سبحان من أضحك وأبكى

09 سبتمبر 2015 17:56
سبحان من أضحك وأبكى

سبحان من أضحك وأبكى

د. بدر عبد الحميد هميسه

هوية بريس – الأربعاء 09 شتنبر 2015

قال تعالى: “وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى” (سورة النجم:43). فسبحان من خلق الضحك والبكاء، والسعادة والشقاء، والموت والإحياء؛ ولكل عجيبة سبحان الله.

قال الرازي في تفسير هذه الآيات: “هذه الآيات مثبتات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى، فإن من الفلاسفة من يعترف بأن الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول: هو موجب لا قادر، فقال تعالى: هو أوجد ضدين الضحك والبكاء في محل واحد والموت والحياة والذكورة والأنوثة في مادة واحدة، وإن ذلك لا يكون إلا من قادر واعترف به كل عاقل” (تفسير الرازي؛ 14/451).

وقال الطبري: “وقوله: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) يقول تعالى ذكره: وأن ربك هو أضحك أهل الجنة في الجنة بدخولهم إياها، وأبكى أهل النار في النار بدخولهم فيها، وأضحك من شاء من أهل الدنيا، وأبكى من أراد أن يبكيه منهم. (تفسير الطبري؛ 22/547).

وقال القرطبي: “وكان الحسن البصري رضي الله عنه ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك. وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى. وكان الصحابة يضحكون؛ إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة. وفي الخبر: (أن كثرته تميت القلب) وأما البكاء من خوف الله وعذابه وشدة عقابه فمحمود؛ قال عليه السلام: “ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت” خرجه ابن المبارك من حديث أنس وابن ماجة أيضا. (تفسير القرطبي؛ 8/271).

وقال البغوي: “وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر.

قال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء. (تفسير البغوي؛ 7/418).

وقال السمرقندي: “يعني: {أَضْحَكَ} أهل الجنة في الجنة. قال: {وأبكى} أهل النار في النار. ويقال: {أَضْحَكَ} في الدنيا أهل النعمة، {وأبكى} أهل الشدة، والمعصية. (تفسير بحر العلوم 4/215).

وقال ابن عادل: “أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء وقال بَسَّامُ بن عبد الله: أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم، وأنشد [رحمه الله]:

السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق***وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ

يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا***وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ

قيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات. وقيل: إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المَقْدِسيُّ: أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ؟ فقال: ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ. (تفسير اللباب 14/476).

وقال القشيري: “قوله جلّ ذكره: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}.

أراد به الضحك والبكاء المتعارَف عليهما بين الناس؛ فهو الذي يُجْريه ويَخْلُقُه.

ويقال: أضحك الأرضَ بالنباتِ، وأبكى السماءَ بالمطرِ.

ويقال: أضحكَ أهلَ الجنة بالجنة، وأبكى أهل النار بالنار.

ويقال: أضحك المؤمنَ في الآخرة وأبكاه في الدنيا، وأضحك الكافرَ في الدنيا وأبكاه في الآخرة.

ويقال: أضحكهم في الظاهر، وأبكاهم بقلوبهم.

ويقال: أضحك المؤمنَ في الآخرة بغفرانه، وأبكى الكافرَ بهوانه.

ويقال: أضحك قلوبَ العارِفِين بالرضا، وأبكى عيونهم بخوف الفراق.

ويقال: أضحكهم برحمته، وأبكى الأعداءَ بسخطه. (تفسير القشيري؛ 7/325).

وقال النسفي: “خلق الضحك والبكاء. وقيل: خلق الفرح والحزن. وقيل: أضحك المؤمنين في العقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب” (تفسير النسفي؛ 3/375).

وقال صاحب الظلال: “النص تكمن حقائق كثيرة. ومن خلاله تنبعث صور وظلال موحية مثيرة.. أضحك وأبكى.. فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء. وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي. والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء.

