يومياتُ مُثقّف مقهور.. نصوص ساخرة

28 نوفمبر 2016 14:13
توقيف خطيب وإمام مسجد الإمام مسلم بأكادير لأنه يمارس الرياضة (صور)

هوية بريس – ربيع السملالي

على مسرح الحياة

كان الجوُّ صباحَ هذا اليوم مشرقًا، جميلا، استطاع أن يُخرجني من عُزلتي، كما دفعتني نسائمه الدّافئة إلى وضع الكتب جانبًا للتجوال قليلاً في شوارع المدينة، والاستمتاع ببعض حدائقها وأشجارها وأزهارها ومحلاّتها التّجارية، وبينا أنا كذلك أجرّ رجليّ بهدوء مستمتعا باللّحظة التي أحياها عن طيب خاطر وقعت عيني على كُتْبِيٍّ ينشر كتبًا ومجلّات على الرّصيف، يقوم بتنظيمها بنشاط لإغراء أمثالي من المجانين، وهو رجل طويل القامة، قمحيّ اللّون، مفتول العضلات غزا الشّيبُ رأسه في غير رفق، ومع ذلك يبدو كشابّ في الثّلاثين، ألقيتُ عليه التّحية بلطف فردّ عليّ بأحسن منها مع ابتسامة تدلّ على أنّ الرّجل قد ربح في هذا اليوم مالا جعله منشرحًا مسرورًا…

ألقيتُ نظرة على العناوين التي أغلبها مُقرصن، وحمّالة حطب، فرأيت كتابًا لأرسطو عنوانه: (الخَطابة) طبعة إفريقيا الشّرق، وكتابًا للرّوائي المغربي عليّ أفيلال (نساء باكيات) طبعة دال للنشر والتّوزيع.. سألته عن ثمنهما فأجابني باقتضاب والابتسامة لا تفارق محيّاه.. لم أساومه فثمنهما مناسب جدّا ووجهه بشوش يغريك بالكرم معه حتّى ولو كنت فقيرًا.. أخرجت من محفظتي الجلدية ورقة مُكمّشة من فئة خمسين درهم يظهر عليها أثر العِوز وضعتها في يده داعيا له بالخير والبركة، أمّن على دعائي ثمّ انهمك مرّة أخرى في تنظيم كتبه.. وضعت الكتابين في حقيبة صغيرة كنت أحملها معي وهي حقيبة جهاز فارغة، جميلة الشّكل متناسقة الألوان.. ثمّ انصرفت لإكمال هذه الجولة الرّائعة التي كُلّلت بكتابين لا يوجدان في مكتبتي..

عرّجت على مقهى (الخيمة) التي كنت في مطلع شبابي أرتادها، طلبتُ قهوة بالحليب، ووضعت رجلاً على رجل أطالع فهارس الكتابين ومقدّمتهما، وللحظة خِلتني بهذه الجلسة وهذا الانتشاء فارسًا من النّبلاء في رواية (الشّاعر سيرانو دي برجراك) للفرنسي إدموند روستان.. تعريب المنفلوطي.

وبعد أن اطمأنّت نفسي وتلذّذت بما شربت وقرأت، أرجعت الكتابين للحقيبة وانطلقتُ مع أذان الظّهر الذي رُفع عاليًا في سماء المدينة، أنْ حيّ على الفلاح، فقلت مُحدّثًا نفسي: لا فلاح لمن ترك الصلاة…

دخلتُ مسجدًا كبيرا وسط المدينة قريبًا من السّوق الأسبوعي، صلّيت ركعتين، وجلست أذكرُ اللهَ، منتظرًا دخول الإمام الذي لم يتأخّر كعادة بعض الأئمة -غفر الله لهم-.. أقيمت الصّلاة.. كبّر الإمام.. أسندتُ الحقيبة على سارية قائمة أمامي بشموخ، وبعد الرّفع من السّجود لم أجد إلاّ نفسي والصّفوف البشرية أمامي.. كِدت أجنّ اضطربت، ذهب الخشوع.. ربّاه سُرقت الحقيبة، لابدّ أنّ السارقَ جِنّ لا لا، الجنّ يخاف من أماكن العبادة وتلاوة القرآن.. تذكّرت فتوى شيخ كنت سألته: إذا رأيتُ لِصّا يسرق حذائي من أمامي وأنا في الصلاة، ماذا أفعل، قال اقطع صلاتك، وانتزع منه حذاءك وعد إلى الصّلاة من جديد.. لكنّني لم أر السّارق، كدت أخرج، قلبي يدقّ بألم………. انتهت الصّلاة اضطرب النّاس خمسة أحذية سُرقت وحقيبة يد لشابّ كان قبل لحظات يعيش في الجنّة، وكان يرى نفسه في المقهى نبيلا من نبلاء القرون الوسطى.. السّارقُ الأحمق اعتقد الحقيبة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب لصّ، لجمالها وأناقتها، فكيف سيكون موقفه حين يفتحها ولا يجد فيها إلا كتابين وقلمًا ودفترًا فيه خربشاتي الرّبيعية.. سيُصدم، وسيرمي الكتابين في أقرب حاوية للنّفايات، وسيبيع الحقيبة فارغة بأبخس ثمن..

