التصوف السني بالمغرب؛ حقيقة أم خديعة؟! (ح5)

03 نوفمبر 2015 19:01
التصوف السني بالمغرب؛ حقيقة أم خديعة؟! (ح5)

التصوف السني بالمغرب؛ حقيقة أم خديعة؟! (ح5)

ذوالفقار بلعويدي

هوية بريس – الثلاثاء 03 نونبر 2015

الفرق والفناء والمعرفة ومقام الجمع في اصطلاح أهل التصوف

لقد مر بنا في المقال السابق قول أبي الفيض المنوفي الحسيني الصوفي: “وإذا فنى العبد عن الأغيار كملت معرفته لبقائه مع الحق…، وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد من التمكن شارف عين الجمع أي الحقيقة، وصار الجمع له حالا..”1.

ومما تجدر إليه الإشارة هو ما تضمنه هذا النص من تلك المصطلحات التي يكثر تداولها بين الصوفية، ويغلب عليهم استعمالها، كمصطلح الفناء والبقاء والجمع والمعرفة والحقيقة. وهي لا تختلف عن غيرها من المصطلحات المتداولة بينهم والخاصة بهم على اعتبارها ألغازا ورموزا وإشارات يصعب فهمها، وقد تم اختيارها عن قصد سترا لعقيدتهم وحفظا لسرهم وصونا لأنفسهم من غيرهم؛ كاصطلاحهم بـ: الشيخ المربي، وحامل السر، والشيخ الكامل، وصاحب الإذن، والعارف بالله، والشيخ الواصل، والفيض، والمعرفة، والارتقاء، والفرق، والفتح، والكشف، والوجد، والمشاهدة، والإحسان، والصحبة… إلى غير هذه المصطلحات التي تحتاج إلى وقفة بل وقفات. وذلك من أجل الوقوف على المراد الحقيقي منها وكشف معاني ألفاظها. وإلا وجد السالك نفسه تائها في وسط ركام من هذه المصطلحات يتخبط في ظلمائها. الشيء الذي يؤدي به إلى الشرود بعدما يجتاحه القلق وتعمره الوساوس والشكوك، لا يخلصه منها إلا إشراق نور الإيمان بالله وتوحيده. أما من فسدت فطرته، واستغلقت بصيرته، وتعطلت أجهزة الاستقبال والتلقي عنده، فهذا النوع لا يخلصه إلا التسليم وإسلاس عقله بإقناع نفسه أن كلام أرباب التصوف، حقائق وأسرار لا يعلمها إلا خاصة القوم وأصفياؤهم. وها أنت أيها القارئ جرب بنفسك وحاول أن تدرك حقيقة مدلول كلام المنوفي مثلا: “وإذا فنى العبد عن الأغيار كملت معرفته لبقائه مع الحق…، وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد من التمكن شارف عين الجمع أي الحقيقة، وصار الجمع له حالا..”.

فهل تساءلت أيها القارئ عن معنى فنى العبد؟ وعن مَنْ هم الأغيار؟ وكملت معرفته بماذا؟ وما معنى بقاؤه مع الحق؟ وما المقصود بالمعرفة وما هو حدها؟ وما معنى الجمع ؟ وما معنى صار له الجمع حالا؟

الأغيار جمع غير وهم الخلائق أو قل الخلق، فقوله: إذا فنى العبد عن الأغيار، أي إذا فنى العبد عن الخلائق أو الخلق. فما معنى إذن فنى العبد؟

تكلم الغزالي عن التوحيد ومراتبه وقسمه إلى أربع مراتب حيث قال: “للتوحيد أربع مراتب: ثم ذكر المراتب الثلاثة مرتبة إلى قوله: والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، وهي مشاهدة الصديقين. وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق”2.

تأمل معي قول الغزالي جيدا: الرائي لا يرى نفسه ولا يرى الخلق في حال فنائه؟!  

إذن فمن هو هذا الواحد الذي يراه الرائي في حال استغراقه في التوحيد إذا لم يكن هذا المرئي هو الرائي نفسه ولا هو الخلق؟

مع أنه إذا أخرجنا الخلق وأخرجنا الرائي الذي هو من جملة الخلق لم يبق إلا واحد، وهو الخالق فتنبه!

 لنبق مع الغزالي وهو يتحدث -إتماما للكلام- عن مقامات الموحدين ملحقا كل موحد منهم بمرتبته، حيث يصفه بقوله: ” الأول…، والثاني…، والثالث…، والرابع (أي ذاك الذي لا يرى في الوجود إلا واحدا) هو: موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير واحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد، هذه هي الغاية القصوى في التوحيد”3. إلى أن قال في تمام كلامه هو “من يشاهد سوى الواحد الحق”4.

يقول عبد القادر الجيلاني: “الفناء إعدام الخلائق…”5. أي أن الفناء هو حال تصير فيه الخلائق أي الأغيار في حق الفاني في حكم العدم. وهو عين قول الغزالي (أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، …، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق).