وأضحك وأبكى. فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء. وجعله – وفق أسرار معقدة فيه – يضحك لهذا ويبكي لهذا. وقد يضحك غداً مما أبكاه اليوم. ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس. في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة. والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على الحال! وأضحك وأبكى.. فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين. كل حسب المؤثرات الواقعة عليه. وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق. لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك.. وهو هو في ذاته. ولكنه بملابساته بعيد من بعيد! وأضحك وأبكى. من الأمر الواحد صاحبه نفسه. يضحك اليوم من الأمر ثم تواجهه عاقبته غداً أو جرائره فإذا هو باك. يتمنى أن لم يكن فعل وأن لم يكن ضحك وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة حيث لا ينفع البكاء! هذه الصور والظلال والمشاعر والأحوال.. وغيرها كثير تنبثق من خلال النص القصير، وتتراءى للحس والشعور. وتظل حشود منها تنبثق من خلاله كلما زاد رصيد النفس من التجارب؛ وكلما تجددت عوامل الضحك والبكاء في النفوس – وهذا هو الإعجاز في صورة من صوره الكثيرة في هذا القرآن. (تفسير الظلال؛ 7/65).

وقال السعدي: “{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي: هو الذي أوجد أسباب الضحك والبكاء، وهو الخير والشر، والفرح والسرور والهم [والحزن]، وهو سبحانه له الحكمة البالغة في ذلك” (تفسير السعدي 281).

وقال السيوطي في الدر المنثور: أخرج ابن مردوية عن عائشة قالت: مر رسول الله صلى الله عليه و سلم على قوم يضحكون فقال: “لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا فنزل عليه جبريل فقال: إن الله وأنه هو أضحك وأبكى فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال: ائت هؤلاء فقل لهم: “إن الله أضحك وأبكى”.

وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردوية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: “هبط آدم من الجنة بياقوتة بيضاء تمسح بها دموعه قال: وبكى آدم على الجنة أربعين عاما فقال له جبريل: يا آدم ما يبكيك إن الله بعثني إليك معزيا فضحك آدم فذلك قول الله “هو أضحك وأبكى”، فضحك آدم وضحكت ذريته وبكى آدم وبكت ذريته”.

وأخرج ابن أبي شيبة عن جبار الطائي قال: شهدت جنازة أم مصعب بن الزبير وفيها ابن عباس فسمعنا أصوات نوائح فقلت: عباس يصنع هذا وأنت ههنا ؟ فقال: دعنا عنك يا جبار فإن الله أضحك وأبكى. (تفسير الدر المنثور؛ 7/664).

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحَ، قَالَ: فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، قَالَ: فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ: فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالاِبْنِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَفَتَحَ“. أخرجه البخاري 1/97(349) و”مسلم” 1/102(334). و”النَّسائي” في “الكبرى” 310.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ. قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ بن عفان بِمَكَّةَ. قَالَ: فَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا. قَالَ: فَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَإِنِّى لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا. قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِى. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَهُوَ مُوَاجِهُهُ: أَلاَ تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ: فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ من شيء.أخرجه الحميدي (220) و”أحمد” 1/41(288) و”البُخَاريّ” 2/101 و”مسلم” 3/42.

فالله تعالى بحكمته وقدرته كما خلق الضحك قد خلق البكاء، ولكن شتان شتان بين ضحك المؤمن وبكائه وبين ضحك الكافر وبكائه.

فالمؤمن يضحك ثقة وحسن ظن بما أعد الله تعالى له، ويضحك سعادة وأنسا بإيمانه وحسن طاعته لربه، ويضحك بشاشة وإيناسا لقلوب الناس وتأليفهم، ويضحك ترويحا وإزاحة للهموم والغموم عن نفسه.

يقول أبو الفتح البستي:

أفد طبعك المكدود بالهم راحة***قليلا و علله بشيء من المزاح

لكن إذا أعطـيته المزح فليكـن***بمقدار ما تعطي الطعام الملح

وفي هذا قال الإمام علي رضي الله عنه: “إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة”، وقال: “روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي”!

ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: “إني لأستجم نفسي بالشيء من اللهو ليكون أقوي لها علي الحق”.

لذا فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأروع في الضحك الذي له فائدة، وله سبب، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي.

وفي رواية:مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ ضَحِكَ. أخرجه أحمد 4/358(19387) و4/359(19393) و”البُخَارِي” 4/79(3035) و8/29(6089).

عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ، وَرَجُلٌ يَتَتَرَّسُ، جَعَلَ يَقُولُ بِالتُّرْسِ هَكَذَا، فَوَضَعَهُ فَوْقَ أَنْفِهِ، ثُمَّ يَقُولُ هَكَذَا، يُسَفِّلُهُ بَعْدُ، قَالَ: فَأَهْوَيْتُ إِلَى كِنَانَتِى فَأَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا مُدَمًّا، فَوَضَعْتُهُ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا قَالَ هَكَذَا يُسَفِّلُ التُّرْسَ، رَمَيْتُ، فَمَا نَسِيتُ وَقْعَ الْقَدَحِ عَلَى كَذَا وَكَذَا مِنَ التُّرْسِ، قَالَ: وَسَقَطَ، فَقَالَ بِرِجْلِهِ، فَضَحِكَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَحْسِبُهُ قَالَ: حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: قُلْتُ: لِمَ ؟ قَالَ: لِفِعْلِ الرَّجُلِ.

– لفظ محمد بن عَبد الله الأنصاري: قَالَ سعد: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، ضَحِكَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. قَالَ: قُنتُ: كَيْفَ ؟ قَالَ: كَانَ رَجُل مَعَهُ تُرسْ، وَكَانَ سعد رَاميا، وكان يقول كَذَا وَكَذَا بالتّرسِ، يُغَظَي جَبهَتَهُ، فَنَزَعَ لَهُ سعد بِسَهمِ، فَلَما رَفَعَ رَأسَهُ رَمَاهُ، فَلم يُخْطِيء هذه منه، يعني جَبْهَتَهُ، وَأَنقَلَبَ وَشَالَ بِرِجلِهِ، فَضَحِكَ النبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. قُلْتُ: مِنْ أَيّ ضَحِكَ؟ قَالَ: مِنْ فِعلِهِ بِالرجُلِ. أخرجه أحمد (1/186) (1620) و”الترمذي)، في (الشمائل) 234.

وعنْ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِىُّ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا لأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ فَأُجِيبَ إِنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلاَ الظَّالِمَ فَإِنِّى آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ قَالَ أَىْ رَبِّ إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ تَبَسَّمَ فَقَالَ لَهُ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا فَمَا الَّذِى أَضْحَكَكَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ قَالَ إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِى وَغَفَرَ لأُمَّتِى أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ فأضحكني مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ. أخرجه أبو داود (5234).

عَنْ أَبِى أُمَامَةَ، قَالَ: ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ في السَّلاَسِلِ إِلَى الْجَنَّةِ. أخرجه أحمد 5/249(22500).

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ: رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا، وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي، أَوْ أَتَضْحَكُ بِي، وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. أخرجه أحمد 1/378(3595) والبُخاري( 8/146(6571) و”مسلم” 1/118(380) وابن ماجة (4339) و”التِّرمِذي” 2595.

عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: لَنْ نَعْدِمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا.أخرجه أحمد 4/11(16288) و”ابن ماجة”181.

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا، وَمَسَحَ برَأْسِهِ، وَظَهْرِ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: أَلاَ تَسْأَلُونِي عَمَّا أًضْحَكَنِي ؟ فَقَالُوا: مِمَّ ضَحِكْتَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِمَاءٍ، قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْبُقْعَةِ، فَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ: أَلاَ تَسْأَلُونِي مَا أَضْحَكَنِي؟ فَقَالُوا: مَا أَضْحَكَكَ، يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَعَا بِوَضُوءٍ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ خَطِيئَةٍ أَصَابَهَا بِوَجْهِهِ، فَإِذَا غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، كَانَ كَذَلِكَ، وَإِنْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، كَانَ كَذَلِكَ، وَإِذَا طَهَّرَ قَدَمَيْهِ، كَانَ كَذَلِكَ.

– وفي رواية: دَعَا عُثْمَانُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ: أَلاَ تَسْأَلُونِي مِمَّا أَضْحَكُ ؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَضْحَكَكَ ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأْتُ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ ثَلاَثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَظَهْرِ قَدَمَيْهِ. أخرجه أحمد (1/58) (415).