جلستُ مستندًا إلى سارية من سواري المسجد، بعدما تعبت من خفقان قلبي، تسمّرت عيني على آية كبيرة رُسمت بإتقان فوقَ المحراب: (يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون).

مُدّت إليّ يد خشنة عليها آثار السّنين وأنا غارق في ذهولي، رفعت عيني إلى صاحبها، صافحته واساني بكلمات مقتضبة، ثمّ طلب إليّ أن أنصرف، إذ لم يبقَ في المسجد سواي، ويجب إقفاله، أحزنني أن يُقْفَل المسجد بهذه السرعة.. تذّكرت زمن الأسلاف الصّالحين حين كان المسجد دومًا الملجأ والمُلتحد والأمان للمسلمين… وقفتُ.. اعتذرتُ.. انصرفتُ غضبان أسفًا على حال أمّتي وحالي… ولساني يُردّد:

اللهمّ أجرِني في مصيبتي واخلُف لي خيرًا منها..

المرأة المطلّقة

هذا مساء رائع بنسماته العليلة وزخاته المطرية المنعشة وهوائه البارد، هذا ما رددته بيني وبين نفسي البارحة حين اقترب موعدُ صلاة المغرب.. ألقيتُ نظرة سريعة على الشّارع من نافذة غرفتي قبل أن أرتديَ ملابسي الثّقيلة وأعتمر قبّعة الكاوبوي التي أهداها إليّ عمّي قبل ثلاثة أيام، نزعتُ الشّاحنَ من هاتفي ووضعته في جيب بِنطالي، تأبّطتُ رواية (رأيت رام الله) وانصرفت بعدما سألت أمّ الأولاد هل تحتاج شيئا للعشاء، فطلبت إليّ أن أحضر معي بيضًا وزيتونًا ومسحوقًا للتنظيف لتسحق به أوساخي وأوساخ أبنائي في الصّباح الباكر..

خرجت ممتلئًا بالنّشاط والسّعادة.. سعادة مصدرها خبر مفرح تناهى إليّ عصرًا وأنا أحتسي كوبًا من قهوة باردة لم يرحمها الجَوُّ !..

صلّيتُ المغربَ بخشوع في مسجد حيّنا، ثمّ انطلقتُ تحتَ رذاذ المطر أردّد أذكار المساء بقلب مطمئنّ وعيني على هاتفي تنتظرُ رسالة غامضة من مجهول..

مررتُ بشارع أحمد الحنصالي بخطى متثاقلة فازداد هطول المطر، استمتعت به أوّلا إذ إنّه كان حديثَ عهد بربّه.. وبعدها هربت إلى محلّ مقفل لأتّقي بمظلّته الكبيرة الماء الذي كاد يفسد أوراق روايتي، وزجاجَ نظّارتي.. وجدت هناك امرأةً تعيش آخر سنوات عمرها، سفعاء الخدّين، عيناها فيهما أسرار قبيلة مهجورة، فعلت بها التّجاعيد ما فعلته بجدّتي قبل أن تموت.. هربتْ من المطر كما هربتُ، واتّقت بمظلّة المحلّ الماء كما اتّقيتُ.. ألقيتُ عليها التّحية ووقفتُ، لم أتبادلَ معها أيَّ حديث.. وبعد لحظات رمقني صديق قديم كان مجاورًا لبيتنا في مطلع الشّباب ونهاية عمر الطّفولة.. يبيع في عربة يد الرّائبَ البلدي، ناداني بصوت تاجر متمرّس.. رفعت يدي مسّلما بالإشارة، ألحّ عليّ أن أذهب إليه ففعلت، عانقني بعضلاته المفتولة بشدّة كما لو كنت إنسانًا ذا شأن وخطر.. أعطاني صندوقًا خشبيا فارغًا لأقتعده، تحت محلٍّ آخر قريب منه مظلّتُه أكبرُ من الآخر، قال أريدك في موضوع أخي ربيع.. قلتُ مرحبًا.. أحضر لي كأسًا من الرّائب شربتُ نصفه.. ثمّ دفعته إذ لم أطِق برودته..

قال: لي صديق عزيز سيقع في كارثة نصحته وأسرفت في النّصيحة ولم يقتنع، وأنا خائف عليه كثيرًا؟

قلت مستغربًا: ما خَطْبُه؟

قال: يريد الزوّاج من امرأة مُطلّقة…….. خرجتْ مع هذه الكلمة تنهيدات وزفرات وحسرات…

ارتسمت على ملامحي علامات من التّعجب والتّساؤلات ثمّ قلت: وما بها المرأة المُطلّقة، وهل الطّلاق أصبح شتيمة أو عارًا أو وَصْمَةَ على جبين المرأة التي قُدّر لها أن تنفصل عن رجل لم يلائمها، أو لم تلائمه…

قال: لا ولكن….