فقول المنوفي: “إذا فنى العبد عن الأغيار” أي إذا صارت في حقه في حال فنائه في حكم العدم بحيث لا يرى نفسه والخلق، “كملت معرفته لبقائه مع الحق” هكذا هو قول المنوفي، فما معنى هذه المعرفة وهي التي يستحق بها الصوفي أن يطلق عليه لقب العارف بالله؟

اسمع إلى عبد الكريم القشيري الصوفي وهو يقول: “وعند هؤلاء القوم، المعرفة صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته… ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله تعالى بجميل إقباله… وانقطع عن هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فإذا صار من الخلق أجنبيا، ومن آفات نفسه بريا… وصار محدثا من قبل الله سبحانه بتعريف أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره، ويسمى عند ذلك عارفا، و تسمى حالته معرفة6.

مر بنا في المقال السابق قول الغزالي: “العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان لهم هذه الحالة عرفانا علميا، ومنهم من سار له ذوقا وحالا، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، واستهوت فيها عقولهم فساروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم. فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكرا، وقع دونه سلطان عقولهم، فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شاني. وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله… وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز: اتحادا، وبلسان الحقيقة توحيدا”7.

سبق أن ذكرت لك أيها القارئ في المقال السابق أن صاحب قول: “أنا الحق” هو طيفور البسطامي.

وصاحب قول: “سبحاني ما أعظم شأني” هو أبو يزيد البسطامي.

وأن صاحب قول: “ما في الجبة إلا الله” هو الحلاج.

وهذا سيساعدك على فهم مراد الغزالي من قوله: (وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة)، حاول أن تمرن نفسك على فك الرموز الصوفية وكلماتهم المشفّرة فهي بمثابة أرقام سرية من لم يستطع اكتشافها حرم الوقوف على مراد القوم. على كل فقول الغزالي: (وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة)، وكذلك قوله (فلم يبق عندهم إلا الله )، لا يختلف مدوله عند المقارنة عن قول القشيري: “فإذا صار من الخلق أجنبيا”، وكذا قول المنوفي: “إذا فنى العبد عن الأغيار”، وكذلك قول الغزالي الأول: “أن لا يرى في الوجود إلا واحدا“، والتي هي كلها عين قول الجيلاني: “الفناء إعدام الخلائق…”.

ولكي تنكشف لك هنا زور دعوى تقسيم التصوف إلى سني وإشراقي، نأتي بقول أحد أقطاب التصوف الإشراقي الفلسفي، تماشيا مع تقسيم المخدوعين، وإلا فليس هناك تقسيم، إنما التفاوت الحاصل في تعبيرات المتصوفة، هو في درجة المكر والخداع.

نعم إنه الملقب بالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، اصغ إليه وهو يقول في بيان حال العارف: “العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء8 الحق أي الله.

ويقول أيضا: “فمن رأى الحق فيه بعينه فذلك العارف9 أي بعين الحق.

فأي فرق بالله عليكم بين قول ابن عربي وبين قول الغزالي والمنوفي والجيلاني والقشيري؟

فإذا كان الفناء في اصطلاح القوم هو فناء العبد عن الخلق، والمعرفة هي إدراك الفاني في حال فنائه ألا شيء في الوجود إلا الله، فإن العارف إذن هو من بلغ مرتبة أحدية الوجود، وصار اعتقاد ألا وجود حقيقي إلا وجوده بالذوق والمشاهدة اعتقادا له، وهذا يساعدنا على إدراك مدلول تمام قول المنوفي: “… وإذا وصل من المعرفة إلى هذا الحد من التمكن شارف عين الجمع أي الحقيقة، وصار الجمع له حالا..”، أي إذا بلغ العبد حد الاستغراق في الفردانية بإعدام الخلائق وعدم رؤية نفسه والخلق، شارف عين الجمع، وصار الجمع له حالا. فما معنى الجمع؟ وما المراد بالجمع في استعمال أهل التصوف؟

حاول أيها القارئ أن تمتحن مدى تمرسك على مصطلحات التصوف، وذلك بمقارنتك هذه النقول بعضها ببعض، فالآن بين يديك مدلول الفناء والمعرفة وقد سبق في المقال السابق الوقوف على مطلوبهم من لفظ “الحقيقة”. وهذه كلها تساعدك على إدراك حقيقة مرادهم.

تأمل مثلا قول الشاذلي: “ليكن الفرق في لسانك موجودا، والجمع في جنانك مشهودا”10.

وهذا الجنيد يقول: “قربه بالوجد الجمع، وغيبته في البشرية تفرقة11.

وحتى أختصر لك الطريق، اعلم أن “الفرق” أو “التفرقة” في تعريف الصوفية، هو حال شعور العبد بالفرق والتمييز بين الخالق والمخلوق، وهذا يكون قبل بلوغه مقام الفناء، وهو الحال الطبيعي الذي عليه جميع البشر ولهذا لا يسمى عند الصوفية مقاما. وهذا ظاهر من قول الشاذلي: “ليكن الفرق في لسانك موجودا”. ويشبهه قول الجنيد: “وغيبته في البشرية تفرقة“. أي عدم شعور العبد بحلول الرب فيه مع شعوره بوجود الخلق الذي هو عكس حال إعدام الخلائق، وهذا هو “الفرق” ويطلق عليه المتصوفة حال التمييز.