فالمؤمن يضحكه الله تعالى في الدنيا بالنعيم والإيمان والحياة الطيبة، قال تعالى: ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) سورة النحل.

ثم يبشر بالنعيم عند موته فيفارق الدنيا ضحكا مستبشرا، قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)” سورة فصلت.

عن أبي الدرداء قال: الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخلون الجنة وهم يضحكون. تقريب الزهد، لابن المبارك ص:397.

وكما أن الضحك للمؤمن مطلوب ومرغوب، إلا أنه في بعض الأوقات وفي بعض الأحوال لا يكون مطلوبا، وذلك إذا كان فيه سخرية واستهزاء بالناس، عَنْ أُمِّ مُوسَى، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ، أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ، فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَضْحَكُونَ ؟! لَرِجْلُ عَبْدِ اللهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ.

– وفي رواية: عَنْ أُمِّ مُوسَى، قَالَتْ: ذُكِرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْدَ عَلِيٍّ، فَذَكَرَ مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ ارْتَقَى مَرَّةً شَجَرَةً، أَرَادَ أَنْ يَجْتَنِي لأَصْحَابِهِ، فَضَحِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ دِقَّةِ سَاقِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَضْحَكُونَ ؟! فَلَهُوَ أَثْقَلُ فِي المِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ. أخرجه أحمد 1/114(920) و”البُخَارِي”، في “الأدب المفرد”237.

قال تعالي: (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) (الحجرات:11).

وكذا إذا كان فيه الكذب الذين نهينا عنه، عَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: إِنَّ الرجُلَ لَيَتَكَلمُ بِالْكَلِمَة، لاَ يُرِيدُ بِهَا بَأْسًا، إِلا لِيُضْحِكَ بِهَا الْقَوْمَ، وَإِنَّهُ لَيَقَعُ مِنْهَا أَبْعَدَ مِنَ اَلسمَاءِ. أخرجه أحمد 3/38(11351).

وعنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ، لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ. أخرجه أحمد 5/2(20270) و”الدارِمِي” 2702 و”أبو داود” 4990 و”التِّرمِذي” 2315.

وكذا إذا بعد بالإنسان عن تذكره للآخرة واستعداده لها، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس وهم يضحكون فقال أكثروا من ذكر هازم اللذات أحسبه قال فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ولا في سعة إلا ضيقه عليه. رواه البزار بإسناد حسن والبيهقي. صحيح الترغيب والترهيب 3/164.

ومن هنا كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الضحك وليس عن الضحك، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.

أخرجه أحمد (2/310، رقم 8081)، والترمذي (4/551، رقم 2305)، وقال: غريب، والبيهقى في شعب الإيمان (7/78، رقم:9543). قال الألباني في “السلسلة الصحيحة” 2/637؛ أخرجه الترمذي (2/50)، وأحمد (2/310) والخرائطي في “مكارم الأخلاق” قال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم: 100 في صحيح الجامع.

عن قتادة قال سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يضحكون قال نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال. رواه أبو نعيم في الحلية 1/311.

والمؤمن كما يضحك فهو أيضا يبكي، فهو يبكي خوفا من الله تعالى، قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)” سورة المؤمنون.

كما أنهم يبكون خشوعا وخضوعا لله رب العالمين، قال سبحانه: “وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا” (سورة الإسراء:109).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، عَلَى رَهُطٍ مِنْ أصْحَابِهِ يَضْحَكُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا. ثُمَّ انْصَرَفَ وَأبْكَى الْقَوْمَ. وَأوْحَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّد، لِمَ تُقَنِّطُ عِبَادِي ؟ فَرَجَعَ لنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَاربُوا. أخرجه أحمد 2/467(10030) و”البُخاري” في الأدب المفرد (254).

ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية من الله، عَنْ مُطَرِّفٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّى وَلِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ. أخرجه أحمد 4/25(16421) و”أبو داود” 904 والتِّرْمِذِيّ” في (الشمائل) 322 و”النَّسَائي” 3/13، وفي “الكبرى” 549 و1136.

