حين تعتذرُ الضحيةُ للجلاّد

31 أكتوبر 2015 18:53
حين تعتذرُ الضحيةُ للجلاّد

حين تعتذرُ الضحيةُ للجلاّد

عبد العلي الودغيري

هوية بريس – السبت 31 أكتوبر 2015

انتشرت في الفترة الأخيرة موجةٌ من الكتابات والتصريحات التي تُمجِّد شخصية الماريشال ليوطي وتُشيد بأعماله ومُنجَزاته، وهو أول حاكم عام (سَمَّوه تلطيفاً: المقيمَ العام) بَسَطَ نفوذَ الاستعمارَ الفرنسي ومَهَّد له المغربَ تمهيداً من عام 1912 إلى 1926م.

فمن كتابٍ ظهر قبل ثلاث سنوات بعنوان: «الماريشال ليوطي المؤسِّس الأول للمغرب الحديث»، إلى تصريح خطير نُسِبَ لأحد المثقفين المحسوبين على اليسار تارة وعلى المخزن تارة أخرى ، قال فيه: «لو خُيِّرتُ بين موسى بن نُصير والماريشال ليوطي لاختَرتُ ليوطي».

وأخيراً صدر عدد جديد من مجلة مغربية تُعنَى بالشؤون التاريخية والثقافية، يتضمَّن ملفًا خاصاً عن دور ليوطي في تحديث المغرب وبنائه بناءً عصرياً، ومن بين صفحاته مقالٌ بعنوان: «ليوطي مؤسس الأصالة والمعاصرة».

في بلدان أخرى، يطلبُ الأحرارُ من الاستعمار أن يقدّم لهم اعتذاراً علَنياً عن المآسي والآلام والجٍراح التي سَبَّبَها لهم، وعن آلاف الشهداء الذين أزهَقَ أرواحَهم وسَفَكَ دماءَهم، وخَيْرات البلاد التي سَلبَها ونَهَبَها منهم، والإذلالَ الذي أَلحَقه بهم، والآثار السيِّئة التي ما تزال نُدوبُها واضحةً على أجسامهم ونفسياتهم ولغتهم وهويتهم… فضلاً عما أحدثَه من تفكيكٍ لوحدتهم وتمزيقٍ لكيانهم، وعَبَثٍ بخرائط بلادهم وتَزييف لتاريخهم… إلى غير ذلك مما لا يُحصى من مخلَّفات الاستعمار المعروفة.

لكن الجماعة التي عندنا، اختارت لنفسها أسلوباً معاكِساً. اختارت أن تكون هي المُبادِرة إلى طلب الاعتذار من الاستعمار وليس العكس. هل رأيتُم من قبلُ ضحيةً تطلب الصَّفح من جَلاّدها؟. هل رأيتُم مَذبوحاً كيف ينهض ويقول شعراًغَزَلياً في تَمجيد السيف الذي في قَبضة الذابِح؟ إذا لم يكن هذا قد حدَثَ في بلدٍ أو زمنٍ آخر، فها هو ذا اليوم يحدث في بلادنا لأول مرة. قاموا من تحت أقدام الاستعمار ليمجدِّوا فيه صفاتٍ لم يَجدوها في غيره: فهو الذي أدخل الكهرباء، ومَدَّ السِّكَك وعَبَّدَ الطُّرُق، وبنَى القناطِرَ والموانئَ، وجلَبَ الحضارة والثقافة، ونَمَّى الاقتصادَ.. الخ. ولولاه لكنا في زَمَن الغابرين، زمن الشموع والكهوف والخيام ورَعيِ الأغنام وسَوْقِ الجمال…الخ.

هذا هو منطق الاستعمار والاحتلال دائماً وعبر تاريخه الأسود كلِّه. دائماً يقدِّم نفسَه على أنه لا يأتي إلا شَفقَةً على المُستعمَر (بفتح الميم) ورحمةً به وتَعطُّفاً عليه. مرةً بدعوى إدخال الحضارة والحداثة، كما زعم الاستعمارُ الفرنسي والبريطاني القديم، ومرة بإدخال الديموقراطية، كما ادعى المحتلُّ الأمريكي الحديث، ومرةً لمحاربة الإرهاب كما يفعل الروسُ وسِواهُم ممن استباحُوا أرضَ العروبة والإسلام تحت ذرائع ومُبرِّرات سخيفة لا تختلف في كثير عن حُجّة الذئب التي قدَّمها للخروف :« إذا لم تكن أنتَ الذي فعلتَ كذا، فأبوكَ هو الفاعِل… ».

دائماً يُقدَّم الاستعمارُ نفسَه على أنه مشروعٌ خيري، ومَرفِقٌ إنساني … هذا مُرٌّ، وحَنظَلٌ وعَلقَمٌ. لكن الأمرَّ منه والأقسَى أن يَرتدي بعضُ بني جِلدتك جُبَّة المحامي ويُنَصِّب نفسَه مُدافعاً عن الاستعمار، مُدارِياً عن أخطائه ومُبرِّراً لمشروعه، ومُمَجداً لتاريخه ومُحوِّلاً صَفحاته الدموية إلى سِيرةٍ عَطِرة… بشيءٍ من المُعَطِّرات الرخيصة يُحاولون أن يَصرِفوا الأُنوفَ عن شَمِّ روائح الاستعمار الكريهة…

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M