أما الجمع كما في كلام الشاذلي: “والجمع في جنانك مشهودا”، وكذا في قول الجنيد: “قربه بالوجد الجمع“، وتقدير قول الجنيد (قرب الله بوجد العبد جمع) والوجد هو الفناء والغيبة، ومعناه قرب الله من العبد الصوفي عند عدم شعوره بالخلق في حال فنائه وعدم رؤيته في الوجود إلا واحدا هذا جمع، وبهذا يصير الجمع له حالا.

أضف إليك قول أبي مدين الغوث المغربي تقريبا للصورة:” الجمع ما أسقط تفرقتك، ومحى إشاراتك…”12. التفرقة هي التمييز وأسقط تفرقتك أي نفى عنك التمييز، وهذا يكون في حال فنائك عن الأغيار. كما هو قول المنوفي: “إذا فنى العبد عن الأغيار”، ومما يضفي عليه وضوحا أبو سعيد الخراز في قوله: “معنى الجمع أنه أوجدهم نفسه في أنفسهم، بل أعدمهم وجودهم لأنفسهم عند وجودهم له”13. فقوله: “أوجدهم نفسه في أنفسهم” واضح المعنى فهو إشارة إلى الحلول، والذي يزيده بيانا هو قوله: “أعدمهم وجودهم لأنفسهم (بمعنى لم يبقى لهم وجود لعدم شعورهم بوجودهم) عند وجودهم له (أي في حال حلوله فيهم واتحاده بهم)”. فحالهم الذي هو حال الجمع، هو شعورهم في حال فنائهم بوجود الرب دون شعورهم بوجودهم ووجود الخلق.

فـ”الجمع” إذن، هو شعور العبد بصفات الرب بل تحققه بها في حال اضمحلال نفسه وفنائه عن وجوده، وهذا هو الفناء. بمعنى آخر “الجمع” هو شعور العبد في حال فنائه عن وجوده باتحاد الخلق والخالق في ذات واحدة. وفي هذا الحال تكون قد عاينت الجمع، أو كما عبر أبو الفيض “شارفت عن الجمع”، بمعنى أنك في حال الجمع لا تستطيع أن تميز بين كونك عبدا أو كونك ربا. وهذا المقام الذي هو مقام الجمع أو الفناء هو الذي يطلق عليه جهابذة وحدة الوجود مقام (نفي التمييز) أو (نفي الإثنينية) بمعنى أن الصوفية يعتقدون أنه في حال الجمع وفناء العبد ليس ثم عبد ورب وليس هناك اثنان إنما هو هو، أي أن العبد هو الله، والله هو العبد، تعالى الله عما يقول الصوفية علوا كبيرا. يقول ابن عربي:

فـقـال بيني و بين عـبدي***فـمـن رآه فـقـد رآنـــي

فلست غيرا له و لا هو***لوحدتي في الوجود ثاني14

وهذا الغزالي الحجة هو نفسه يقول:

وهل أنا إلا أنت ذاتا واحدة***و هل أنت إلا نفس عين هويتي15

وخلاصة الأمر أن الفرق: هو حال رؤية العبد الخلق مع غياب الحق.

والفناء: هو رؤية العبد للحق دون رؤيته لنفسه والخلق، وهذا حال الفاني عند مقام الجمع أو مقام السكر أو المشاهدة أو نفي التمييز أو نفي الإثنينية.. وكلها أسماء لمسمى واحد.

هناك مقام ثالث وهو مقام البقاء أو الإحسان وهو المشار إليه في قول المنوفي بقوله: “كملت معرفته لبقائه مع الحق” نرجئ النظر في مدلوله إلى الحلقة القادمة إن شاء الله، لكن المطلوب من القارئ قبل هذا كله، هو التركيز في قراءته لهذا المقال والذي قبله، لأننا متجهون نحو معرفة سر انقسام الصوفية بين مصرح معلن وبين كاتم مُلَوِّح. الشيء الذي دفع بعض المتسننة إلى تبني دعوى تقسيم التصوف إلى سني وفلسفي، ظنا خاطئا منهم أن الذي كتم ولَوَّح من أهل التصوف، ليس على عقيدة من أعلن وصرَّح.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) معالم الطريق إلى الله ص:260.

(2) حياء علوم الدين 4/326.

(3) إحياء علوم الدين 4/327.

(4) إحياء علوم الدين 4/327.

(5) فتوح الغيب ص:170.

(6) الرسالة القشيرية ص:242.

(7) مشكاة الأنوار ص:12 مجموعة رسائل الإمام الغزالي.

(8) الفصوص لابن عربي ص:192.

(9) الفصوص لابن عربي ص:195.

(10) بداية الطريق إلى مناهج التحقيق ص:65، وإيقاظ الهمم في شرح الحكم ص:389.

(11) اللمع للطوسي ص:284.

(12) أبو مدين الغوث ص:60 لعبد الحليم محمود.

(13) التعرف لمذهب التصوف ص:121، لأبي بكر محمد الكلابادي.

(14) الفتوحات المكية 3/535.

(15) معارج القدس ص:195.

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M