عَنْ عَبْداللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: “فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا”، قَالَ: حَسْبُكَ الآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. أخرجه أحمد 1/380(3606) والبُخاري (6/57(4582) و(6/243(5055) و”مسلم” 2/195 (1817) و”أبو داود” 3668 و”التِّرمِذي” 3025، وفي “الشمائل”323.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا في اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ“. أخرجه أحمد 2/439(9663) و”البُخاري” 1/168(660) و”مسلم” 3/93 و”التِّرمِذي” 2391.

كما بكى صلى الله عليه وسلم شفقة ورحمة على أمته من دخول النار ومن غضب الجبار، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلاَ قَوْلَ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي إِبْرَاهِيمَ: “رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي” الآية. وَقَال عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: “إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي. أُمَّتِي، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلِّ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، فَسَألَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ، وَهُوَ أعْلَمً، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلاَنَسُؤُكَ. أخرجه مسلم 1/132؛ 419 و”النَّسائي” في “الكبرى”.

وبكى عمر رضي الله عنه شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى سَرِيرٍ، مُرْمَلٌ بِشَرِيطٍ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَدَخَلَ عُمَرُ، فَانْحَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْحِرَافَةً، فَلَمْ يَرَ عُمَرُ بَيْنَ جَنْبِهِ وَبَيْنَ الشَّرِيطِ ثَوْبًا، وَقَدْ أَثَّرَ الشَّرِيطُ بِجَنْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا يُبْكِيكَ يَا عُمَرُ ؟ قَالَ: وَاللهِ مَا أَبْكِي، إِلاَّ أَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّكَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَهُمَا يَعِيشَانِ فِي الدُّنْيَا فِيمَا يَعِيشَانِ فِيهِ، وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ بِالْمَكَانِ الَّذِى أَرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ ؟ قَالَ عُمَرُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ كَذَاكَ.أخرجه أحمد 3/139 (12444) و”البُخَارِي”، في (الأدب المفرد) 116.

قال رجل لابن المبارك: صف لي الوالهين بالله فقال: هم كما أقول لك:

مستوفدين على رحل كأنهم ركب***يريـدون أن يـمـضوا ويـنـتقـلوا

عفّت جوارحهم عن كل فاحشة***فالصّدق مذهبهم والخوف والوجل

وسئل عبد الله بن المبارك عن صفة الخائفين فقال:

إذا مـا اللـيـل أظـلـم كابـدوه***فيسـفـر عـنهـم وهـم ركـوع

أطار الخوف نومهـم فقاموا***وأهل الأمن في الدنيا هجوع

لهم تحت الظلام وهم سجود***أنـيـن منه تنفـرج الضلـوع

وخرس بالنهار لطول صمت***عليهم من سكينتهم خشوع

قال الشاعر:

نوح الحمام على الغصون شجاني***ورأى العذول صبابتي فبكاني

إن الحمام ينوح من خوف الـنـوى***وأنا أنـوح مخـافـة الرحـمـن

وهذا معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت وأنت؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان، قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا.

والمؤمن يبكي على انقطاع الوحي، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا. أخرجه مسلم 6400. و(ابن ماجة) 1635، وأحمد 3/212 (13247).

ويبكي على أن الدنيا قد أخذته، وأنه قد انشغل بها عن الآخرة، عن أنس؛ قال: اشتكى سلمان فعاده سعد. فرآه يبكي. فقال له سعد: ما يبكيك؟ يا أخي، أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس، أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من اثنتين. ما أبكي ضنا للدنيا ولا كراهية للآخرة. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا فما أراني إلا قد تعديت. قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إلي أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب. ولا أراني إلا قد تعديت. وأما أنت، يا سعد، فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همك إذا هممت. قال ثابت فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهما. أخرجه ابن ماجة (4104).

