراني، وحسين العراقي، وأمة الله الدهلوية، وبدر الدين الحسني، وزاهد الكوثري، وبخيت المطيعي، والصادق النيفر، وأحمد الشريف السنوسي، والملك إدريس السنوسي، وعلي العدلوني، وغيرهم من أعيان الوقت.

وقد دون الناس أخباره، وجمعوا أثباته؛ ومنهم: العالم المسند الباقعة؛ الشيخ محمد زياد التكلة؛ جمع له ثبتا بعنوان: “نيل الأماني، بفهرسة ميند العصر عبد الرحمن بن عبد الحي الكتاني”، والعالم المقرئ المسند، الدكتور محمد ححود التمسماني؛ جمع له عدة أثبات؛ منها: “أوائل مسند العصرالشيخ عبد الرحمن الكتاني”، و”أجود المسلسلات”، و”الأربعون المسلسلة بالأشراف”، و”أسانيد الشيخ عبد الرحمن الكتاني للفقه المالكي وكتبه”. كما جمع أخباره وحياته أخونا العالم البحاثة الشريف خالد بن المختار البداوي السباعي، وأخونا القاضي البحاثة نواف بن محمد بن عبد الله الرشيد.

وقد يسر الله تعالى، ورويت عنه عامة، وتحملت عنه مسلسلات السنوسي بأعمالها، والعديد من كتب الأوائل والأجزاء، كما قرأت عليه الأربعين العجلونية كاملة، وفيما بعد “الموطأ”، و”الأدب المفرد”، و”الشفا”، و”الشمائل” غيرما مرة، و”دلائل الخيرات”، و”البردة”، و”الهمزية”، و”الرسالة لابن أبي زيد”، و”المرشد المعين” لابن عاشر، و”عوارف المعارف”، و”مختصر البخاري” لابن أبي جمرة، وطرفا من صحيح البخاري، ونحو خمسمائة حديث من “سنن الترمذي”، وغير ذلك الكثير، وأذنني في الطريقة الكتانية المحمدية، والطريقة الكتانية الأحمدية، والطريقة الفتحية البنانية الدرقاوية، بحمد الله تعالى. وأجازني وزوجتي وأبنائي، وسائر آل الكتاني، وهو عمدتنا في الرواية، رحمه الله تعالى ورضي عنه.

هؤلاء من استحضرتهم في هذه العجالة، حقق الله نسبنا بهم، وجزاهم خير الجزاء على حسن ظنهم فينا، وإجازتهم، أجازهم الله تعالى إلى رضوانه الأكبر بمنه وكرمه.

وقد كان – رضي الله عنه ونفعنا بخدمته ومحبته – خادما لوالده الإمام، شديد البرور به، برور العبد مع سيده، ندر في الدنيا من بر أباه مثله، وكان يخرج معه للدعوة إلى الله تعالى الأشهر الطويلة، في مختلف المدن والبوادي والقرى والبلاد، ويحضر مجالسه الخاصة والعامة، ويحافظ على أسراره وأخباره في حياته وبعد مماته، قال لي مرة: عشت مع والدي خمسين عاما، وبعده خمسين عاما!. ويعتبر من رجال الدعوة إلى الله تعالى، الذين أمضوا عمرا في هداية الناس، وإرشادهم إلى دينهم، وتعليمهم أمور شريعتهم، يحسب له ذلك، خاصة في شبابه وكهولته.

وكان من أولياء الله الصالحين، المتخلقين بأخلاق الإسلام، المواظبين على أذكارهم وأورادهم وعباداتهم، لا يذكر أحدا بسوء، ولا يغتاب أحدا، ولا يؤذيه، زاهدا في الدنيا وما إليها، عف اللسان، كريم النفس، قليل الكلام، جل كلامه إيماء، دائم البشر والابتسامة والتواضع، لا يرى لنفسه مزية وهو مجمع المزايا، وكان يلقب في رسائل الأعلام لوالده الجليل بـ: “صاحب الوقت”؛ وما أرى إلا أنه كان كذلك، لما يظهر من حاله وسمته، وخدمته للإسلام والمسلمين، وبروره لوالده، وصبره على السنة ونشرها، فقد أنقذ الله أسانيد وطرقا بوجوده ومثابرته.
والحاصل؛ فهو إمام العصر، ومفخرة الوقت، قد شب به الإسلام على هرم، واستضاءت به الدنيا بعد ظلام، وانتعشت به سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد خمول وركود، وحق لمثله أن تنار المنائر، ويؤبن في بلاد الإسلام، وينعى على رؤوس الأشهاد، ويصلى عليه الغائب في المساجد الثلاث، ولولا الشريعة؛ لشقت عليه الجيوب، وندبت لأجله الخدود، ولطمت لفاجعته الالجباه، ولكن لا يسعنا إلا قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، فنصبر ونحتسب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب.

فحين تم بدره، واستقلت شمسه؛ آثره الله إليه، وقربه لديه، فكانت وفاته بعد أمراض تتابعت عليه سنين عديدة، كل واحدة منها كفيل بقتل القوي الأشم، غير أنه كان يقابلها بالصبر الكبير، وعدم الشكوى ولا الضجر، فتوفي ظهر يوم الثلاثاء، الحادي عشر من جمادى الأولى، عام 1444هـ، عن نحو ستة ومائة عام، فرحمه الله تعالى رحمة الأبرار، وعوض الأمة الإسلامية عن فقده خير عوض…

آخر اﻷخبار
2 تعليقان

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M