قلت: له دعنا من ولكن، فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم كان متزوّجا بنساء مطلقات والصّحابة الكرام والتّابعون والعلماء والزّهاد كان أكثرهم يتزوج المطلّقات والأرامل وهم القدوة والأسوة، ولا يرون أيّ عيب في ذلك.. فمالي أراك تردّد كلام الجهّال والغوغاء الهمج الرّعاع..

فاجأته بكلامي عقد بين حاجبيه ابتسم ابتسامة صفراء ثمّ قال صدقتَ أخي ربيع.. ولكن أليس الأولى أن يتزوّج بفتاة صغيرة عذراء تلاعبه ويلاعبها..

قلت مازحا: وهل المرأة الثّيب أو المُطلّقة ستلاكِمُه ويلاكمها.. ضحك مقهقها فاستدار بعض السّابلة إلينا مستغربين.. فأردفت: اسمع -هُديتَ- هو مخيّر إن شاء الزّواج بفتاة بكر فبها ونعمتْ وإن شاء الزّواج بمطلّقة فلابأس عليه، الأهمّ من كلّ ذلك هو أن تكون هذه المرأة المُطلّقة، وتلك الفتاة البكر ذات دين وأخلاق حسنة ومن قبيلة محترمة، و أسرة عاقلة متخلّقة بأخلاق الإسلام، وما سوى ذلك فاجعله تحت قدمك ودَبْر أذنك..

قال: جزاك الله خيرًا..

أذّن العشاء بصوت نديّ ذكّرني بالآخرة.. استأنفت مسيري بعدما ودّعته محاولا تذكّر تلك الكلمات التي كنت كتبتها وحشرتها في كتابي أفكار على ضفاف الانكسار:

(ما زالت شعوبنا الرّازحة تحت رحمة الجهل والتّخلف تنظرُ إلى المرأة المطلّقة نظرةً سلبية.. تنظر إليها بالعين التي هي عن كلّ خير كليلة، وكأنّ المسكينة جاءت شيئا نكرًا.. يكون وصمةَ عار على جبين بني قومها وأهلها.. وبسبب هذه النّظرات المحرقة، المجحفة تصبر كثير من النّساء على السّجن المظلم، والسلاسل والأغلال التي يطوّقهن بها الأزواج الفجَرة الملاعين الذين يمارسون ألوانا وأشكالاً من الإهانات والأخلاق الفاسدة على ضعفهن غير عابئين بقلوبهن النّازفة دمًا.. يصبرن على كلّ ذلك حتى لا يلحقهن ذاك الاسم المَهول الذي رسمه أبناء القبيلة بهالة من الوحشية في أعماقهن المنكسرة منذ زمن بعيد).

سيرة حمار

كلّفتني زوجي مرّةً بشراء ما يلزمنا للغذاء، صبيحة يوم مشرق الأديم عنبري النّسيم، فانطلقتُ نشيطًا كتلميذ مجتهد مهذّب يحبّ أن يأتي من الأمور ما يجعل ألسنة النّاس تنطلق بحمده !.. فمررت بمكتبة فاخرة دفعني الفضول لإلقاء نظرة على بعض عناوينها، واستراق النّظر إلى الفتاة الجميلة القائمة على شؤونها.. حتّى وإن كنت لا أملك ثمنًا لكتاب، ولا جمالا يغري هذه الفتاة !.. وبينا أنا أتسلّق بعيني الرّفوفَ والعناوين، جذبني عنوان (سيرة حمار) رواية لحسن أوريد المغربي فسال لعابي، وتصاعدت أنفاسي، وتحسّست جيبي الذي تنام فيه دراهمي المعدودة بفتور وكآبة، وقلبي يخفق بعنف، حائرًا، هل أشتري الكتاب، ونكتفي اليوم بأكلة متواضعة، أم ماذا، فرجّحت الأولى، واقتنيتُ الرّواية، ثمّ اشتريت بالباقي نصف كيلو من الفاصولياء اليابسة، وأخذت معي وردة حمراءَ اغتصبتُ عنفوانها من حديقة في طريقي، لأطيّب بها خاطر زوجي حتى لا تثور أمام رومانسيتي وحماقاتي، لكنها لم تفعل، تجاهلتني، أرسلت نظراتٍ حارقةً إلى وجهي المضطربة ملامحُه.. وهمهمات لا أعرف مضمونها، انتفخت منها الأوداجُ، واحمرّ منها الأنف، ويبست منها الشّفتان وقالت بأسف: كان يومًا أسودَ يوم معرفتي بك..!

يومياتُ مُثقّف مقهور.. نصوص ساخرة

ذ. ربيع السملالي

آخر اﻷخبار
2 تعليقان
  1. يوميات شيقة وجميلة لو خلت من هذه العبارة:
    “واستراق النّظر إلى الفتاة الجميلة القائمة على شؤونها.. حتّى وإن كنت لا أملك ثمنًا لكتاب، ولا جمالا يغري هذه الفتاة”
    أذكر أخينا الفاضل بقول الله تعالى:
    《قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون》
    《يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور》

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M