عنْ أَبِى حِسْبَةَ مُسْلِمُ بْنُ أُكَيْسٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ ذَكَرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ يَبْكِى فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ فَقَالَ نَبْكِى؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، ذَكَرَ يَوْمًا مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُفِيءُ عَلَيْهِمْ حَتَّى ذَكَرَ الشَّامَ فَقَالَ إِنْ يُنْسَأْ في أَجْلِكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ فَحَسْبُكَ مِنَ الْخَدَمِ ثَلاَثَةٌ خَادِمٌ يَخْدُمُكَ وَخَادِمٌ يُسَافِرُ مَعَكَ وَخَادِمٌ يَخْدُمُ أَهْلَكَ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَحَسْبُكَ مِنَ الدَّوَابِّ ثَلاَثَةٌ دَابَّةٌ لِرَحْلِكَ وَدَابَةٌ لِثَقَلِكَ وَدَابَةٌ لِغُلاَمِكَ. ثُمَّ هَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى بَيْتِي قَدِ امْتَلأَ رَقِيقًا وَأَنْظُرُ إِلَى مِرْبَطِي قَدِ امْتَلأَ دَوَابَّ وَخَيْلاً فَكَيْفَ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذَا وَقَدْ أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَىَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّى مَنْ لَقِيَنِي عَلَى مِثْلِ الحالِ الَّذِى فَارَقَنِي عَلَيْهَا. أخرجه أحمد 1/195(1696).

ويبكي على نفسه خوفا من الفتنة، نْ ذَكْوَانَ أبي صَالحٍ، أَنَّ عَائِشَةَ اخْبَرَتْهُ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا ابكي، فَقَالَ لي: مَا يُبْكِيكِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَكَرْتُ الدَّجَّالَ، فَبَكَيْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ وأنا حَيٌّ كَفَيْتُكُمُوهُ، وَإِنْ يَخْرُجِ الدَّجَّالُ بَعْدِى فَإِنَّ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِاعْوَرَ، إِنَّهُ يَخْرُجُ في يَهُودِيَّةِ اصْبَهَانَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَدِينَةَ فَيَنْزِلَ نَاحِيَتَهَا وَلَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أبواب عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكَانِ فَيَخْرُجَ إِلَيْهِ شِرَارُ أهلها حَتَّى الشَّامِ مَدِينَةٍ بِفِلَسْطِينَ بِبَابِ لُدٍّ، (وَقَالَ أبو دَاوُدَ مَرَّةً حَتَّى يَاْتِىَ فِلَسْطِينَ بَابَ لُدٍّ) فَيَنْزِلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقْتُلَهُ ثُمَّ يَمْكُثَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ في الأرض أربعين سَنَةً إِمَامًا عَدْلاً، وَحَكَمًا مُقْسِطًا. أخرجه أحمد 6/75.

ويبكي خوفا على نفسه من الوقوع في الشرك والمعصية، عَن شَدًادِ بن أَوسٍ، أَنَّهُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبكِيكَ قَالَ: شَيئاَ سَمِعتُهُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ، فَذَكَرتُهُ، فأبكاني، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَتَخَوفُ على أُمتِي الشركَ، وَالشَّهوَةَ الْخَفِيًةَ، قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ الله، أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِن بَعْدِكَ قَالَ: نَعَم، أَمَا إِنهُم لاَ يَعبُدُونَ شَمسًا، وَلاَ قَمَرا، وَلاَ حَجَراَ، وَلاَ وَثَنًا، وَلَكِن يُرَاؤُونَ بأَعمَالِهِمْ، وَالشهْوَةُ الْخَفِيةُ، أَن يُصبحَ أَحَدُهُم صَائِمًا فَتَعرِضُ لَهُ شَهوَة مِن شَهَوَاتِهِ، فَيترُكُ صَوْمَهُ. أخرجه أحمد 4/124 (17250).

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ. قَالَ: الْتَقَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَلَى الْمَرْوَةِ، فَتَحَدَّثَا، ثُمَّ مَضَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، وَبَقِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَبْكِي. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يًبْكِيكَ، يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ ؟ قَالَ: هَذَا، يَعْنِي عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ، مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. أخرجه أحمد 2/215 (7015).

ويبكي على حال المعصية وعلى حال أهل المعاصي، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ. أخرجه البُخَارِي 1/141(530).

وأما أهل الكفر والمعصية فإنهم أيضا يضحكون ويبكون، ولكن شتان بين ضحك وضحك وبكاء وبكاء، فأهل الكفر والمعصية يضكحون غفلة عن الله تعالى وعن غضبه ونقمته، ويضحكون استهزاء وسخرية بأهل الإيمان والطاعة، قال تعالى: “إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)” سورة المؤمنون.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} [المطففين/29-36].

ويضحكون سخرية واستهزاء بآيات الله تعالى، قال تعالى: “أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)” سورة النجم.

ويضحكون فرحا بالنعيم الزائل، قال تعالى: “إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)” سورة القصص.

ويضحكون ويفرحون بمخالفتهم لأمر الله وأمر رسوله، قال تعالى: “فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)” سورة التوبة.

وهذا الضحك الذي يضحكه أهل الفجور والمعاصي ليس ضحكا حقيقيا، لا ينبع من القلب ولا يرضى عنه الرب، بل إنهم يضحكون وقلوبهم تبكي، كان الحسن البصرى يقول: وإن هَمْلَجَت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه. ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه.. إغاثة اللهفان “2/188″، ومجموع الفتاوى “15/426”.

وكان الإمام أحمد يدعو: اللهم أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية.

قال بعض السلف في قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الحسن: هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، لأن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زاد غلب الصدأ حتى يصير راناً ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.

قال بعض السلف: «الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله».

وفي دعاء القنوت: إنه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت.

وقال عبد الله بن المبارك:

رأيت الذنوب تميت القلوب***وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب***وخير لنفسك عصيانها

وهل افسد الدين إلا الملوك***وأحبار سوء ورهبانها

وأهل المعاصي كما يضحكون فهم أيضا يبكيون، فهم يبكيون كذبا ونفاقا، قال تعالى: “وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)” سورة يوسف.

ويبكون أسفا وندما على ما قدموا، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً (29)} ( الفرقان).

وكان سبب نزول الآية ما أورده السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله عنه أن أبا معيط (عقبة ابن أبي معيط) كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه وكان رجلاً حليماً وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام فقالت قريش: صبأ أبو معيط وقدم خليله من الشام ليلاً، فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشد مما كان أمراً، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليله سوء فلما أصبح أتاه أبو معيط فحيّاه فلم يرد عليه التحية فقال: مالك لا ترد علىّ تحيتي ؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ فقال: أو قد فعلتها قريش!! قال: فما يبري صدورهم إن أنا فعلت؟ قال: تأتيه في مجلسه وتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم ففعل فلم يزد النبي أن مسح وجهه من البزاق ثم التفت إليه فقال: إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضربُ عنقك صبْراً، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبَى أن يخرج فقال له أصحابه: أُخرج معنا فقال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا فقالوا: لك جمل أحمر لا يُدْرَك فلو كانت الهزيمة طِر ْتَ عليه فخرج معهم، فلما انهزم المشركون وحَلَ به جمله في جُدَد من الأرض فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيراً في سبعين من قريش وقدم إليه أبو معيط فقال: تقتلني من بين هؤلاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم بما بزقتَ في وجهي فأنزل الله في أبي معيط: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ…إلى قوله تعالى: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} (الفرقان:27ـ 29).

ويبكون على المعاصي التي سودوا بها صحائفهم، قال تعالى: “أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)” سورة الانشقاق.

قال ابن عباس رضي الله عنه: “إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لسوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق”. ابن تيمية، منهاج السُّنة 1/ 269.

قال تعالى: “أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)” سورة الزمر.

ويبكون حينما يرون عذاب الله ويغمسون فيه، قال تعالى: “فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) سورة الذاريات.

وقال: ” فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)” سورة المعارج.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ فِي النَّارِ غَمْسَةً، فَيُغْمَسُ فِيهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلاَنُ، هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ، مَا أَصَابَنِي نَعِيمٌ قَطُّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلاَءً، فَيُقَالُ: اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً، فَيُقَالُ لَهُ: أَيْ فُلاَنُ، هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ ؟ أَوْ بَلاَءٌ ؟ فَيَقُولُ: مَا أَصَابَنِي قَطُّ ضُرٌّ وَلاَ بَلاَءٌ” أخرجه ابن ماجة (4321).

فسبحان من أضحك وأبكي، وسبحان من أمات وأحيا، اللهم اجعلنا من الذين يفرحون بالطاعات، ويبكون على المعاصي والسيئات.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M